يواجه نعمة، الذي عُرف بـ”إسلام علوش” خلال نشاطه مع الفصيل، والمحتجز بانتظار محاكمته في فرنسا منذ كانون الثاني/ يناير 2020، قائمة طويلة من الاتهامات بالمشاركة في جرائم حرب ارتكبها الفصيل في مناطق سيطرته في غوطة دمشق. فإلى جانب تهمة التواطؤ في الإخفاء القسري للناشطين الحقوقيين الأربعة (رزان زيتونة، وائل حمادة، سميرة الخليل وناظم الحمادي) التي أسقطت عنه بهذا القرار، فإنه يواجه تهم المشاركة في تجنيد أطفال والتآمر للقيام بجرائم حرب.
نعمة الذي استقال رسمياً من دوره في الفصيل عام 2017؛ عاد الى الظهور في تركيا، حيث قدمته النيويورك تايمز عام 2019 كطالب ماجستير سوري في العلوم السياسية، قرر وضع السلاح والتخلي عن “النضال”، مقتنعاً بهزيمة الثورة والثوار، متطلعاً لاستكشاف فرص جديدة في تركيا التي ينوي البقاء فيها.
خلال أشهر، كان نعمة في طريقه إلى فرنسا بصفة باحث ضمن برنامج Erasmus الأوروبي للطالب، وذلك للمشاركة في بحث حول الجماعات المسلحة في سوريا. في نهاية كانون الثاني 2020، أوقفت الشرطة الفرنسية نعمة بتهم المشاركة في جرائم حرب وتعذيب وإخفاء قسري والتواطؤ في تنفيذ تلك الجرائم في سوريا.
تزامن التوقيف مع نشاط متصاعد حول قضية مخطوفي دوما الأربعة وأهمية مسار المحاسبة في فرنسا، ففي عام 2021، صدر كتاب “رسائل إلى سميرة” باللغة الفرنسية من تأليف الكاتب والمفكر السوري ياسين حاج صالح (زوج الناشطة سميرة الخليل، واحدة من مخطوفي دوما الأربعة)، ليسلط الضوء على القضية، و عزز البعد الثقافي للثورة السورية في الأوساط الفرنسية.
في المقابل، شهدت السياقات السورية والفرنسية، توظيف القضية في سرديات ومقاربات مستقطبة تدفع الى تبني استنتاجات وممارسات أكثر انغلاقية وعدائية تجاه الآخر، تغذي صعود خطابات يمينية/ متطرفة؛ فبينما استُخدمت القضية من أصوات سوريّة تطعن في مصداقية الجهود الساعية الى تحقيق العدالة، وتقدمها كمقدمة لتجريم كل من قاتل النظام واعتقل الثوار السوريين؛ تم توظيف قضية نعمة من اليمين المتطرف الفرنسي كدليل جديد على خطر المهاجرين والإسلام والمدافعين عنهم في اليسار، ليكشف تحقيق “أسرار أبوظبي” عن استخدام دعاة يمنيين القضية كمبرر لمهاجمة باحثين فرنسيين ووصمهم بـ”اليساريّة الإسلامويّة” ممن يستدعون مجرمي حرب بينما يمارسون سياسة “الاستبدال العظيم”.
قضية نعمة هي إحدى القضايا شديدة الرمزية التي تنظر فيها محاكم فرنسا حول الجرائم المرتكبة في سوريا بين عامي 2013 و2016؛ فإلى جانب مذكرات التوقيف ضد الرئيس السوري وشقيقه وعدد من قيادات الصف الأول في النظام، والمحاكمة المنتظرة لعناصر من “داعش” متهمين باختطاف صحافيين، وقضية الشركة الخاصة “لافارج” وتثبيت التهم المنسوبة إليها بتمويل الإرهاب في سوريا؛ يأتي هذا التطور الجديد في مسار محاسبة الفصائل ليعيد إلى الواجهة معضلة تقاطع المسؤولية القانونية والأخلاقية، بخاصة في حالات يحجب فيها ضباب النزاع المتواصل حدود المسؤولية الفردية وإرادة الجماعة.
ديناميكيات “الضحية المُضطهِدة”
شهد حساب نعمة على “تويتر” أخيراً، إعادة رفع منشور سابق له من عام 2017 يربط توجيه تهم الإرهاب والانتهكات لـ”الثوار” بالهزيمة التي تلقوها على أرض المعركة، ولا يجب أن ننسى
أن نعمة أتقن خلال مسيرته كمتحدث باسم جيش الإسلام، استراتيجيات تحويل اللوم وتبني موقع الضحية. ففي معرض دفاعه عن الفصيل ونفي ضلوعهم باختطاف ناشطي دوما، لجأ نعمة الى تصوير فصيله كضحية لـ “الغلاة وأعداء الدين” الذين يعملون على كسر وحدة الصف وتشويه صورتهم.
في حين نقرأ في مقال بعنوان “تفنيد ملف المكتب الحقوقي”، عرض الحاج صالح لاتصال بينه وبين نعمة تبع حادثة الاختطاف، “كذب” فيه نعمة مدعياً أنه ليست لجيش الإسلام مقرات أمنية في دوما، ليزيد متجاهلاً القضية “أنهم معنيون بتحرير المدن من الطغاة!”.
على مدى العقد الماضي، وفي سعيه إلى تحصين شخصه والفصيل الذي رفع صوته لسنوات في وجه أي اتهام، شهدت صورة نعمة تحولات متواصلة: بين ثائر، مقاتل، مجرم، معتقل أو خاسر، لاجئ، باحث ليتقمص موقع المنقذ تارة، فالثائر، ليعود لاحقاً إلى موقع الضحية، فبينما يقبع نعمة في أحد السجون الفرنسية منذ كانون الثاني 2020، تم تسريب صورة تظهر آثار ضرب مبرح يبدو أنه تعرض له بعد اعتقاله، لتعزز صورة نعمة الضحية في مواجهة عدالة انتقامية وأحقاد سياسية.
نعمة الذي رافق جيش الإسلام منذ تشكيله عام 2013 كـ”حركة ثورية” تجمع ضحايا النظام، تحول سريعاً إلى ميليشيا حاكمة على الأرض، وحركة “إسلاميّة” مستبدة لا تتردد في اضطهاد واعتقال مدنيين سوريين بتهمة انتمائهم الطائفي ليستخدمهم كـ”دروع بشريّة”، لإنقاذ مناصريها وحمايتهم في مواجهة غارات النظام.
لم يسقط نعمة بعيداً عن الشجرة، ففي مجتمعات تحكمها دائرة مفرغة من العنف، تسود ما تسميه عالمة النفس أليس ميلر، بـ”ديناميكيات الضحية والمضطهِد”، والتي غالباً ما تنتج ضحايا يقومون بإعادة تبني سلوكيات مضطهِديهم. ظاهرة بدت واضحة المعالم لدى جيش الإسلام كضحية مضطهِد ومنقذ في آن.
الجماعة و”القائد”
قدم نعمة نفسه للجمهور طوال أعوام مستخدماً اسماً مستعاراً اعتمده خلال فترة نشاطه مع الفصيل المسلح، “إسلام علوش”، اسم يعكس في تركيبته تمظهراً وقحاً لمحاولة التماهي والانتماء إلى الجماعة، باسم الدين (الإسلام) والقائد (زهران علوش)!
يأتي هذا التماهي مع “القائد” الذي يتضح في حالة نعمة كعلامة على ديناميكيات الانتماء، التي تحوّر الهويات الشخصية لتندمج قدر الإمكان ضمن الجماعة، حيث يرى عالم الاجتماع إيرفينغ جوفمان، أن حجم ومدة التهديد الذي يتعرض له الفرد يحددان حكماً حجم حاجته إلى الانتماء والحماية، ما ينعكس بالمقابل على درجة تقبل تهميش الهوية والدور الفرديين لصالح الجماعة و القائد.
ضمن جيش الإسلام، لعب نعمة دوراً مهماً في إدارة المعلومات والحفاظ على خطاب دفاعي انفعالي في وجه سيل الاتهامات التي وُجّهت وتوجَّه الى الفصيل وأعضائه، كسلطة الأمر الواقع المسؤولة عن جرائم ارتكبت في الغوطة الشرقية سابقا، ولا تزال ترتكب في عفرين ومناطق من الشمال السوري بعد وساطة روسية نقلتهم الى الشمال تحت الوصاية التركية عام 2018.
خلال فترة اعتقاله، وعلى رغم تجنب نعمة الإشارة الى جيش الإسلام أو أي من الفصائل المسلحة السورية أو أي من التهم الموجهة إليه بشكل واضح؛ فإنه ما برح يقدم نفسه بشكل متواصل كأولى ضحايا حملة تجريم الجيش السوري الحر التي تهدف الى “اعتقال الثائرين السوريين” ومن رفع السلاح ضد النظام.
وفي مفارقة تبرز عمق خيار نعمة بانتمائه الى الجماعة، فعلى رغم ضرورات دوره الجديد كضحية ومتهم بجرائم حرب، فإن تغيير البلاغة المستخدمة في تقديم نفسه كمناضل من أجل حقوق الأنسان والحرية لم يخرج عن نطاق الجماعة، ضمن جيش الإسلام لا ضده!
واعتمد فريق دفاع نعمة تصويره كثائر “قاتَل لأجل تطبيق قوانين حقوق الإنسان الدوليّة داخل جيش الإسلام” بحسب محاميه رافاييل كامف، بينما يتعرض للمحاكمة بتهم جرائم حرب!، ليقدم نعمة نفسه ليس كأضحية فداءً للجماعة، ليس لجيش الإسلام فحسب، بل لجميع “الثوار” المنقذين، والضحايا “الأصليين” الذين يدفعون ثمن خسارة الثورة!.
لكن في عام 2016، أشار الحاج صالح إلى تعرض ناشطي دوما الأربعة لمضايقات من قيادات الفصيل وإعلامييه سبقت اختطافهم، “حملة بذاءة وتسفيه ضد رزان [زيتونة]، ويتساءل بعضهم بلهجة ترهيبية: “ماذا تفعل هذه في دوما؟”، كأن دوما ملك شخصي للجماعة!.
وفي تسجيل صوتي تداولته وسائل إعلام، يقول شخص تلقى أوامر من “جيش الإسلام” بتهديد رزان زيتونة: “أبلغني بأن هذه الفتاة عميلة وأنها توثق معلومات عن الجيش السوري الحر وتكتب تقارير إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وهذه التقارير قد تجلبنا إلى المحكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب […] إذا كانت عميلة وتعمل ضد البلد، فلماذا لا تقومون بعمل أي شيء؟ لماذا لا تقومون بخطفها؟”.
الحد القانوني… الحد الأخلاقيّ
في عام 2019، تقدمت منظمات حقوقية في فرنسا وعلى رأسها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ممثلةً لحوالى 20 ضحية وعائلاتهم، بشكوى ضد جيش الإسلام، على خلفية الجرائم التي ارتكبها الفصيل بين عامي 2013 و 2018.
وبينما دعت المنظمات إلى اعتبار منصب نعمة ودوره ضمن الفصيل، دليلاً محورياً لجواز محاسبته كشريك في اختطاف ناشطي دوما الأربعة، إلا أن قرار المحكمة هذا فصل بعدم استيفاء التوصيف القانوني لدوره كـ”وكيل للتنظيم أو فرد يتصرف بإذن أو دعم أو موافقة منه” ضمن هذه الجريمة.
في المقابل، أكدت محكمة الاستئناف الفرنسية في قرارها، أنه “يتضح من المعلومات والشهادات الكثيرة التي جُمعت، أنه يجب اعتبار جيش الإسلام مسؤولاً عن اختفاء المدافعين عن حقوق الإنسان الأربعة”.
ترزح سوريا تحت عبء دوامة مستمرة تسودها الاضطرابات؛ تؤسس لتعميم العنف كوسيلة شرعية للتخلص من الظلم؛ ليتحول إلى ركيزة أساسية للتفاعل اليومي؛ فإن كثراً من مضطهدي اليوم -قادة وعناصر- يحملون علامات متلازمة الضحية المضطهِد.
وبينما يتقدم المسار القضائي في فرنسا في توضيح ولاية القانون بناءً على الأدلة المتوافرة ضد المتحدث باسم جيش الإسلام السابق، فإن مراجعة دلالات جذور هذه القضية ومحاولة فهمها كظاهرة، تمثلان خطوة ضرورية لا تقل أهمية لبناء إدراك جماعي جديد حول ماهية الأخلاقي وحدود المسؤولية والانحيازات والمقاربات السائدة حولها، بهدف وضع حد لدائرة العنف المتواصلة، ولتقديم نموذج مختلف عما طبعه القرن الماضي من عنف وإفلات من العقاب.
إقرأوا أيضاً: