تقترب خزانات مياه الشرب لمدينة إسطنبول من وضع حرج إذ لا تتجاوز الكميات المتبقية فيها 25 في المئة، الأمر الذي يربك حياة أكثر من 15 مليون إنسان، فضلاً عن خسائر اقتصادية كبيرة يتكبدها قلب تركيا الاقتصادي والتجاري جراء موجات جفاف مستمرة تشهدها المنطقة منذ السنين. ويقول المسؤولون إن المياه ستنفد من المدينة إذا استمرت الظروف الحالية لشهور، إنه إنذار جدي وقد يعلن يوم الصفر ويضطر السكان إلى الانتظار في طوابير طويلة للحصول على مياه الشرب كما في حالة مدينة كب- تاون في جنوب أفريقيا عام 2018 ومدينة تشيناي الهندية عام 2019.
وتشهد تركيا بحسب الوكالة الأميركية للفضاء (ناسا) ظروفاً مناخية قاسية بعد مرور مواسم عدة من الجفاف وانخفاض هطول المطر، وكانت أشهر الصيف والخريف في عام 2019 شبه خالية من الأمطار، ما أدى إلى تضاؤل مستويات المياه في خزانات المياه. وكان عام 2020 الأكثر جفافاً بين السنوات الخمس الماضية، اذ تراجع الهطول المطري في نصفه الثاني إلى النصف في جميع المحافظات التركية، وذلك بالمقارنة مع متوسط الهطول المطري في أعوام 1981-2010 بحسب وكالة “ناسا”. وعلى رغم مؤشرات هطول مزيد من الأمطار في النصف الثاني من كانون الثاني/ يناير 2021، إلا أن الأمر سيستغرق أمطاراً ممتدة ومستمرة لرفع مستويات المياه إلى أحجام مريحة، ولا يستبعد المسؤولون الحكوميون أن تؤدي قلة الأمطار إلى نقص كبير في المياه بحلول الصيف المقبل.
وتُظهر خرائط عن تخزين المياه الجوفية تم قياسها بواسطة الأقمار الصناعية، في كانون الثاني 2021 أوضاعاً مائية حرجة في عموم تركيا في ما خص المياه الجوفية التي تعد مورداً مهماً للغاية لري المحاصيل والشرب في غالبية البلدان المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وتستغرق المياه الجوفية شهوراً كي تتعافى من الجفاف.
وقد أثر فصل الجفاف سلباً على الفلاحين ومحاصيلهم الزراعية في الكثير من المناطق، تحديداً التي تعتمد الأمطار الموسمية للري. ففي سهل قونية مثلاً، انخفضت الأمطار بنسبة 38 في المائة في النصف الثاني من عام 2020 بالمقارنة مع الفترة ذاتها في عام 2019، ما أدى إلى تراجع المحاصيل الزراعية في المنطقة. يذكر أن اقتصاد تركيا يعتمد بدرجة كبيرة على تصدير المنتوجات الزراعية مثل الفواكه المجففة والحمضيات والخضر إلى الأسواق الخارجية.
أسباب الجفاف
يعود السبب الأول للجفاف الذي تشهده المنطقة إلى تغيرات راديكالية في مناخ منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث يتوقع تسجل انخفاض حاد في الهطول المطري شتاءً جراء التغيرات المناخية، وهي ناتجة عن ازدياد الغازات الدفيئة في الجو، بحسب بحث علمي أنجزه الباحثون في معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” MIT عام 2020. ومن شأن انخفاض المواسم المطرية في هذه النقطة الساخنة في المناخ العالمي، التأثير في الموارد المائية التي تعتمد على الأمطار الشتوية لتزويدها خلال فصل الصيف الحار والجاف (البحر الأبيض المتوسط يشتعل: انخفاض حاد في الأمطار). قد تفقد منطقة البحر الأبيض المتوسط ما يصل إلى 40 في المئة، من هطول الأمطار في فصل الشتاء، الأمر الذي يقوض قدرة المنطقة على التطوير وزراعة الغذاء، ويؤثر في حياة ملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل من الإجهاد المائي، ناهيك بالتهديد الذي يلقيه على كاهل المنطقة ويزيد من التوترات الموجودة فيها، تحديداً في شرق البحر الأبيض المتوسط. وتطرقت وكالة “ناسا” الأمريكية في دراسة أخرى صدرت عام 2016 إلى موجات جفاف عنيفة شهدتها المنطقة في العقد الأخير من القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي. ولم تشهد المنطقة، بحسب التقرير ذاته، مثل هذه الموجة منذ 900 سنة، وهي أدت إلى تراجع كبير في المياه العذبة. وبحلول عام 2025 ستكون إمدادات المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 15 في المئة فقط مما كانت عليه قبل ستين عاماً.
قد تفقد منطقة البحر الأبيض المتوسط ما يصل إلى 40 في المئة من هطول الأمطار في فصل الشتاء.
يعود السبب الثاني إلى انشغال الدولة التركية بالصراعات والحروب في المنطقة، بدل مواجهة التغيرات المناخية. وقد شهدت تركيا بقيادة أردوغان خلال الفترة التي استفحلت فيها موجات الجفاف (2015-2020) حروباً داخلية على المعارضين والصحافة ومنظمات المجتمع المدني، وحروباً خارجية (الحرب على الكُرد في سوريا، التوسع نحو البحر المتوسط، الحرب في ليبيا، الحرب على أرمينيا عبر آذربيجان، والغوص في المستنقع السوري بطبيعة الحال). وبدل التركيز على التحديات المناخية والبيئية التي واجهت البلاد والحيلولة دون تفاقمها قبل الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة، تم إشغال الرأي العام والإعلام التركيين بحروب كانت تركيا فيها الخاسر الأكبر.
يعود السبب الثالث إلى زيادة الطلب على المياه لإدامة مرافق الغذاء والشرب والصرف الصحي والسياحة في المدن، بخاصة أن سياسة تركيا العمرانية في السنوات الأخيرة توسعت كثيراً من أجل استقطاب رؤوس الأموال. أما السبب الرابع، فيعود إلى نشاط زراعي مفرط تعتمده تركيا بغية توسيع التجارة الخارجية وتغطية الأسواق الخارجية، الأمر يحول دون استخدام مستدام للموارد المائية، بخاصة أن الزراعة تستهلك 70 في المئة من المياه العذبة. ويضاف إلى كل تلك الأسباب، مشروع قناة إسطنبول الذي من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على الموارد المائية لسكان المدينة، ناهيك بتدمير طبيعة المقاطعة وجعلها غير قابلة للإصلاح وغير قابلة للحياة، جراء تدمير بحيرتين صناعيتين كبيرتين توفران مياه الشرب لسكان اسطنبول، إضافة إلى تملح طبقات المياه الجوفية التي تشكل مصدراً استراتيجياً للمياه العذبة.
إقرأوا أيضاً: