fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

إرضاءً لأوروبا.. تونس تزجّ بناشطي الهجرة في السجون وتتجاهل موت مهاجريها في سجون إيطاليا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يواجه ناشطو الهجرة السجن والتنكيل في تونس، يعيش المهاجرون التونسيون غير الشرعيين انتهاكات جسدية ونفسية يومية، في محتشدات الاعتقال والفرز والترحيل في إيطاليا، بعيداً عن أي حماية قانونية، وفي غياب تامّ للسلطات التونسية، بخاصة أن هناك من فقد حياته في ظروف غامضة، ورغم ذلك لم تُبادر الدولة التونسية للتحقيق في تلك الحوادث، ولا الضغط على الجانب الإيطالي للوقوف على ما يجري من انتهاكات بحقّ مواطنيها، ولا حتى تحمّل مسؤولية استعادة جثامينهم رغم نداءات أهاليهم واستغاثاتهم الدائمة بالسلطات التونسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عام 2023 تبنّى الرئيس التونسي قيس سعيّد، سردية تهديد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء الأمن القومي للبلاد، ومعها انطلق أولاً في مهاجمة المنظّمات المنتصرة لحقوق المهاجرين، ووصم الناشطين في هذا المجال بالخيانة والعمالة، ثم توجّه للزجّ بهم في السجون بتهم يثبت يومياً أنها كيدية، وليخطو بذلك على خطى الحكومات اليمينية الأوروبية، التي تتبنّى سياسة معادية لكلّ المنظّمات غير الحكومية المدافعة عن المهاجرين. 

في المقابل يعاني المهاجرون التونسيون غير النظاميين في مراكز الترحيل والسجون في إيطاليا، من انتهاكات خطيرة تصل إلى الموت والتعذيب والاغتصاب، في ظلّ صمت مُطبق للسلطات التونسية، التي تحاول التعتيم على مذكّرة التفاهم التي وقّعتها مع الاتحاد الأوروبي في تموز/ يوليو 2023، وقبلت بمقتضاها أن تكون حارساً لحدود أوروبا، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامة المهاجرين التونسيين في إيطاليا وسلامتهم وأمنهم، أو أصيلي جنوب الصحراء الإفريقية الموجودين في تونس.  

ما يزال أكثر من عشرة ناشطين عاملين في مجال الهجرة في تونس، أو ممن أصدروا تصريحاً على علاقة بالملفّ، يقبعون في السجون منذ أشهر طويلة، منذ أن انخرطت تونس في مقاربات غير متوازنة في ما يتعلّق بموضوع الهجرة، وتحوّل خطاب الكراهية والعنصرية من خطاب أفراد إلى خطاب رسمي، وإلى سياسة دولة تستهدف كلّ صوت مخالف لتوجّهاتها في هذا الملفّ، التي كان ضحيّتها أساساً الناشطين المدافعين عن حقوق المهاجرين، الذين يركّزون على العمل الميداني وتقديم خدمات إنسانية واجتماعية لفئات هشّة، بالتعاون مع مؤسّسات الدولة والوزارات المعنيّة وفي إطار اتّفاقات شراكة.

سعيد ضد المهاجرين

كانت البداية بصدور خطاب رسمي يُهاجم المهاجرين، وتحديداً بلاغ رئاسة الجمهورية التونسية في 21 شباط/ فبراير 2023، الذي تحدّث عن جحافل المهاجرين والترتيب الإجرامي لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد. أثار ذلك البلاغ موجة كراهية وعنصرية ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء والتونسيين ذوي البشرة السوداء. 

ولتجاوز هذا المأزق اختار الرئيس سعيّد شنّ هجوم على المنظّمات المهتمّة بملفّ الهجرة والناشطين فيها، وتحميلهم مسؤولية أزمة المهاجرين، واتّهامهم بالعمالة والخيانة. ففي 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، اتّهم جمعية من دون أن يسمّيها بتلقّي مليارات من الدينارات. وفي السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2023، وخلال لقائه وزيرة العدل قال الرئيس سعيّد إن “منظّمة لن أذكر اسمها تلقّت وحدها منذ سنة 2016، تمويلات من الخارج بقيمة سبعة ملايين دينار، بزعم أنها باسم المجتمع المدني. وهذه الجمعيات ما هي إلا امتداد للدوائر الاستخباراتية الأجنبية. لا بد من تطهير البلاد ووضع حدّ لهذا الوضع”. 

و في السادس من أيار/ مايو الماضي، عقد مجلس الأمن القومي اجتماعاً هاجم فيه الرئيس سعيّد الجمعيات، بقوله “هذه الجمعيات التي تتباكى وتذرف الدموع أمام وسائل الإعلام، تتلقّى أموالاً طائلة من الخارج. هذه الجمعيات أكثرها من الخونة والعملاء. وعلى لجنة التحاليل المالية أن تقوم بدورها، ولا مجال لجمعيات يمكن أن تحلّ محلّ الدولة”، وعقب هذا الهجوم انطلقت حملات توقيف واسعة طالت ناشطين مدافعين عن حقوق المهاجرين، تمّ الزجّ بهم في السجون منذ ذلك الحين حتى اليوم، رغم عدم ثبوت التهمة.

كانت رئيسة جمعية “منامتي” لمناهضة التمييز العنصري سعدية مصباح، التي تُعتبَر واحدة من أبرز المدافعات عن حقوق التونسيين/ات السود، ومناهضة العنصرية في البلاد، أوّل الناشطين الذين تمّ استهدافهم، وذلك في الثامن من أيار/ مايو 2024، أي بعد هجوم الرئيس التونسي بيوم فقط، وهي تقبع في السجن منذ أكثر من 320 يوماً، لتلتحق بها شريفة الرياحي الرئيسة السابقة لمنظّمة “تونس أرض اللجوء” في شبهة تبييض الأموال، وكانت الرياحي في إجازة أمومة عندما تمّ توقيفها، ومن المنظّمة نفسها (تونس أرض اللجوء) أُودع كلّ من محمد جوعو وعياض بوسالمي السجن خلال الشهر نفسه. 

وكانت الرياحي قد أرسلت مؤخراً رسالة من سجنها إلى الرأي العام التونسي، تحدّثت فيها عن المظلمة التي تعرّضت لها، فقط بسبب نشاطها المدني، بخاصّة حرمانها من طفليها، وعن هذا قالت “لم يكن سجني في حدّ ذاته أسوأ التجارب، بل كان أسوأها حرماني وطفليّ اللذين يبلغ أحدهما من العمر عاماً واحداً والآخر ثلاثة أعوام من زيارة مباشرة، حيث لم يُسمح لهما بزيارتي بشكل مباشر، مصحوبين بأحد أفراد عائلتي. كما تمّ حرماني من إرضاع طفلتي التي كانت لا تتجاوز الثلاثة أشهر وقت اعتقالي، وظلّ ارتباطي بابنتي وإرضاعها مشروطاً بوجودها معي في السجن، في حين أنني طلبت حلاً بسيطاً للغاية، يتمثّل في إرضاع ابنتي يومياً في غرفة مخصّصة، ثم إعادة تسليمها إلى أمي. إن إجراءات الزيارة المباشرة مع أطفالي كانت بطيئة ومعقّدة إلى درجة كبيرة، حتى يمكنني القول إنها تشبه عملية تعذيب للسجينات”.

وفي التاسع من أيار/ مايو الماضي، أُوقف مصطفى الجمالي رئيس “المجلس التونسي للاجئين”، بعد أن أطلق المجلس في إحدى الصحف إعلاناً طلب فيه عروض فنادق من أجل إيواء عدد من طالبي اللجوء واللاجئين، ومعه مدير المشاريع في المنظّمة عبد الرزاق الكريمي، بعد حملة تشهير واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووُجهت لهما تهمة تكوين وفاق قصد مساعدة شخص على دخول التراب التونسي من دون وثيقة سفر.

وبعد ذلك تتالت التوقيفات لتطال كل من عبد الله السعيد رئيس جمعية “أطفال القمر” في محافظة مدنين في الجنوب، الذي ما زال يقبع في السجن رغم سقوط التهم المتعلّقة بتبييض الأموال المودع بسببها. علماً أن السبب الحقيقي لسجنه هو تخصيص جمعيته نشاطاً لتعليم مهاجرات إفريقيات غير نظاميات من جنوب الصحراء الخياطة وصنع الحلويات، وحتى اليوم تجاوز عدد الناشطين السجناء العاملين في ملفّ الهجرة العشرة، آخرهم تمّ الزجّ به في السجن منذ أكثر من ثمانين يوماً.

تنسيق تونس- أوروبي

وفيما تواصل السلطات التونسية استهداف الناشطين لإيهام الرأي العام أن أزمة الهجرة المتفاقمة في البلاد سببها المنظّمات، والتعتيم على الاتّفاق الموقّع مع الجانب الأوروبي، الذي قبل بمقتضاه الرئيس سعيّد أن تكون تونس حارس حدود لأوروبا، ووافق بمقتضاه على تصدير الأزمة من إيطاليا إلى الأراضي التونسية، من دون توفير آليات ولا موارد مالية للتعامل الإنساني والجدّي مع الأزمة، التي باتت تهدّد تونس، وتضع مهاجري جنوب الصحراء في أوضاع إنسانية صعبة على كل الأصعدة، لا يتردّد قادة الدول الأوروبية بالثناء على جهود تونس في حراسة حدودها، وجنيهم ثمار الاتّفاق الموقّع معها. 

ففي وقت سابق قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إن عدد المهاجرين غير النظاميين القادمين من تونس إلى إيطاليا، انخفض بنسبة 80 في المئة منذ بداية سنة 2024، وحتى منتصف كانون الأول/ ديسمبر، وذلك مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023. كما أشادت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بانخفاض نسبة وصول المهاجرين إلى السواحل الإيطالية في عام 2024، بنسبة 60 في المئة مقارنة بالعام 2023، وبنسبة 30 في المئة مقارنة بالعام 2022، من دون أن تنسى القول إن الفضل في ذلك يعود إلى الاتّفاقيات التي تمّ توقيعها مع تونس ومصر.

هذا التوجّه الرسمي المعادي للجمعيات والمنظّمات التي تنشط في مساعدة المهاجرين في تونس، لا يبدو أنه سياسة ينتهجها النظام التونسي حصراً، إنما هو امتداد لسياسة قمعية تتراوح بين اعتقال الناشطين وقطع مصادر تمويل هذه الجمعيات والمنظّمات، وحتى تجميد نشاطها، وتقوده الحكومات اليمينية الأوروبية لوقف تدفّقات الهجرة، وقد بدا هذا الأمر واضحاً في تصريحات عدد من المسؤولين الأوروبيين الذين لم يتردّدوا في مهاجمة المنظّمات، تماماً كما يفعل الرئيس سعيّد.

ففي أحد خطاباتها شنّت ميلوني هجوماً على منظّمة “سي ووتش” غير الحكومية، قائلة “من المخزي أن تقوم المنظّمة بتعريف خفر السواحل بأنهم المتاجرون الحقيقيون بالبشر (…) فهم يريدون إعطاء الضوء الأخضر للمهرّبين الذين يصفونهم بالأبرياء (…) وهي تصريحات غير جديرة بالثقة، وتَحجب الدور الذي يلعبه بعض المنظّمات غير الحكومية ومسؤوليات من يموّلها”.

وسار على المنوال نفسه وزير الداخلية الفرنسي الجديد برونو ريتيو، الذي هاجم في مقابلة مع مجلة “لوفيغارو”، الجمعيات التي تساعد اللاجئين والمهاجرين في مراكز الاعتقال، والدعم المالي الذي تتلقّاه هذه المنظّمات من الدولة، مطالباً بأن يكون الدعم القانوني والاجتماعي، الذي تقدّمه هذه الجمعيات بيد الدولة حصراً، وهي خطوة يتطلّع من ورائها إلى تعديل الدور الرقابي الذي تلعبه الجمعيات في أماكن الاحتجاز، حتى يتسنّى القيام بعمليات ترحيل واسعة، قد تشمل حتى من يُجيز لهم القانون الفرنسي والأوروبي البقاء. 

ويحمل هذا الخطاب التخويني الصادر عن أكثر من مسؤول أوروبي والموجّه إلى المنظّمات العاملة في مجال الإنقاذ البحري، أو المدافعة عن المهاجرين، في طيّاته توجّهاً جدّياً من هذه الحكومات لجعل مسألة الهجرة شأناً محصوراً بين الحكومات وأجهزتها الأمنية، من دون أي تدخّل من جهات غير حكومية قد تكشف ما يجري من انتهاكات، أو قد تطالب بتعاطٍ إنساني مع المسألة والالتزام بالمواثيق والقوانين الدولية. كما أن هذا السعي لتحجيم دور هذه المنظّمات يهدف إلى حصر مشاكل الهجرة ضمن مقاربة أمنية، تستطيع بمقتضاها أوروبا تصدير أزمة الهجرة خارج حدودها، من دون الالتفات إلى عوامل هذه الظاهرة التي تتحمّل أوروبا جزءاً كبيراً من مسؤوليتها، وهو توجّه يبدو أنه يجد صداه بقوّة لدى الرئيس سعيّد.

انتهاكات في إيطاليا

وفيما يواجه ناشطو الهجرة السجن والتنكيل في تونس، يعيش المهاجرون التونسيون غير الشرعيين انتهاكات جسدية ونفسية يومية، في محتشدات الاعتقال والفرز والترحيل في إيطاليا، بعيداً عن أي حماية قانونية، وفي غياب تامّ للسلطات التونسية، بخاصة أن هناك من فقد حياته في ظروف غامضة، ورغم ذلك لم تُبادر الدولة التونسية للتحقيق في تلك الحوادث، ولا الضغط على الجانب الإيطالي للوقوف على ما يجري من انتهاكات بحقّ مواطنيها، ولا حتى تحمّل مسؤولية استعادة جثامينهم رغم نداءات أهاليهم واستغاثاتهم الدائمة بالسلطات التونسية.

وفي 15 آذار/ مارس الماضي، تمّ الإعلان عن وفاة مهاجر تونسي في أحد السجون الإيطالية، بعد أن عُثر عليه ميتاً في زنزانته، علماً أن وفاته كانت الحالة الثانية خلال أسبوع والثالثة منذ بداية السنة.   

وكان عدد من التقارير الصادرة عن بعض الناشطين والمنصّات الإعلامية في إيطاليا، قد أعلنت وفاة عشرة مهاجرين تونسيين على الأقلّ، داخل مراكز الاحتجاز في إيطاليا خلال سنة 2024، وقد تمّ تغليف وفاتهم جميعاً بالانتحار من طرف السلطات الإيطالية، والشركات التي تُدير مراكز الاحتجاز والترحيل، من دون التثبّت من حقيقة انتحارهم من عدمها. 

كما أكّد الناشط مجدي الكرباعي المهتمّ بملفّ الهجرة في إيطاليا توثيق وفاة 12 مهاجراً تونسياً سنة 2024، داخل السجون الإيطالية، وأن بعض هذه الوفيات جاءت نتيجة التعذيب الوحشي داخل السجون، والبعض الآخر نتج عن أخطاء طبية فادحة. إذ ثبت حسب المصدر نفسه أن أطباء وممرضين من غير ذوي الاختصاص، يقدّمون جرعات عشوائية من أدوية الأعصاب، تخلق اضطرابات صحية ونفسية خطيرة، تدفع بعض المهاجرين إلى محاولة الانتحار.

وكانت تقارير إيطالية قد أعلنت في وقت سابق، أنه في مراكز الترحيل لا يُعهَد بالرعاية الصحية إلى الأطباء، بل توكل إلى عمّال يوظّفهم مديرو المراكز، وأن المحتجزين تتمّ تهدئتهم من خلال الاستخدام الاعتباطي والمفرط للمؤثّرات العقلية، بل إن مديري المراكز يتعمّدون استخدام هذه العقاقير المخدّرة لأنها رخيصة مقارنة بالطعام الذي يحتاجه السجين. 

وحسب الكرباعي، فإن مراكز الاحتجاز في إيطاليا تشبه المعتقلات، وتجري داخلها أشكال مختلفة من الانتهاكات والفظاعات والممارسات العنصرية ضدّ المهاجرين، وقد تمّ توثيق عملية اغتصاب طفل قاصر في سجن الأحداث في ميلانو، على يد عدد من أعوان السجن سنة 2024، من دون أن يتمّ إنصافه قضائياً رغم مطالبة العائلة بتحقيق العدالة لابنها. 

ورغم فداحة هذه الأرقام وفظاعة التقارير والشهادات، تواصل السلطات التونسية الصمت وتجاهل ما يجري مع مواطنيها في إيطاليا، في تتمّة لالتزامها بتعهّداتها مع الجانب الأوروبي في ما يتعلّق بملفّ الهجرة، الذي لا يكترث حتى لأوضاع أبنائها، الذين ساقتهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة إلى طرق دروب الهجرة غير الشرعية، ويبدو أن الرئيس سعيّد لن يغيّر هذه السياسة، وسيواصل غضّ بصره عن كل تلك الانتهاكات، وصمّ أذنيه عن نداءات الأهالي، طالما أن الجانب الاوروبي يُثني على حراسته حدوده، ولا يُبدي أي انتقاد لسياسته رغم تضييقاته التي تطال كلّ صوت مخالف.

يُذكر أنه في أحدث إحصائية لمركز “ريستريتي أوروزونتي” الإيطالي للدراسات،  فقد  توفي 59 مهاجراً في السجون الإيطالية من بداية 2024 حتى منتصف آذار/ مارس من العام نفسه، بين الوفيات 25 حالة انتحار. 

وشهد العام 2023 وفاة 157 مهاجراً، من بينهم 69 حالة انتحار، بينما عرف العام 2022 أعلى حصيلة على الإطلاق منذ العام 1992، بـ171 حالة وفاة، منها 84 حالة انتحار.

