تعتمد الجيوش في معاركها على الحرب النفسية كأحد أساليب المواجهة، ويأتي التدمير المباشر أو غير المباشر للتراث والآثار ضمن هذا الإطار. وما نشهده في لبنان منذ أكثر من سنة حتى الآن، يندرج ضمن حرب نفسية مستمرة، حيث يتم تدمير قرى وأحياء بأكملها بطرق استعراضية أحياناً، وأمام كاميرات البث المباشر لعدد كبير من القنوات العربية والأجنبية.
تطورت الأعمال الحربية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في عدوانه على لبنان إلى حرب شاملة، زُجّ فيها لبنان الرسمي من قبل “حزب الله” في “حرب الإسناد” لـجبهة غزة. وقد توسعت رقعة الحرب لتشمل معظم المناطق اللبنانية، مع اعتداءات مركزة على الجنوب، والبقاع، وبعلبك- الهرمل، وبيروت.
حتى اليوم، من الصعب تقدير حجم الدمار والخسائر بسبب خطورة الوضع وصعوبة الوصول إلى معظم المناطق المستهدفة. إلا أن بعض التقارير الإخبارية والصور والفيديوهات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي تعطينا فكرة عن تدمير أحياء تراثية في النبطية، وسقوط جدار في قلعة تبنين، وتدمير مزارات وكنائس ومساجد في مناطق عدة جنوبية، وتهديد مستمر لمواقع أثرية مهمة مثل قلعة بعلبك، موقعي صور (البص والميناء) قبة دوريس وغيرها.
تجدر الإشارة إلى أن بعض هذه المواقع، كصور وبعلبك، مسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، ومحمية بموجب اتفاقيات وقوانين دولية.
تدمير التراث وزعزعة النسيج الاجتماعي
يُعتبر هذا التدمير المباشر أو غير المباشر الجزئي أو الكلي للمواقع التراثية والتاريخية جزءاً من الحرب النفسية، الهادفة إلى زعزعة المعنويات ودفع “العدو” نحو اليأس والإحساس بالعجز أمام مشهد الدمار.
كما تهدف هذه الضربات إلى زعزعة النسيج الاجتماعي للقرى والمدن والأحياء الشعبية من خلال ضرب البنية المادية التي تعزز شعور الانتماء للمكان عبر إزالة الشواهد المادية من بيوت جميلة ومحال ومعالم تربط الإنسان بالأرض التي تحتضن كل ذكرياته وذكريات أجداده وأصدقائه.
مجموع هذه المعالم التاريخية والأثرية على اختلاف الحقبات والحضارات متصل بالذاكرة الجماعية للشعوب ويشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية الأفراد والمواطنين.
هذه الهوية الوطنية تلعب دوراً أساسياً في تعزيز الإحساس بالانتماء إلى وطن واحد والإيمان بقضية واحدة وطنية وتساهم في توطيد أواصر الانصهار الاجتماعي والوطني بين مختلف مكونات لبنان. هكذا انصهار يساعد في تبديد الفروقات الثقافية الاجتماعية التي غالبا ما تُصبغ بطابع طائفي مذهبي ويتم استغلالها من قبل الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة بهدف تعزيز الانقسامات بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني.
وقد دأبت الحكومات المتعاقبة على لبنان منذ سنوات والطبقة السياسية المهترئة كلها على استغلال هذه الاختلافات الثقافية لتفريق اللبنانيين وحصر هويتهم الغنية والمتنوعة بالهوية الدينية، المذهبية، القبلية أو حتى المناطقية بهدف استغلالها لاحقاً في زرع الفتن ضمن سياسة “فرّق تسد”.
لم يكن ليصبح هذا الواقع المأساوي ممكناً لولا تقويض سلطة الدولة بمؤسساتها الحكومية والأمنية كافة من قبل قوى المافيا والميليشيا المسيطرة على مفاصل الدولة اللبنانية، التي تعرقل بناء دولة قوية وعادلة يحكمها الدستور والقوانين. دولة قادرة على مواجهة الاعتداءات، وحماية أراضيها، ودعم صمود أهلها، وصون الهوية التاريخية المتجذرة في هذه الأرض منذ آلاف السنين. هذا التدمير الممنهج لمؤسسات الدولة أوصل لبنان إلى حالة من الفوضى، مع تشريد أكثر من مليون لبناني من منازلهم، وتقصير الحكومة في توفير مراكز إيواء تحترم كرامتهم وكرامة أبنائهم.
إقرأوا أيضاً:
لا خطة طوارئ لحماية التراث في لبنان !
السياسات العشوائية التي تسيطر على القطاعات الاجتماعية والصحية تُلقي بظلالها على القطاع الثقافي، حيث تغيب أي خطة طوارئ تُعنى بتقييم المخاطر، وتحديد أولويات حماية المواقع التراثية والتاريخية والأثرية والمجموعات المتحفية. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو غياب الشفافية والمحاسبة في إدارة هذه الملفات من قبل الجهات الحكومية، إذ تكتفي الجهات المسؤولة بتبادل التهم والتخلي عن المسؤوليات.
وبما أن التراث والآثار ملك لجميع اللبنانيين، فإن الاطلاع على التطورات في هذا القطاع ومساءلة المسؤولين حق أصيل لهم. ومع ذلك، تواصل المديرية العامة للآثار سياسة إخفاء المعلومات، متجاهلة أهمية إبلاغ اللبنانيين بحجم الأضرار التي لحقت بالمواقع والمتاحف نتيجة القصف. علما أن الاعتداءات مستمرة منذ أكثر من سنة، ولم تتحرك وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار لمحاولة تقييم الأخطار وتحديد الأولويات والدفع باتجاه خطة طوارئ ثقافية تشمل المواقع التاريخية والأثرية كلها بالإضافة إلى المتاحف المختلفة.
هكذا خطة، لو طبقت، كان بالإمكان تفادي جزء من الضرر وإبعاد الخطر الواقع اليوم من خلال تدعيم أساسات المواقع الهشة، نقل مجموعات المواقع والمتاحف إلى أماكن أكثر أماناً، إنشاء فرق عمل في مناطق مختلفة لحماية المواقع والمتاحف والتدخل في حالات الضرورة لتدعيم أي معلم أو العمل على حفظ وإنقاذ المجموعات الأثرية.
وخلال العام الماضي، أثار وزير الثقافة محمد مرتضى، الجدل بإطلاقه مواقف عدة وفتح جبهات مختلفة، من دون أن يولي حماية التراث والآثار الأولوية، برغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. لم يتوقف تقاعس الوزير عند عدم أداء مهامه الأساسية، بل شمل أيضاً إزالته لشعار “الدرع الأزرق” الذي يحمي موقع بعلبك في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بحجة اعتراضه على المجزرة الواقعة في غزة و تقاعس المنظمات الدولية عن تقديم الحماية لأي من المواقع هناك. لكنه عاد قبل أسابيع قليلة وطلب مساعدة اليونسكو لحماية الموقع نفسه بعد اعتداء إسرائيلي جديد على محيطه في 6 تشرين الأول/ أكتوبر. يعكس أداء وزير الثقافة، المقرب من الثنائي الممانع، أزمة الثقافة في لبنان بأكملها، حيث باتت الوزارة خاضعة لأهواء وزيرها وانتمائه السياسي أولًا، لا لمصلحة الثقافة الوطنية.
تشويه الهوية الوطنيّة اللبنانيّة
في نهاية هذا العرض، يتضح أن أعداء لبنان ليسوا فقط قوى خارجية، بل أيضاً عناصر داخلية تتجسد في كل شخص أو كيان يساهم في تقويض الهوية الوطنية الجامعة، وتهميش دور الدولة لصالح نفوذ الفئات الطائفية أو السياسية المهيمنة. هذا التشويه المتعمد للهوية الوطنية لا يهدد وحدة لبنان فحسب، بل يسهم أيضاً في تفتيت المجتمع وإضعاف قدرته على الصمود، مما يسهل على القوى التي تعادي السيادة الوطنية بسط نفوذها والسيطرة على مقدرات البلد.
في ظل هذه التحديات، يأتي دور المجتمع المدني والجمعيات الأهلية كعنصر أساسي في التصدي لهذه الاعتداءات على التراث والهوية الثقافية. يشمل هذا المجتمع المدني العديد من الجهات المتخصصة في مجال حماية التراث. وبرغم تعرض البعض من العاملين في هذه المجالات للضغوط، مما يدفعهم أحياناً إلى الصمت أو حتى الهجرة بحثاً عن الأمان، فإن هناك قلة من الناشطين تواصل عملها بإصرار.
هؤلاء يواجهون الأخطار اليومية لتوثيق الاعتداءات، توثيق التدمير، والحفاظ على ما تبقى من المواقع التراثية والمجموعات المتحفية، على أمل حماية هذا الإرث للأجيال القادمة.
وفي المقابل، لا يخلو المشهد من بعض الجمعيات التي تستغل الكوارث لصالحها، فتسعى إلى احتكار التمويل الدولي والمساعدات الخارجية من دون تحقيق إنجازات ملموسة. بعض هذه الجمعيات تعمل في إطار ضيق من الشفافية والمساءلة، وتسعى إلى إحكام سيطرتها على القطاع الثقافي كوسيلة لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد، متجاهلة الحاجة الفعلية لحماية التراث وتعزيزه. وهذا السلوك لا يضعف القطاع فحسب، بل يُضعف أيضاً ثقة المواطنين بمؤسسات المجتمع المدني، التي يفترض أن تكون حامية هويتهم وثقافتهم في مثل هذه الأوقات العصيبة.
ومن هنا، تبرز ضرورة أن يعمل المجتمع المدني على تجاوز العقبات الداخلية والخارجية بالتماسك والالتزام بقيم الشفافية والمساءلة، وتضافر الجهود لتحقيق أهداف وطنية كبرى تتجاوز المصالح الفئوية.
ومن المهم أن يكون للمجتمع المدني دور ريادي في الضغط من أجل وضع استراتيجيات وطنية شاملة لحماية التراث، تعزز ثقافة الانتماء وتثري الذاكرة الجماعية للشعب، وتعمل على نشر الوعي بأهمية هذه المعالم باعتبارها ملكاً مشتركاً لجميع اللبنانيين.
التراث الوطني هو شريان الهوية الوطنية، وحمايته هي مسؤولية جماعية تحتاج إلى وعي وتكاتف للحفاظ على هذا الإرث العريق الذي يجسد تنوع لبنان وتاريخه الممتد عبر العصور. ومع كل تحدٍ يواجه لبنان، تتعزز أهمية التكاتف حول الهوية المشتركة، والعمل بجد لضمان أن تظل المعالم الثقافية شاهدة على تاريخ الشعب وصموده، وحافزاً لمستقبل يستلهم من هذه الهوية الغنية والمتنوعة.
إقرأوا أيضاً: