قبل عام 2011، كان السلفيون المدعومون من السعودية، الصوت الديني الأعلى في كثير من الدول العربية والإسلامية؛ فقد كانوا يملكون المال الكافي لبناء المساجد وتمويل المراكز الإسلامية وإنشاء الصحف والقنوات الفضائية. وحين جاء الربيع العربي، اكتسب الإخوان المسلمون مساحات واسعة سياسياً ودينياً، فوصلوا إلى السلطة في دول عربية عدة، ووفّر لهم الدعم القطري منابر إعلامية أهمّها شبكة قنوات الجزيرة والمنصّات التابعة لها.
أما الإمارات فلم تكن قبل الربيع العربي ذات دورٍ ديني كبير. كان لها إسهامات صغيرة هنا وهناك عبر دعم خجول لبعض المؤسسات الدينية التقليدية، لكن بعد عام 2011 تسارع سعي الإمارات إلى تشكيل نسخة خاصة بها من الإسلام، نسخة مغايرة للنسخة السعودية السلفية وللنسخة القطرية الإخوانية.
تشكّلات الدين بين الصحراء والميناء
كانت الإمارات بالنسبة إلى الاستعمار البريطاني مثلها مثل مشيخات الخليج الساحلية وإماراته الأخرى، موانئ تجارية ومواطئ قدم عسكرية لحماية مصالح البريطانيين، وكان الدين بالنسبة إلى هذه المجتمعات طقوساً روحانية لها ظلال اجتماعية وسياسية، لكنه لم يكن محور تكوين الدولة، وحين رحل البريطانيون هندسوا الدولة الوليدة على الانفتاح لتكون منطقة جذب للعمالة والاستثمار. وفي الدستور الإماراتي الموقّت الذي وضع عام 1971، منعت المادة 25 التفريق بين المواطنين بسبب العقيدة الدينية، فيما أتاحت المادة الثانية والثلاثين حرية العبادة للجميع.
على النقيض، كان الدين مركزياً في نشأة الدولة السعودية، التي بدأت بميثاق الدرعية بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، وهو تحالف محوره تطبيق سياسات الشيخ السلفية ونشرها، وقد بقي التحالف بين الأسرتين قائماً ومتجدّداً مع الدولة السعودية الثانية والثالثة، حيث السلطة السياسية لآل سعود، والسلطة الدينية لأفراد أسرة محمد بن عبد الوهاب، الذين سُمُّوا آل الشيخ.
كان للخلاف السياسي والصدام العسكري المبكر بين الإمارات والسعودية دور في الخوف الإماراتي من السلفية الوهابية، حيث سعت السعودية الوهابية إلى ضم أراضي أبو ظبي إلى دولتها ضمن حملتها التوسّعية في المنطقة، ونشبت معارك متعدّدة بين الطرفين، كانت محصّلتها احتفاظ حكّام أبو ظبي باستقلالهم عن الحكم السعودي.
وأدّى هذا الصراع إلى تصدّي الإماراتيين للحركة الوهابية مبكراً ومنعها من التغلّل في الإمارات، خصوصاً في أبو ظبي التي قادت الدولة الوليدة، ولم تفسح للسلفيين المجال للانتشار فيها. شكّل هذا الخلاف السياسي المبكر الهوية الدينية للإمارات، وحين كان السلفيون المموّلون من السعودية ينشرون الوهابية باعتبارها الإسلام الصحيح، كانت الإمارات تفتح الباب لتيارات إسلامية أخرى مثل الصوفية والتبليغ والدعوة.
صعود الإخوان وسقوطهم في الإمارات
الملمح الثاني والأهم الذي شكّل الهوية الدينية للإمارات اليوم هو العداء للإخوان؛ كانت ثورات الربيع العربي في 2011 مثار ذعر للسعودية والإمارات، على النقيض من قطر التي وثّقت علاقاتها بالإخوان المسلمين الذين كانوا رقماً مؤثراً في الثورات، واستطاعوا الفوز بالانتخابات التي تلتها.
الصعود الكبير للإخوان في المنطقة العربية كان عامل رعب لدى الإماراتيين، وعلى رغم أن الإخوان ارتبطوا في وقت ما بعلاقات جيدة بحكّام الإمارات، إلا أن الصدام بين الطرفين بدأ مبكراً في عهد الشيخ زايد، وقد شكّل هذا الموقف بؤرة العداء السياسي لقطر من قِبل السعودية والإمارات، وهو ما انسحب على عداء ديني.
تكمن خطورة جماعة الإخوان بالنسبة إلى آل زايد حكّام أبو ظبي الإمارة المهيمنة على اتحاد الإمارات السبع منذ إنشائه، في تمتّع الإخوان بعلاقات تاريخيّة مع أفراد نافذين في المجتمع وخصوصاً أفراد من العائلات الحاكمة في الإمارات الأخرى؛ فقد جاء إنشاء جمعية الإصلاح، وهو المسمّى الذي يعمل تحته الإخوان في الكويت والبحرين والإمارات واليمن، عام 1974 بدعم من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم نائب رئيس الدولة وحاكم دبي وقتها، الذي تبرّع بأرض في دبي لإنشاء المقر الرئيسي للجمعية، وتولّى الشيخ محمد بن خليفة آل مكتوم منصب أول رئيس لمجلس إدارة الجمعية، تلا ذلك إنشاء فرع للجمعية في إمارة رأس الخيمة بدعم من أسرة القواسم الحاكمة في الإمارة، والتي ينتمي إليها سلطان بن كايد القاسمي رئيس الجمعية المعتقل حالياً.
كانت أنشطة الجمعية في الإمارات دعوية، وسيطرت بشكل خاص على قطاع التعليم ووضع المناهج، وكان من بين أعضائها وزراء ومسؤولون في قطاعات التعليم والإسكان وغيرها، وقاموا بأنشطة دينية مثل الدعوة إلى حظر الاختلاط ومنع دروس الرقص والموسيقى في المدارس وتطرّقوا إلى ضرورة ترشيد السياحة والحرص على ضوابطها الأخلاقية، وخطر الأجانب على الثقافة والهوية الإماراتية، عبر مجلة “الإصلاح”، لسان حال الجمعية.
دعمت أبو ظبي أطرافاً معادية للإخوان في مصر وتونس وليبيا وغيرها، وسعت إلى حصار قطر، الداعم الأول للإخوان
تراوحت العلاقة بين الإخوان والحكومة بين القبول على مضض إلى الصدام المكتوم، فبتحريض من مصر جمّدت الحكومة الاتحادية للإمارات جمعية الإصلاح عام 1994، وأتبعتها بقرار حل مجلس إدارتها، وإسناد الإشراف على فروع المؤسسة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن بقي فرع رأس الخيمة نشيطاً، وبعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 تصاعد الصدام بين الطرفين مرّة أخرى على وقع اتهامات الحكومة للإخوان بدعم الإرهاب.
لكن القشة التي حوّلت علاقة الحكومة مع الإخوان إلى عداء كامل جاءت في آذار/ مارس 2011، حين صدرت عريضة موقّعة من 133 مثقفاً، بينهم أعضاء في الإصلاح، وجّهت إلى الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة، تطالب بانتخاب كامل للمجلس الوطني الاتحادي واختياره باقتراع مباشر من المواطنين، وتعزيز دوره ليشمل مهمة تشريعية ورقابية، وهو ما واجهته الحكومة بالغضب وحملة اعتقالات واسعة، طاولت الموقّعين وعلى رأسهم أعضاء الإصلاح.
إقرأ أيضاً: العرب في وثائق بارادايز… شيوخ وملكات وأمراء
كيف صنعت الإمارات دينها؟
إثر تفجيرات برجي التجارة في أيلول/سبتمبر 2001، وجّهت أميركا اتهامات إلى دول الخليج برعاية الإرهاب، وفي سعيها إلى نفي هذه التهم، شنّت هذه الدول حملة على مؤسسات إسلامية، وغيرت أجزاء من مناهجها الدراسية، خصوصاً في ما يتعلق بالجهاد، وسارعت الإمارات التي شارك اثنان من مواطنيها في الهجوم، إلى إغلاق جمعيات إسلامية ومحاصرتها، وتشديد الرقابة على التمويل الموجه للمؤسسات الأهلية.
ولمواجهة الإسلام السلفي الذي رأى الأميركيون أنه الدافع الأساسي للتطرّف، اقترحت مراكز أبحاث أميركية تعزيز التيار الصوفي ودعمه، باعتباره أكثر تسامحاً وسلمية، ولديه قاعدة شعبية ستساعد في مواجهة الوهابية المنتجة للتطرّف.
هذه الاقتراحات ربما وجدت أذناً صاغية عند محمد بن زايد الذي أصبح ولي عهد أبوظبي عام 2004، ومنذ وصوله للمنصب سعى بن زايد إلى التحرّك في الملف الديني، وتحويل المذهب المالكي والنهج الصوفي إلى جزء من الهوية الوطنية لجميع الإمارات المتحدة، فاستقطب العلماء الصوفيين وأنشأ مراكز وجمعيات لنشر أفكارهم ودعمهم، فدشّنت أبو ظبي مؤسّسة “طابة” بقيادة الشيخ اليمني الصوفي الحبيب علي الجفري عام 2005.
تسارعت وتيرة التحركات الإماراتية إثر وصول الإخوان إلى السلطة في عدد من الدول العربية بعد 2011، فعلى المستوى السياسي دعمت أبو ظبي أطرافاً معادية للإخوان في مصر وتونس وليبيا وغيرها، وسعت إلى حصار قطر، الداعم الأول للإخوان.
الإسلام الإماراتي اليوم يبدو في طور التقدم، بينما ينهزم الإسلام القطري، إذ كسب الإماراتيون نقاطاً كثيرة بتحالف سعودية محمد بن سلمان معهم
ولم يكن ممكناً أن تنفرد الإمارات بمعارضة السياسة الأميركية الرسمية في عهد أوباما، التي أظهرت استعداداً لقبول الإخوان أو ما عرف بالتيار الإسلامي المعتدل في السلطة لمواجهة المتطرفين، إلا بعد أن أيقنت الإمارات أن واشنطن تنسحب استراتيجياً من المنطقة، لمصلحة التركيز على جنوب شرقي آسيا. وعبر السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، الرجل القوي في تشكيل السياسة الإماراتية خارجياً، كثفت أبو ظبي جهودها لإقناع الساسة الأميركيين بقبول إقصاء الإخوان عن الحكم، وتأكيد صلتهم بالإرهاب والتطرف.
ولإبراز تطرّف الإخوان بشكل عملي، سعت الإمارات إلى تقديم فكر إسلامي منفتح وليبرالي وإبرازه، عبر نموذج الإمارات نفسها كدولة، وعبر إنشاء مؤسّسات دينية يجمعها العداء للوهابية والإخوان، ودعمها، إلى جانب مراكز بحثية لتفكيك الإسلام السياسي ودراسته، كما أنشأت كيانات موازية للكيانات الدينية الموجودة في قطر، وأبرزها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي صنّفته الإمارات كجماعة إرهابية أخيراً، كما استطاعت دفع الشيخ الموريتاني عبد الله بن بيه نائب رئيس الاتحاد للاستقالة، ليؤسس في الإمارات كياناً بديلاً هو مجلس حكماء المسلمين.
وكان أبرز تجليات النشاط الإماراتي الديني مؤتمر “من هم أهل السنة والجماعة؟” الذي عقد في العاصمة الشيشانية غروزني عام 2016، تحت رعاية مؤسسة “طابة” الإماراتية، ودُعي إليه 200 عالم سني من مختلف الدول العربية والإسلامية، واعتبَرت توصيات المؤتمر، السلفية والوهابية وجماعة الإخوان المسلمين فرقاً طائفية دخيلة على أهل السنة والجماعة.
إسلام “ليبرالي” لا يعادي “التقليديين”
تدعم الإمارات مؤسسات دينية تقليدية مثل الأزهر وشيوخاً تقليديين مثل الجفري وبن بيه، وفي الوقت ذاته تدعم مراكز بحثية علمانية ومؤسسات تنويرية مثل “مؤمنون بلا حدود”، وقد يبدو ذلك غريباً، لكنه قد يفهم بالنظر إلى الخصوم الدينيين الذين تواجههم الإمارات وهم: الوهابيون والإخوان، وإلى القاسم المشترك بين الأطراف المدعومة إماراتياً: تغييب الحديث عن الديموقراطية.
المحرّك الأساسي للدين الإماراتي هو السياسة، وفي سبيلها تمكّنت الإمارات من عقد تحالف بين التنوير العقلاني والفكر التقليدي الديني، على رغم تناقضهما الظاهر، لكن شراسة الخصم السياسي للإمارات وهو الإخوان الذين يعدوّن خصماً يصعب إضعاف حضوره في المشهد الديني والسياسي العربي إلا بإقامة هذه التحالفات.
“ثمّة نقطة اتفاق بين السلفيين والحداثيين تتمثل في أن عدوهما كان التقليد الديني بمذاهبه الفقهية، وجانبه العقدي، والممارسات الصوفية، والدولة السلطانية، ما أدى إلى تحطم التقليد الديني”
يمكن فهم الارتباط بين دعم مؤسسات دينية تقليدية محافظة، إلى جانب مؤسسات تقدّمية ليبرالية دينياً، باستقراء مناقشات المؤتمر الثاني لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، الذي شهدته مدينة مراكش المغربية عام 2014، تحت عنوان “الخطاب الديني: إشكالياته وتحديات التجديد”، حيث نوقشت أطروحتان فكريتان عن الدين والسياسة في الوطن العربي: الأطروحة الأولى وهي العقلنة والتنوير ونقد الموروث الديني وتفكيك أنساق تفكيره مثلما تفعل المؤسسة المذكورة، وأطروحة أخرى عن ضرورة تطوير المؤسسة الدينية التقليدية وتعزيز الثقة بها، باعتبارها صمام أمان الاستقرار الديني والسياسي في المنطقة، وهي الدعوة التي يتبناها مفكرون مثل اللبناني رضوان السيد.
يرى رضوان السيد أن المؤسسات التقليدية التي ترسّخت في التاريخ وتبعها السواد الأعظم من المسلمين مثل الأزهر والزيتونة والقرويين، هي الأقدر على حماية الاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، لكنها في الوقت ذاته تحتاج إلى المساعدة في ملاحقة عجلة التقدّم والتطوّر الاجتماعي، ويؤكد أن تقدم الإسلام وعلاج مشكلاته الحالية، يتطلّبان تحالف المثقفين التنويريين مع المؤسسات الدينية؛ حتى يتم استيعاب أفكار الحداثة في تفاصيل التعليم الديني والإرشاد والفتاوى الموجهة للناس، لأن الناس تحترم المؤسسات التقليدية مثل الأزهر وتقبل منها ما لا تقبله من الحداثيين.
ويشير السيد إلى أن ثمة نقطة اتفاق بين السلفيين والحداثيين تتمثل في أن عدوهما كان التقليد الديني بمذاهبه الفقهية، وجانبه العقدي (الأشعرية)، والممارسات الصوفية، والدولة السلطانية، ما أدى إلى تحطم التقليد الديني أو تصدعه تحت وطأة الهجمات، سواء لجهة المذاهب الفقهية أو لجهة العَقَدية الأشعرية؛ فالمذاهب الفقهية صارت حجر عثرة في طريق الاجتهاد لدى الطرفين، كما أن الأشعرية الاعتقادية صارت ابتداعاً لدى السلفيين، وصارت غير عقلانية لدى الحداثيين.
إقرأ أيضاً: بلاد تسير على رمال متحركة في رُبعٍ خال
ينتقد السيد بشدّة “مفكري القطيعة” من التنويريين أعداء التراث، ويشير إلى فشلهم في التواصل مع الشارع، ويرى أن المثقف التنويري عليه أن يساعد المؤسسة الدينية التقليدية في التواصل والانفتاح على العالم، لا أن يكتفي بالهجوم عليها والمطالبة بهدمها؛ لأنه سيفتح الباب لخروج جماعات إسلامية وانشقاقها، والجماعات الإسلامية التي خرجت عن المؤسسة التقليدية كانت دوماً أكثر تشدّداً ورجعية من المؤسسات التقليدية، التي كانت على مدار التاريخ مرتبطة بالدولة وتحافظ على الاستقرار السياسي.
ويعتبر السيد أن جماعات الهوية الإسلامية وجماعات الصحوة مثل الإخوان مسؤولة عن التطرف، ففي سعيها إلى السيطرة السياسية، ادعت أنها المعبّر عن الدين، وخلقت تصوّراً ثنائياً متطرفاً يواجه فيه المسلمون العالم، ويجيّشون الإسلام في مواجهة الكفر، وهذه الجماعات وإن لم تكن عنيفة، إلا أن المعتدلين خلقوا الفكرة، والمتطرفون مثل القاعدة و”داعش” مضوا بالفكرة إلى نهايتها المنطقية.
هذه التصوّرات التي يطرحها السيد تقريباً هي الخط الديني الذي تتبعه الإمارات، فقد أعطت لعلماء تقليديين من الصوفيين والأزهريين مساحات إعلامية، كان قد احتكرها السلفيون عبر القنوات الممولة سعودياً، أو الإخوان عبر القنوات الممولة قطرياً وتركياً، كما فتحت للتنويريين منابر إعلامية ومؤسسات بحثية، تسعى في عملها إلى مواجهة السلفية الوهابية والإسلام الحركي الإخواني، وتعيد بناء روابط مع الإسلام التقليدي، على أرضية جعل الإصلاح الديني أولوية قبل الإصلاح السياسي، ما يدعم بشكل ما بقاء الأنظمة السلطوية حتى يتحقق الإصلاح الديني.
السعودية والإمارات وقطر: أي إسلام سينتصر؟
انتصرت الإمارات في صراعها ضد الإسلام السعودي، بوصول محمد بن سلمان الذي يبدو مقتنعاً بالأفكار الإماراتية، ومتفقاً مع وجهة النظر التي ترى في الوهابية وفي الصحوة الإسلامية (يُعتبرون إخوان السعودية) مشكلة تنبغي مواجهتها.
وفي إحدى الرسائل المقرصنة من بريد سفير الإمارات في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، كتب العتيبة مخاطباً الكاتب الصحافي في “نيويورك تايمز” توم فريدمان: “لقد حاربت أبو ظبي لمدة مئتي عام السعوديين بسبب الوهابية، لدينا من التاريخ السيئ مع السعوديين أكثر مما لدينا مع أي جهة أخرى، لكن مع مجيء محمد بن سلمان فإننا نرى تغيّراً حقيقياً يحدث، ولهذا نشعر بالنشوة. أخيراً بدأنا نرى الأمل، ونحن في حاجة إلى رؤيته ينجح”.
لكن في المواجهة مع قطر ما زالت الإمارات عاجزة عن الانتصار، فلدى القطريين أبواق دعائية قوية، والدعاية القطرية ضد الإماراتيين اتخذت مسارين: الأول موجّه إلى الداخل العربي، ويستخدم مفردات دينية أقرب إلى السلفية، ويتهم الإماراتيين بـ “العلمانية والانفتاح ومحاربة الإسلام”، أما في الخارج فهناك إشارة إلى زيف الانفتاح الإماراتي وتأكيد أنه غير حقيقي وغير ديموقراطي، وأن الاتهامات الإماراتية لقطر وحلفائها الإسلاميين بالتطرّف سببها سياسي محض، وأن قطر هي الراعي الحقيقي للتجديد والإصلاح الديني.
ينزعج الإخوان ممّا تقدّمه الإمارات لأنه ينزع عنهم صفات “التجديد والتقدمية والانفتاح” التي لطالما احتكروها في مواجهة السلفية المدعومة سعودياً، والتي كانت تقدّم وجهاً أكثر تخلفاً للإسلام، الآن ومع تضاؤل السلفية السعودية، وصعود مشروع الإسلام الإماراتي، ينزاح الإسلام الإخواني ليملأ الفراغ السلفي ويظهر كوجه رجعي متخلف للإسلام.
كما يحاول الإخوان وحلفاؤهم تأكيد أن أيديولوجياتهم متناقضة تماماً مع التطرف، وأن غيابها أدى إلى صعود “داعش”، مع أن الوقائع تشير إلى أنهم مدّوا أيديهم للتحالف مع متطرفين في مصر وليبيا، واعتبروا الإرهابيين يدهم التي يلوحون بها ليخيفوا التيارات المدنية عند اللزوم.
ارتباط الإسلام الإخواني بالدعم القطري يوفّر له شعبية واسعة بحجم انتشار الجماعة وحجم التعاطف معها، ويوفّر المال القطري مصدر تمويل ضخم يعيق مشروع الإمارات الديني، الذي ما زال محدوداً حتى الآن، مقارنة بالإسلام السلفي والإسلام الإخواني، كما تفتقد النسخة الإماراتية من الإسلام إلى منبر دعائي قوي مثل قناة الجزيرة، التي تملك رصيداً من الصدقية عند الجمهور العربي، ولها وزن مؤثر في الغرب.
لكن الإسلام الإماراتي اليوم يبدو في طور التقدم، بينما ينهزم الإسلام القطري، إذ كسب الإماراتيون نقاطاً كثيرة بتحالف سعودية محمد بن سلمان معهم، فقد أقصوا أولاً منافساً مباشراً كان يموّل التيارات السلفية بملايين الدولارات، وربحوا حليفاً قوياً، إذ يبدو محمد بن سلمان عازماً على المضي في خطة التطوير الليبرالي، ليلحق بجاره محمد بن زايد في لقب المستبد “التقدّمي” أو المستبد “الليبرالي”، إذ يسعيان حثيثاً نحو لبرلة الاقتصاد ولبرلة الدين والحريات ما عدا السياسي منها، وهو توجّه ربما يكون أقل سوءاً من الوضع الذي كان سائداً في المنطقة قبل عقود، حين ترافق الاستبداد السياسي باستبداد ديني وانغلاق ثقافي كانت ترعاه السعودية وتنفق أموالاً طائلة لتثبيته.
إقرأ أيضاً: الهيب هوب الحلال