12.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes

يواجه ناشطو الهجرة السجن والتنكيل في تونس، يعيش المهاجرون التونسيون غير الشرعيين انتهاكات جسدية ونفسية يومية، في محتشدات الاعتقال والفرز والترحيل في إيطاليا، بعيداً عن أي حماية قانونية، وفي غياب تامّ للسلطات التونسية، بخاصة أن هناك من فقد حياته في ظروف غامضة، ورغم ذلك لم تُبادر الدولة التونسية للتحقيق في تلك الحوادث، ولا الضغط على الجانب الإيطالي للوقوف على ما يجري من انتهاكات بحقّ مواطنيها، ولا حتى تحمّل مسؤولية استعادة جثامينهم رغم نداءات أهاليهم واستغاثاتهم الدائمة بالسلطات التونسية.

في عام 2023 تبنّى الرئيس التونسي قيس سعيّد، سردية تهديد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء الأمن القومي للبلاد، ومعها انطلق أولاً في مهاجمة المنظّمات المنتصرة لحقوق المهاجرين، ووصم الناشطين في هذا المجال بالخيانة والعمالة، ثم توجّه للزجّ بهم في السجون بتهم يثبت يومياً أنها كيدية، وليخطو بذلك على خطى الحكومات اليمينية الأوروبية، التي تتبنّى سياسة معادية لكلّ المنظّمات غير الحكومية المدافعة عن المهاجرين. 

في المقابل يعاني المهاجرون التونسيون غير النظاميين في مراكز الترحيل والسجون في إيطاليا، من انتهاكات خطيرة تصل إلى الموت والتعذيب والاغتصاب، في ظلّ صمت مُطبق للسلطات التونسية، التي تحاول التعتيم على مذكّرة التفاهم التي وقّعتها مع الاتحاد الأوروبي في تموز/ يوليو 2023، وقبلت بمقتضاها أن تكون حارساً لحدود أوروبا، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامة المهاجرين التونسيين في إيطاليا وسلامتهم وأمنهم، أو أصيلي جنوب الصحراء الإفريقية الموجودين في تونس.  

ما يزال أكثر من عشرة ناشطين عاملين في مجال الهجرة في تونس، أو ممن أصدروا تصريحاً على علاقة بالملفّ، يقبعون في السجون منذ أشهر طويلة، منذ أن انخرطت تونس في مقاربات غير متوازنة في ما يتعلّق بموضوع الهجرة، وتحوّل خطاب الكراهية والعنصرية من خطاب أفراد إلى خطاب رسمي، وإلى سياسة دولة تستهدف كلّ صوت مخالف لتوجّهاتها في هذا الملفّ، التي كان ضحيّتها أساساً الناشطين المدافعين عن حقوق المهاجرين، الذين يركّزون على العمل الميداني وتقديم خدمات إنسانية واجتماعية لفئات هشّة، بالتعاون مع مؤسّسات الدولة والوزارات المعنيّة وفي إطار اتّفاقات شراكة.

سعيد ضد المهاجرين

كانت البداية بصدور خطاب رسمي يُهاجم المهاجرين، وتحديداً بلاغ رئاسة الجمهورية التونسية في 21 شباط/ فبراير 2023، الذي تحدّث عن جحافل المهاجرين والترتيب الإجرامي لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد. أثار ذلك البلاغ موجة كراهية وعنصرية ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء والتونسيين ذوي البشرة السوداء. 

ولتجاوز هذا المأزق اختار الرئيس سعيّد شنّ هجوم على المنظّمات المهتمّة بملفّ الهجرة والناشطين فيها، وتحميلهم مسؤولية أزمة المهاجرين، واتّهامهم بالعمالة والخيانة. ففي 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، اتّهم جمعية من دون أن يسمّيها بتلقّي مليارات من الدينارات. وفي السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2023، وخلال لقائه وزيرة العدل قال الرئيس سعيّد إن “منظّمة لن أذكر اسمها تلقّت وحدها منذ سنة 2016، تمويلات من الخارج بقيمة سبعة ملايين دينار، بزعم أنها باسم المجتمع المدني. وهذه الجمعيات ما هي إلا امتداد للدوائر الاستخباراتية الأجنبية. لا بد من تطهير البلاد ووضع حدّ لهذا الوضع”. 

و في السادس من أيار/ مايو الماضي، عقد مجلس الأمن القومي اجتماعاً هاجم فيه الرئيس سعيّد الجمعيات، بقوله “هذه الجمعيات التي تتباكى وتذرف الدموع أمام وسائل الإعلام، تتلقّى أموالاً طائلة من الخارج. هذه الجمعيات أكثرها من الخونة والعملاء. وعلى لجنة التحاليل المالية أن تقوم بدورها، ولا مجال لجمعيات يمكن أن تحلّ محلّ الدولة”، وعقب هذا الهجوم انطلقت حملات توقيف واسعة طالت ناشطين مدافعين عن حقوق المهاجرين، تمّ الزجّ بهم في السجون منذ ذلك الحين حتى اليوم، رغم عدم ثبوت التهمة.

كانت رئيسة جمعية “منامتي” لمناهضة التمييز العنصري سعدية مصباح، التي تُعتبَر واحدة من أبرز المدافعات عن حقوق التونسيين/ات السود، ومناهضة العنصرية في البلاد، أوّل الناشطين الذين تمّ استهدافهم، وذلك في الثامن من أيار/ مايو 2024، أي بعد هجوم الرئيس التونسي بيوم فقط، وهي تقبع في السجن منذ أكثر من 320 يوماً، لتلتحق بها شريفة الرياحي الرئيسة السابقة لمنظّمة “تونس أرض اللجوء” في شبهة تبييض الأموال، وكانت الرياحي في إجازة أمومة عندما تمّ توقيفها، ومن المنظّمة نفسها (تونس أرض اللجوء) أُودع كلّ من محمد جوعو وعياض بوسالمي السجن خلال الشهر نفسه. 

وكانت الرياحي قد أرسلت مؤخراً رسالة من سجنها إلى الرأي العام التونسي، تحدّثت فيها عن المظلمة التي تعرّضت لها، فقط بسبب نشاطها المدني، بخاصّة حرمانها من طفليها، وعن هذا قالت “لم يكن سجني في حدّ ذاته أسوأ التجارب، بل كان أسوأها حرماني وطفليّ اللذين يبلغ أحدهما من العمر عاماً واحداً والآخر ثلاثة أعوام من زيارة مباشرة، حيث لم يُسمح لهما بزيارتي بشكل مباشر، مصحوبين بأحد أفراد عائلتي. كما تمّ حرماني من إرضاع طفلتي التي كانت لا تتجاوز الثلاثة أشهر وقت اعتقالي، وظلّ ارتباطي بابنتي وإرضاعها مشروطاً بوجودها معي في السجن، في حين أنني طلبت حلاً بسيطاً للغاية، يتمثّل في إرضاع ابنتي يومياً في غرفة مخصّصة، ثم إعادة تسليمها إلى أمي. إن إجراءات الزيارة المباشرة مع أطفالي كانت بطيئة ومعقّدة إلى درجة كبيرة، حتى يمكنني القول إنها تشبه عملية تعذيب للسجينات”.

وفي التاسع من أيار/ مايو الماضي، أُوقف مصطفى الجمالي رئيس “المجلس التونسي للاجئين”، بعد أن أطلق المجلس في إحدى الصحف إعلاناً طلب فيه عروض فنادق من أجل إيواء عدد من طالبي اللجوء واللاجئين، ومعه مدير المشاريع في المنظّمة عبد الرزاق الكريمي، بعد حملة تشهير واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووُجهت لهما تهمة تكوين وفاق قصد مساعدة شخص على دخول التراب التونسي من دون وثيقة سفر.

وبعد ذلك تتالت التوقيفات لتطال كل من عبد الله السعيد رئيس جمعية “أطفال القمر” في محافظة مدنين في الجنوب، الذي ما زال يقبع في السجن رغم سقوط التهم المتعلّقة بتبييض الأموال المودع بسببها. علماً أن السبب الحقيقي لسجنه هو تخصيص جمعيته نشاطاً لتعليم مهاجرات إفريقيات غير نظاميات من جنوب الصحراء الخياطة وصنع الحلويات، وحتى اليوم تجاوز عدد الناشطين السجناء العاملين في ملفّ الهجرة العشرة، آخرهم تمّ الزجّ به في السجن منذ أكثر من ثمانين يوماً.

تنسيق تونس- أوروبي

وفيما تواصل السلطات التونسية استهداف الناشطين لإيهام الرأي العام أن أزمة الهجرة المتفاقمة في البلاد سببها المنظّمات، والتعتيم على الاتّفاق الموقّع مع الجانب الأوروبي، الذي قبل بمقتضاه الرئيس سعيّد أن تكون تونس حارس حدود لأوروبا، ووافق بمقتضاه على تصدير الأزمة من إيطاليا إلى الأراضي التونسية، من دون توفير آليات ولا موارد مالية للتعامل الإنساني والجدّي مع الأزمة، التي باتت تهدّد تونس، وتضع مهاجري جنوب الصحراء في أوضاع إنسانية صعبة على كل الأصعدة، لا يتردّد قادة الدول الأوروبية بالثناء على جهود تونس في حراسة حدودها، وجنيهم ثمار الاتّفاق الموقّع معها. 

ففي وقت سابق قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إن عدد المهاجرين غير النظاميين القادمين من تونس إلى إيطاليا، انخفض بنسبة 80 في المئة منذ بداية سنة 2024، وحتى منتصف كانون الأول/ ديسمبر، وذلك مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023. كما أشادت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بانخفاض نسبة وصول المهاجرين إلى السواحل الإيطالية في عام 2024، بنسبة 60 في المئة مقارنة بالعام 2023، وبنسبة 30 في المئة مقارنة بالعام 2022، من دون أن تنسى القول إن الفضل في ذلك يعود إلى الاتّفاقيات التي تمّ توقيعها مع تونس ومصر.

هذا التوجّه الرسمي المعادي للجمعيات والمنظّمات التي تنشط في مساعدة المهاجرين في تونس، لا يبدو أنه سياسة ينتهجها النظام التونسي حصراً، إنما هو امتداد لسياسة قمعية تتراوح بين اعتقال الناشطين وقطع مصادر تمويل هذه الجمعيات والمنظّمات، وحتى تجميد نشاطها، وتقوده الحكومات اليمينية الأوروبية لوقف تدفّقات الهجرة، وقد بدا هذا الأمر واضحاً في تصريحات عدد من المسؤولين الأوروبيين الذين لم يتردّدوا في مهاجمة المنظّمات، تماماً كما يفعل الرئيس سعيّد.

ففي أحد خطاباتها شنّت ميلوني هجوماً على منظّمة “سي ووتش” غير الحكومية، قائلة “من المخزي أن تقوم المنظّمة بتعريف خفر السواحل بأنهم المتاجرون الحقيقيون بالبشر (…) فهم يريدون إعطاء الضوء الأخضر للمهرّبين الذين يصفونهم بالأبرياء (…) وهي تصريحات غير جديرة بالثقة، وتَحجب الدور الذي يلعبه بعض المنظّمات غير الحكومية ومسؤوليات من يموّلها”.

وسار على المنوال نفسه وزير الداخلية الفرنسي الجديد برونو ريتيو، الذي هاجم في مقابلة مع مجلة “لوفيغارو”، الجمعيات التي تساعد اللاجئين والمهاجرين في مراكز الاعتقال، والدعم المالي الذي تتلقّاه هذه المنظّمات من الدولة، مطالباً بأن يكون الدعم القانوني والاجتماعي، الذي تقدّمه هذه الجمعيات بيد الدولة حصراً، وهي خطوة يتطلّع من ورائها إلى تعديل الدور الرقابي الذي تلعبه الجمعيات في أماكن الاحتجاز، حتى يتسنّى القيام بعمليات ترحيل واسعة، قد تشمل حتى من يُجيز لهم القانون الفرنسي والأوروبي البقاء. 

ويحمل هذا الخطاب التخويني الصادر عن أكثر من مسؤول أوروبي والموجّه إلى المنظّمات العاملة في مجال الإنقاذ البحري، أو المدافعة عن المهاجرين، في طيّاته توجّهاً جدّياً من هذه الحكومات لجعل مسألة الهجرة شأناً محصوراً بين الحكومات وأجهزتها الأمنية، من دون أي تدخّل من جهات غير حكومية قد تكشف ما يجري من انتهاكات، أو قد تطالب بتعاطٍ إنساني مع المسألة والالتزام بالمواثيق والقوانين الدولية. كما أن هذا السعي لتحجيم دور هذه المنظّمات يهدف إلى حصر مشاكل الهجرة ضمن مقاربة أمنية، تستطيع بمقتضاها أوروبا تصدير أزمة الهجرة خارج حدودها، من دون الالتفات إلى عوامل هذه الظاهرة التي تتحمّل أوروبا جزءاً كبيراً من مسؤوليتها، وهو توجّه يبدو أنه يجد صداه بقوّة لدى الرئيس سعيّد.

انتهاكات في إيطاليا

وفيما يواجه ناشطو الهجرة السجن والتنكيل في تونس، يعيش المهاجرون التونسيون غير الشرعيين انتهاكات جسدية ونفسية يومية، في محتشدات الاعتقال والفرز والترحيل في إيطاليا، بعيداً عن أي حماية قانونية، وفي غياب تامّ للسلطات التونسية، بخاصة أن هناك من فقد حياته في ظروف غامضة، ورغم ذلك لم تُبادر الدولة التونسية للتحقيق في تلك الحوادث، ولا الضغط على الجانب الإيطالي للوقوف على ما يجري من انتهاكات بحقّ مواطنيها، ولا حتى تحمّل مسؤولية استعادة جثامينهم رغم نداءات أهاليهم واستغاثاتهم الدائمة بالسلطات التونسية.

وفي 15 آذار/ مارس الماضي، تمّ الإعلان عن وفاة مهاجر تونسي في أحد السجون الإيطالية، بعد أن عُثر عليه ميتاً في زنزانته، علماً أن وفاته كانت الحالة الثانية خلال أسبوع والثالثة منذ بداية السنة.   

وكان عدد من التقارير الصادرة عن بعض الناشطين والمنصّات الإعلامية في إيطاليا، قد أعلنت وفاة عشرة مهاجرين تونسيين على الأقلّ، داخل مراكز الاحتجاز في إيطاليا خلال سنة 2024، وقد تمّ تغليف وفاتهم جميعاً بالانتحار من طرف السلطات الإيطالية، والشركات التي تُدير مراكز الاحتجاز والترحيل، من دون التثبّت من حقيقة انتحارهم من عدمها. 

كما أكّد الناشط مجدي الكرباعي المهتمّ بملفّ الهجرة في إيطاليا توثيق وفاة 12 مهاجراً تونسياً سنة 2024، داخل السجون الإيطالية، وأن بعض هذه الوفيات جاءت نتيجة التعذيب الوحشي داخل السجون، والبعض الآخر نتج عن أخطاء طبية فادحة. إذ ثبت حسب المصدر نفسه أن أطباء وممرضين من غير ذوي الاختصاص، يقدّمون جرعات عشوائية من أدوية الأعصاب، تخلق اضطرابات صحية ونفسية خطيرة، تدفع بعض المهاجرين إلى محاولة الانتحار.

وكانت تقارير إيطالية قد أعلنت في وقت سابق، أنه في مراكز الترحيل لا يُعهَد بالرعاية الصحية إلى الأطباء، بل توكل إلى عمّال يوظّفهم مديرو المراكز، وأن المحتجزين تتمّ تهدئتهم من خلال الاستخدام الاعتباطي والمفرط للمؤثّرات العقلية، بل إن مديري المراكز يتعمّدون استخدام هذه العقاقير المخدّرة لأنها رخيصة مقارنة بالطعام الذي يحتاجه السجين. 

وحسب الكرباعي، فإن مراكز الاحتجاز في إيطاليا تشبه المعتقلات، وتجري داخلها أشكال مختلفة من الانتهاكات والفظاعات والممارسات العنصرية ضدّ المهاجرين، وقد تمّ توثيق عملية اغتصاب طفل قاصر في سجن الأحداث في ميلانو، على يد عدد من أعوان السجن سنة 2024، من دون أن يتمّ إنصافه قضائياً رغم مطالبة العائلة بتحقيق العدالة لابنها. 

ورغم فداحة هذه الأرقام وفظاعة التقارير والشهادات، تواصل السلطات التونسية الصمت وتجاهل ما يجري مع مواطنيها في إيطاليا، في تتمّة لالتزامها بتعهّداتها مع الجانب الأوروبي في ما يتعلّق بملفّ الهجرة، الذي لا يكترث حتى لأوضاع أبنائها، الذين ساقتهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة إلى طرق دروب الهجرة غير الشرعية، ويبدو أن الرئيس سعيّد لن يغيّر هذه السياسة، وسيواصل غضّ بصره عن كل تلك الانتهاكات، وصمّ أذنيه عن نداءات الأهالي، طالما أن الجانب الاوروبي يُثني على حراسته حدوده، ولا يُبدي أي انتقاد لسياسته رغم تضييقاته التي تطال كلّ صوت مخالف.

يُذكر أنه في أحدث إحصائية لمركز “ريستريتي أوروزونتي” الإيطالي للدراسات،  فقد  توفي 59 مهاجراً في السجون الإيطالية من بداية 2024 حتى منتصف آذار/ مارس من العام نفسه، بين الوفيات 25 حالة انتحار. 

وشهد العام 2023 وفاة 157 مهاجراً، من بينهم 69 حالة انتحار، بينما عرف العام 2022 أعلى حصيلة على الإطلاق منذ العام 1992، بـ171 حالة وفاة، منها 84 حالة انتحار.

12.04.2025
زمن القراءة: 8 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية