سنة كاملة من نشر صور أشلاء الضحايا وصرخات الألم والاستغاثة. سنة كاملة من الاحتجاجات والتظاهرات والتضامن ضد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
ماذا تغيّر؟
خرجنا في كل مكان مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكن نطاق الحرب بقي على فظاعته ولم تتمكن كل مذكرات التوقيف من وقف الحرب الإسرائيلية التي اتّسعت لتشمل ليس فقط غزة، بل أيضاً لبنان وضربات ضد سوريا والعراق وحتى اليمن. فهل هذا الاتساع دليل على حساباتنا الخاطئة أم على وحشية غير مسبوقة من مطلقي النار؟
في العام الثاني من هذه الحرب المفتوحة التي أودت بآلاف الأرواح، لم يعد وقف النار وحده هو المطلب، بل أصبح الهدف محاسبة المتسبّبين في هذا الموت المعمّم والدمار المستمر. هذه المطالب تأتي وسط تجاهل من المجتمع الدولي، بخاصة بعد اغتيال زعيم حزب الله حسن نصرالله، الذي اتُّخذ قراره داخل أروقة الأمم المتحدة بينما كان المسؤولون الإسرائيليون يتحدثون عن “دورهم” في تحقيق السلام في المنطقة.
من السخرية أن نفكر في إسرائيل كقوة صاعدة عالمياً، بخاصة مع تعثّرها في تحقيق أهدافها المعلنة، بدءاً من إخفاقها في تحرير أسراها لدى حركة حماس في غزة وصولًا إلى القتل العشوائي للمدنيين من دون القضاء على أذرع “المقاومة”.
وعلى رغم ذلك، تبقى إسرائيل تلعب دوراً أكبر مما كانت عليه في المنطقة والعالم، وهو ما يدعو الى التساؤل: لماذا لم تعد هناك أي قوة دولية قادرة على مواجهة جموحها وعنفها، خصوصاً مع تصاعد شهية التوسع والاحتلال كما بات مسؤولون إسرائيليون كثر يعبّرون علناً؟ وهل كرست إسرائيل بالفعل موقعها بوصفها فوق القانون الدولي؟
عندما ننظر إلى النزاعات في المنطقة على مرّ العقود، نجد أن هذه الأحداث تتكرر ولكن بأساليب تمازج التطور التقني بالخبث والشيطنة، مثل خطة تفجيرات “البايجرز” لعناصر حزب الله، والتي يبدو أنها ليست إلا استمراراً للتطور التقني الذي بلغه هذا الكيان، بعد نجاحه من خلال برمجيات “بيغاسوس” الشهير، والذي شكّل نقلة نوعية في عالم التجسّس الإلكتروني.
إسرائيل اخترقت هواتف شخصيات بارزة، وباعت برامجها إلى دول قمعية، ثم بلغت بها الحال أن ذهبت إلى حد تفجير أجهزة محمولة بصرف النظر عمن يحملها وأين وكيف، وسط تجاهل بل وتواطؤ دولي مريب. هذا الصمت الدولي يدفعنا الى التساؤل عما إذا كانت هناك تحالفات خفية، أم أن إسرائيل بالفعل تمسك زمام الأمور حتى على حلفائها المفترضين!
إسرائيل، التي كانت في يوم من الأيام مجرد حليف صغير لهذه القوة، نمت الآن وأصبحت تلعب أدواراً أكبر مما كنا نتصوّر. فهي لا تتردد في التدخل في سياسات المنطقة، ولا تخشى مواجهة أي قوة عالمية، بل يبدو أن الجميع يخشى مواجهتها. ولعل دولاً كالصين وروسيا ذهبت إليها الأنظار كقوى قادمة، من شأنها أن تخشى استخدام إسرائيل الأساليب ذاتها ضدها، فإسرائيل التي لم تستخدم مثل هذه التقنيات لمساعدة حليفتها أوكرانيا في حربها، يبدو أنها لا تفعل سوى ما يخدم مصلحتها الخاصة، مهما كان الثمن.
إقرأوا أيضاً:
نحن نعيش الآن مرحلة انتقالية في القوة، وهو حديث نما في السنوات الأخيرة؛ إذ يبدو أن الولايات المتحدة بعد ثماني سنوات صعبة مرت عليها بين دونالد ترامب وجو بايدن، بدأ يخفت وهجها خلال الأعوام الأخيرة، وكثرت التساؤلات حول القوة القادمة التي ستتناول الشعلة من بعدها، وها هي قد بدأت تتبع إسرائيل بدلاً من العكس. فإسرائيل بدورها، أصبحت تتحكم في سياسات المنطقة، وتجبر الجميع على اتباع نهجها، مهدّدة كل من يقف في طريقها.
الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل، أظهرت ضعفها في وقف تصرفات إسرائيل أو حتى تحجيمها، في ظل تعثر سياسات الرئيس الأميركي جو بايدن وعدم اتساق تصريحاته مع تصرفات إدارته، بخاصة في ما يتعلق بالرد على ضربات إيران الأخيرة. إذ يبدو واضحاً أن فشل بايدن في إدارة هذا الملف الحساس الذي يخرج من رئاسته محملاً بملفّ حروب مفتوحة كان لها أثر واضح إلى جانب عوامل أخرى على الاقتصاد الأميركي. ويدور الحديث اليوم، حول دهشة الشارع الأميركي إثر التقاعس في تقديم مساعدات لمتضرري إعصار هيلين الذي ضرب شرق الولايات المتحدة وجنوب شرقها، هذا كله من شأنه أن يكون له تأثير كبير على الانتخابات الأميركية الوشيكة.
عندما انتقلت للعيش في الولايات المتحدة، تفاجأت بأن الخوف من انتقاد إسرائيل بات أكبر من الخوف من انتقاد السياسات الأميركية نفسها. الصحافيون الذين يفخرون بحرية التعبير في أميركا، أبدوا مخاوفهم من التطرق الى أي حديث ينتقد إسرائيل بشكل مباشر في بيئة العمل. وهو ما أشار إليه باسم يوسف الذي برز العام الماضي في الإعلام الغربي للحديث عن إبادة غزة في لقائه مع بيرس مورغان، بأن الناس في الولايات المتحدة مقيدون بانتقاد إسرائيل أكثر من انتقاد أميركا نفسها. هذا الواقع يطرح علامات استفهام حول تأثير اللوبيات والنفوذ الإسرائيلي في الدول التي تفخر بمعايير حرية التعبير.
وفي ظل هذا الوضع، تصاعدت نظريات المؤامرة في العالم العربي، من شدة صدمة الناس تجاه التجاهل الدولي لما يحدث في فلسطين ولبنان على مرأى العالم، فلم يسلم الصحافيون والكوادر الطبية وموظفو الإغاثة الدوليون من هذا العنف، وأصبح الكثير من الناس يؤمنون بأن ما يحدث ليس سوى مسرحية عالمية. قد تكون هذه النظريات خاطئة، لكن الواقع أن كل ما نشهده اليوم يبدو كأنه مشهد مرتجل على حساب أرواح المدنيين.
هذه التغييرات الدولية تقودني الى مراجعة التباين الإقليمي العربي في المشهد على مدار عام، فقطر تميل في مواقفها الرسمية إلى إيران وحلفائها بينما تميل الإمارات إلى الجانب الإسرائيلي، وعلى غرار هذا تنقسم المنطقة ومواقفها في حرب تتوسّع وتتّضح ملامحها يوماً بعد يوم.
القوة التي تستطيع أن تقتل وتخترق سياسات الدول ليست صديقة بل هي عدو خطير، علينا أن نحذر منه. وإن حال لبنان الذي يقف عاجزاً أمام هذه التحديات بجيشه وصمت العالم الدولي على الاعتداءات على سيادته، تشبه حال العالم بأسره في مواجهة هذا العدو المتصاعد.
إقرأوا أيضاً: