أعد هذا التحقيق علياء يحيى بدعم من “Journalismfund Europe”
يُعدّ حرق الغاز هو المصدر الثالث للتلوث المحلي في مصر، وحرق غاز الشعلة مقصود به حرق الغاز المتصاعد من المواقع البترولية أثناء عملية التنقيب أو التكرير، وهو غاز الميثان، وإذا تم حرقه يتحول إلى غاز ثاني أكسيد الكربون؛ مما يزيد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، كما يُعتبر إهداراً لمصدر طبيعي ثمين حيث يمكن استخدام هذا الغاز لتوليد الطاقة.
وفق بيانات القمر الصناعي “GGFR” في عام 2020، تحتل مصر المرتبة 13 بين أكبر دول حرق الغاز في العالم، وذلك بحسب ما أعلنته وزارة البترول المصرية، كما أن التقاط أكثر من ملياري متر مكعب من الغاز المحترق في مصر، يمكن أن يوفر خمسة في المائة من احتياجات الطاقة الوطنية، كانت الوزارة قد أعلنت تشكيل لجنة مسؤولة عن مراقبة حرق الغاز وتعزيز مشاريع الحد منه، بالتعاون مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وأعدت الوزارة منهجية القياس والإبلاغ والتحقق من حرق الغاز وتعزيز مشاريع التخفيض.
يأتي هذا التحقيق في سياق سلسلة من التحقيقات الاستقصائية ضمن مشروع “إشعال السماء” العابر للحدود حول حرق الغاز، أو ما يُعرف بالـ “flaring” بقيادة (European Investigative Collaborations EIC) بالتعاون مع منظمة التحقيقات البيئية ((Environmental Investigative Forum (EIF) وعدد من المنصات الإعلامية من بينها موقع “درج”.
يتناول المشروع انبعاثات حرق الغاز في 18 دولة في أفريقيا والشرق الأوسط. قام فريق المشروع بدمج بيانات انبعاثات حرق الغاز من “Skytruth” مع خرائط الامتيازات/ التصاريح النفطية والغازية، وذلك لحساب انبعاثات حرق الغاز السنوية لكل أصل (حقول النفط والغاز، المصافي، مصانع الغاز الطبيعي المسال…) في دول عدة من بينها مصر بين عامي 2012 و2022.
تشير بيانات المشروع إلى أن إجمالي حجم الحرق في مصر انخفض من نحو 3.5 مليارات متر مكعب في عام 2012 إلى نحو 3.1 مليار متر مكعب في عام 2022، أي أن نسبة الانخفاض بلغت نحو 11.43%. وقد نتج عن ذلك انبعاث 9 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في عام 2012 و8 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في عام 2022، بنسبة انخفاض نحو 11.11%. بينما تظهر البيانات أن حجم الغاز المحترق وصل إلى ذروته في بداية عام 2016، فبلغ 4.2 مليار متر مكعب.
أما بحسب بيانات البنك الدولي فقد بلغ متوسط حجم الغاز المحترق في جمهورية مصر العربية 2.7 مليارات متر مكعب في عام 2012، وارتفع إلى 2.8 مليارات متر مكعب في الفترة 2014-2016، وانخفض إلى 2.0 مليار متر مكعب في عام 2022، ولم تتغير شدة الحرق كثيراً خلال هذه الفترة، لكنها أظهرت انخفاضاً مطرداً منذ عام 2020.
وكان هناك 146 موقعاً فردياً للحرق في أحدث تعداد له أُجري في عام 2022، في عام 2017، أقرت الحكومة المصرية مبادرة البنك الدولي “صفر حرق روتيني بحلول عام 2030″، فضلاً عن أن مصر تشارك في التعهد العالمي للميثان.
بحسب بيانات الأقمار الصناعية الصادرة عن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، احتلت مصر المرتبة العشرين باستمرار بين أكبر 20 دولة في العالم من حيث حرق الغاز، وذلك خلال الفترة بين عامي 2007 حتى 2011، حيث قُدِّرت الكميات الإجمالية للغاز المحترق بنحو 8.1 مليارات متر مكعب؛ رصدت ورقة بحثية أعدها باحثون من جامعة إيراسموس الهولندية وجامعة تينيسي الأميركية، ونشرت في دورية ساينس دايركت أن حرق غاز الشعلة يمثل عائدات سنوية تُعتبر ضائعة؛ وتُقدر قيمتها بما يعادل نحو 4.2 مليار دولار أميركي.
حسب الدراسة نفسها، يمكن التخلي عن حرق غاز الشعلة عبر التقاط المنتجات الثانوية الغازية من خلال بعض المصافي واستخدامها لتوليد الطاقة، ومع ذلك فإن جدوى مشاريع استعادة غاز الحرق مقيدة في العديد من الدول، بسبب ارتفاع تكاليف تطوير المشروع ونقص التمويل ودعم الطاقة، يمكن لآلية التنمية النظيفة أن تلعب دوراً محورياً في التغلب على الحواجز التي تواجه مشاريع استعادة غاز الحرق في الدول النامية ومنها مصر، خاصة في ضوء أزمات انقطاع التيار الكهربائي وما يثيره من غضب لدى المصريين.
وكانت وزارة البترول أعلنت في شهر إبريل/ نيسان من عام 2023 عن 12 مشروعاً في شركات: “خالدة- عجيبة- بتروبل- بدر الدين- بتروسنان- برج العرب- زيتكو- جمصة- نوربيتكو- بتروشهد- بتروسيلا- القاهرة لتكرير البترول”، وذلك للاستفادة من غاز الشعلة ضمن مشروع استرجاع غاز الشعلة، وأنها حققت توفيراً ناهز 2.8 مليارات جنيه سنوياً، نتيجة استخدام غازات الشعلة المسترجع في التشغيل كبديل للسولار، ويُذكر أن مصر انضمت إلى مبادرة التعهد العالمي لخفض انبعاثات الميثان فى قطاع البترول والغاز عام 2022.
الأرباح أولاً
معايير الاتحاد الأوروبي بالنسبة للاستفادة من غاز الشعلة تعتبر هي الأفضل للحفاظ على البيئة والاستفادة من الغاز في توليد الطاقة، وإن كان يتم تطبيقها داخل القارة الأوروبية فقط، وفي كل بلد يتم العمل وفق المعايير السارية فيه.
المهندس صلاح حافظ نائب رئيس الهيئة العامة للبترول سابقاً، قال في تصريحاته ل”درج” إن “غاز الشغلة هو بمثابة تنفيس للضغط الشديد تحت الأرض الناتج عن عملية التنقيب عن البترول، وعادة عند التنقيب يكون هناك نسبة غاز أو بترول بدون نسبة من الغاز وهو أمر قليل، وهناك أنواع من البترول تتحول إلى متكثفات تحت نسبة ضغط تبدأ في تكوين زيت خفيف، وعندما يتم استخراجه يجتمع مع الغاز ويتم استخراجهما معاً”.
وأضاف حافظ أن “الغاز له عدة أنواع منها: ميثان وبروبان وإيثان والبنتان، وكلما كانت الغازات بنسبة أثقل كلما كانت مفيدة في الاستخدام، والغاز الطبيعي عبارة عن غاز الميثان، أما الغازات الأخرى فمنها ما يستخدم في البوتاجاز، ومن الممكن أن يتم تصديرها بعد ضغطها”.
ولفت إلى أن “غازات أخرى مثل ثاني أكسيد الكربون أو أكاسيد الكبريت عند خروجها الغلاف الجوي يكون لها تأثيرات ضارة؛ لذلك يتم فصلها ثم حرقها”، مشيراً إلى أن “غالبية الدول العربية استمرت في عمليات حرق غاز الشعلة على مدار سنوات، وأن مصر هي أول بلد استفاد من الغاز بتمويل من البنك الدولي، وكان من أبرز التجارب تمويل نقل الغازات المرافق للتنقيب البترولي من شرق خليج السويس إلى غرب خليج السويس، وإنتاج البوتاجاز وكل المنتجات الأخرى”.
وأوضح أن “شركات البترول الأجنبية تعمل وفق اتفاقية اقتسام الإنتاج، ومن ضمن البنود توضيح كيفية استخدام الغاز الموجود في الموقع، وما إذا كان سوف يُستخدم لتشغيل المولدات، أو أن يكون هناك توليد للطاقة في إدارة الحقول ويتم حرق النسبة المتبقية، أما إذا كان هناك نسبة بترول أكثر من الغاز فيتم الاستفادة من الغاز الموجود وتجنب الحرق من أجل تعظيم الاستفادة”.
وإذ تحدث عن الغاز الصادر أثناء عملية التنقيب الذي يتم فصله وحرقه، وهو بالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون، وفي حالة عدم الحرق يتصاعد غاز الميثان؛ وله أثر سلبي يتمثل في زيادة معدلات الاحتباس الحراري وذلك بدرجة أكبر من ثاني أكسيد الكربون، قال “إن الاتحاد الأوروبي نظراً للالتزامات التي تقضي بتقليل الانبعاثات المؤدية إلى الاحتباس الحراري تم وضع معايير جديدة تقضي بالوصول إلى نسبة انبعاثات صفرية Zero flaring، وفي مصر قبل حوالي عشر سنوات بدأ بحث هذا الاجاه لوقف الانبعاثات والاستفادة من غاز الشعلة، لكن يتم ذلك عبر إجراء دراسات أثناء إجراء اتفاقيات اقتسام الإنتاج التي تتم وفق شرط عدم الضرر بمصلحة المستثمر، وفي بعض الأحيان تكون الاستفادة من غاز الشعلة مكلفة على الجانبين، بالتالي هنا يكون الاتفاق غير اقتصادي أي غير مربح ولا يؤدي إلى استرداد التكاليف، بالتالي لا يتم الاستفادة من الغاز”.
كان المهندس صلاح حافظ واحداً من المشاركين في صياغة قانون البيئة وأوضح أنه اقترح وضع بند يقضي بالاستفادة من غاز الشعلة بدلاً من الحرق، سواء في المواقع البترولية للاستخراج أو التكرير، لكن الأمر يخضع لطبيعة كل اتفاقية بترولية والعائد المادي المتحقق منها، لافتاً إلى أن “لأرقام الحالية الخاصة بحرق غاز الشعلة ربما أقل من السنوات السابقة، لأن الموارد بدأت تنضب بشكل طبيعي ولو كانت الإيرادات قليلة تزداد التكلفة”.
تكشف بيانات المشروع أن الحقول التالية كانت الأعلى في حجم الحرق بين عامي 2012 و2022:
– غرب مليحة: بلغ مستوى الحرق 5.59 مليارات متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تصل إلى 14.4 مليون طن.
– كلابشة – غرب كلابشة: بلغ مستوى الحرق 2.25 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ 5.8 مليون طن.
– مصنع الغاز الطبيعي المسال في إدكو: سجل حرقاً بحجم 1.59 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تصل إلى 4.1 مليون طن.
– مصنع إيثيدكو: بلغ مستوى الحرق 1.44 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ 3.7 مليون طن.
– شقير: سجل حرقاً بحجم 1.44 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تصل إلى 3.7 مليون طن.
– علم الشاويش -6 مصر: بلغ مستوى الحرق 1.032 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ حوالي 2.66 مليون طن.
حقل أبو ماضي
اكتُشف أول حقل بري للغاز في منطقة أبو ماضي في دلتا النيل عام 1967 من خلال شركة “بلاعيم” للبترول، ويقع حقل أبو ماضي في مركز بلقاس في محافظة الدقهلية في الجزء الشمالي من دلتا النيل، وعلى بعد نحو 180 كيلو متراً شمال القاهرة، وما يقرب من 8 كيلومترات من البحر المتوسط، ويوجد تكوين خزان أبو ماضي على أعماق تتراوح بين 3000 و3400 متر تقريباً تحت سطح البحر، ويجري الإنتاج بين مستويين حاملين للغاز هما المستويان الثاني والثالث.
وتبلغ مساحة دلتا النيل المصرية نحو 60 ألف كيلومتر مربع، وهي جزء من حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، ويُوَفر نحو ثلثي إنتاج الغاز في مصر من خلال العديد من الحقول في الدلتا، وتمتلك دلتا النيل مخزونات غازية ضخمة، إذ إن اكتشافاتها تمثّل نحو 82% من إجمالي اكتشافات الغاز المصرية، باحتياطي يبلغ 58 تريليون قدم مكعبة، وفق الدراسة البحثية المنشورة في دورية “نيتشر”.
بحسب بيانات المشروع، بلغ حجم الحرق في حقل أبو ماضي نحو 0.7 مليارات متر مكعب بين عامي 2012 و2022، نتج عنه نحو 1.9 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.
تضم المنطقة عدة منشآت أبرزها مكب القمامة الضخم، ويضم المدفن الصحي للمخلفات الصلبة في قلابشو ومصنع تدوير قمامة بلقاس، الذي أنشأته محافظة الدقهلية عام 2021 وهو على مساحة قدرها 50 فداناً.
صلاح (اسم مستعار) لشخص من أهالي عزبة موسى العرب وهي قرية تابعة لمركز بلقاس التابع لمحافظة الدقهلية، ويقع منزله على مقربة من حقل أبو ماضي، كتلة من الملوثات ما بين مصنعين لإنتاج الطوب الأحمر موجودة في المنطقة، إلى جوار جبل كبير ولكن ليس من الصخور بل من القمامة المتراكمة عبر السنين، ثم حقل البترول “أبو ماضي“، يقول صلاح إنه كان يشم أحياناً رائحة غاز نفاذة، كما أن أبناءه ضاقت صدورهم من استمرار انبعاث الروائح من المكان، لذلك قرر ترك المنزل الذي بذل ما يقرب من عشرين عاماً لبنائه لكي يضم أسرته، إلى جانب أنه يعمل في المنطقة نفسها، وكان هذا بمثابة كابوس بالنسبة إليه.
جدير بالذكر أن الزيارة الميدانية لموقع حقل أبو ماضي كانت مواكبة لإعلان محافظة الدقهلية احتمالية وجود انبعاث رائحة الغاز، وانتشارها على طريق بلقاس- شربين، مؤكدة أنها ستكون ناتجة عن تعبئة الرائحة في محطة تخفيض الضغط.
“لا يوجد لدينا مدفن صحي للقمامة ولا وسيلة آمنة للتخلص من مياه الصرف الزراعي”، بهذه العبارة عبر صلاح عن شكواه من مقدار التلوث البيئي، الذي يتعرض له ويفكر بسببه في ترك مسكنه الذي يملكه والانتقال إلى منزل مستأجر في مدينة دمياط الجديدة، للبحث عن هواء نظيف بعد أن اختنقت رئتيه من التلوث، وضاقت أنفاس أبنائه من الروائح.
الشكاوى المتكررة تظل بلا تجاوب يُذكر، هذا هو الوضع الذي وصفه صلاح عندما حدث حراك تجاه مدفن القمامة المواجه لمصنع شركة الدقهلية لصناعة وتكرير السكر، حيث “تم تغطية جانب من أكوام القمامة المواجهة للمصنع بالجير الأبيض”، وهو ما تم رصده خلال الجولة الميدانية في المنطقة.
الأراضي الزراعية المحيطة بحقل أبو ماضي وصفها حسن (اسم مستعار) بأن “النبات فيها يحترق وكأنه مروي بحمض الأسيد المعروف شعبياً بمياه النار”، وذلك لوصف شدة الحرارة في المنطقة التي تضر غالبية المزروعات حسب تقديره، لافتاً إلى أن “معظم المزروعات تتنوع ما بين البطيخ والطماطم والخيار والكنتالوب؛ وهي ثمار تحرقها الحرارة الشديدة”.
معتصم (اسم مستعار) يسكن على مسافة لا تزيد عن 500 متر من حقل أبو ماضي، قال إن “كومة المخلفات الملقاة في المنطقة إلى جانب مصنع السكر وما يخرج منها من انبعاثات ضارة تخنق الأنوف، هي سبب ما يعانيه غالبية السكان من الأمراض الصدرية لا سيما الأطفال وكبار السن”، وأصر معتصم على التأكيد أن المشكلات البيئية في المنطقة لا علاقة لها بحقل البترول أبو ماضي، لإن بعض أقاربه يعملون في الحقل من دون أن يسبب ذلك لهم أية مشكلات صحية، وقال إن “حقل البترول موجود في المنطقة منذ سنوات طويلة ولم يسبب أي ضرر يُذكر”، إلا أنه تحدث عن حالات الولادة المبكرة وتشوه الأجنة التي تحدث بخلاف ما كان معتاداً من قبل.
يرى معتصم أن منطقته مظلومة؛ نظراً لكل ما يوجد فيها من مسببات للتلوث؛ أسوأها على الإطلاق أكوام القمامة المتراكمة، إلى جانب رائحة الحرق الصادرة عن مصنع السكر، وقال إن “أهالي القرية وجهوا الكثير من الشكاوى للمحافظ ولأعضاء البرلمان للتعبير عن تضررهم من هذه الملوثات، وتلقوا الكثير من الوعود بالحل، لكن الوضع بقي على ما هو عليه”، هذا بالإضافة إلى الرعاية الصحية التي تكاد تكون معدومة، فهي ما بين وحدة صحية تغلق أبوابها أكثر مما تفتحها، ويغيب عنها العلاج والمعالج على حد سواء، وبين مستشفى في مركز بلقاس، ووصفه بأن ما ينقصه أكثر مما يمتلكه، وأوضح أنه “في الطوارئ الصحية يذهب المرضى إلى مدينة المنصورة أو مدينة دمياط الجديدة، ولكن عادة ما تكون الصيدليات هي البديل الأقرب لهم للحصول على علاج”.
يكمل معتصم الحديث عن حقل أبو ماضي قائلاً إن “تشغيل العمالة الموجودة في القرية بالأخص الشباب في الموقع البترولي، هو كل ما يأمل أن يحدث لأهالي قريته”، لافتاً إلى أنه “لا ينتظر من القائمين على الموقع البترولي القيام بأي خدمات مجتمعية لتحسين جودة الحياة في المنطقة”، مشيراً إلى أن “الطريق الذي يوصل إلى الموقع نفسه يحتاج إلى الترميم والإصلاح”، وهو ما يعتبره “مسؤولية الدولة”، واصفاً الوضع بأنه “مسلسل مستمر من الإهمال”.
“أنا من أبو ماضي أرضي وحياتي في مواجهة الحقل” هكذا قال حمدي (اسم مستعار) مكرراً الحديث السابق عن مصنع سكر الدقهلية، الذي يعتبره “الأكثر تلويثاً للمنطقة، وتزداد المعاناة منه بداية من شهر فبراير/ شباط حتى نهاية يوليو/ تموز من كل عام”، وقال: “مصنع الغاز لا يضرنا بدرجة كبيرة، والضرر الأساسي هو مدفن القمامة وليس البترول، لأن أناساً كثراً في المنطقة يعملون في الحقل وينتفعون منه، لا يمكننا الحديث عن أية سلبيات تخصه، لأننا نهتم بحماية مصالح بعضنا بعضاً”.
وأشار حمدي في حديثه إلى المعدلات المرتفعة للإصابة بحساسية الصدر في قريته، مكرراً الهجوم على المدفن الصحي للقمامة.
قاطع حديثه دخان كثيف حوّل بياض في أعين الموجودين إلى اللون الأحمر؛ بسبب الدخان الصادر عن مصنع الطوب الأحمر، فقال: “نحن هنا نحمي بعضنا بعضاً، وأعتقد أن هذا الدخان هو بسبب القمامة التي تشتعل ذاتياً لأن أغلبها من البلاستيك، وبالنسبة للأراضي الزراعية ضررنا الأساسي في المياه، كلنا نشرب ونزرع بمياه صرف زراعي التي تكاد تكون بلون عصير المانجو”.
بعد أن أمضت معدة التحقيق مدة ساعتين في المنطقة أصيبت بالاختناق والسعال، وهو ما أضحك المتجمهرين حولها، فقال أحدهم إن “هذا الأمر يتكرر مع زوار المنطقة، الذين لا يمكنهم أن يتحملوا ما يحمله الهواء من روائح تضيق بها الأنوف والصدور، في حين يبدو أن السكان اعتادوا عليها”، وعند السؤال عن الأوضاع الصحية لسكان المنطقة المحيطة بحقل أبو ماضي، رفض أحد الحضور الحديث، واكتفى بالقول إنها “أمراض عادية مثل أي منطقة أخرى”، ولدى سؤاله عن وضع إصابات الجهاز التنفسي، أجاب بأن “غالبية الأطفال وكبار السن يعانون من حساسية الصدر، وأن الأمر يشمل حديثي الولادة”، كما تحدث عن الولادات المبكرة وحالات الإجهاض، وهو ما اشترك فيه مع المتحدثين الخمسة الآخرين.
بئر غاز دسوق
على مساحة 8 أفدنة ونصف الفدان في قرية تابعة لمركز دسوق في محافظة كفر الشيخ، تقع بئر غاز دسوق التي تعتبر ضمن العديد من الآبار الموجودة في منطقة مركز سيدي سالم، وهي أكبر حقول دلتا النيل شمالي مصر المنتجة للغاز الطبيعي، وتعمل كل من شركتي شركة “السويس للزيت” المعروفة باسم “سوكو” و”آر دبليو إي ديا” على إنتاج الغاز في الحقل، وهو أول مشروع تقوم شركة “ديا” الإسبانية بتشغيله، وواصلت تشغيله “وينترشال ديا”، يوشتمل على تطوير سبعة حقول للغاز في دلتا النيل.
الحاج مصطفى (سبعيني) من سكتن مركز الرياض الذي يقع فيه حقل دسوق، قال إنه يلجأ إلى النوم لينسى آلامه؛ وباغتته الدموع حين تذكّر ابنته شروق المهندسة التي رحلت أثناء جائحة “كوفيد 19” بمجرد التقاطها العدوى، بسبب أزمات التنفس التي كانت تعاني منها، عمل الحاج مصطفى مدرساً لمادة الفلسفة على مدار ما يقرب من أربعين عاماً، وهو حالياً يحاول ملء وقته بتجارة السيارات المستعملة بمشاركة أخوته، وقال إن الأمراض التنفسية تنتشر في القرية بصورة كبيرة، وحصد الوباء الكثير من الأرواح وسط عجز الأطباء.
صلاح محمد هو الآخر من سكان مركز الرياض، رافق معدي التقرير ل “درج” في المنطقة، وقال إن “المشكلة الأكبر في المنطقة تتمثل في مصنع شركة الدلتا للسكر، الذي ينتج عنه انبعاثات ضارة ورائحة حرق تكاد تكتم الأنفاس على امتداد فترة تشغيله بين شهر فبراير/ شباط ونهاية شهر يوليو/ تموز من كل عام”، موضحاً أن “اتجاه الهواء يساعد على نشر رائحة الحرق”، في الوقت نفسه أكد أنه “لا توجد شكاوى من موقع بئر غاز دسوق”.
ووسط طرقات غير ممهدة في الغالب، يُعتبر الطريق المؤدي إلى بئر غاز دسوق هو الوحيد الممهد، ويمتد وسط أراضٍ زراعية ويحيط به عدد قليل من البيوت الصغيرة، علاوة على سيارات الأتوبيس الخاصة بنقل العمال من وإلى الموقع البترولي، وفي منزل صغير مواجه له تحدثت ساكنة المنزل عن مشكلة نقص المياه وصعوبة الحصول على مياه نظيفة، وعند سؤالها عما إذا كانت لديها أية شكاوى بخصوص بئر الغاز دسوق ردت بالنفي، مؤكدة أنها لم تشم “أية رائحة للغاز منذ بدء العمل في الموقع”، وأفادت أن “أمراض الكلى نتيجة تلوث المياه هي الأكثر انتشاراً في المنطقة، علاوة على تدني مستوى الخدمات الطبية المقدمة، والمركز الطبي الخاص بالمنطقة، الذي بدأوا ببناءه منذ 6 سنوات ما زال تحت الإنشاء، وإلى جواره مستشفى خاص بنُي من بعده ويعمل الآن بكامل طاقته”.
بحسب صلاح محمد “نسبة أهالي المنطقة الذين يعملون في موقع بئر الغاز دسوق ليست كبيرة”، وأشار إلى أن “الموقع له عدة عيون في أكثر من أرض زراعية في المنطقة، ويتم الانتفاع بها عبر عقود مع ملاك الأراضي”، لافتاً إلى “عدم وجود شكاوى في هذا الشأن”.
تشتهر محافظة كفر الشيخ بزراعة الأرز، وهو ما تم التضييق عليه وذلك بتقليل مساحة الأرز المزروعة؛ نتيجة نقص إمدادات المياه، والملاحظ بحسب الجولة الميدانية وتصريحات المصادر في المنطقة المحيطة بموقع بئر غاز دسوق، فإن غالبية الأراضي مزروعة بالقطن، وبحسب تقدير الخبراء في مجال الزراعة ومنهم دكتور جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي في “المركز القومي للبحوث الزراعية”، يُعدّ القطن هو المنتج الزراعي الوحيد الذي يمكنه تحمل الزيادات المستمرة في معدلات درجات الحرارة، ولا يتأثر سلباً بفعل التغير المناخي.
الأمر اللافت أيضاً خلال الجولة الميدانية هو انتشار أفران مبنية من الطوب اللبن التي يتم إشعالها بقش الأرز، وعند السؤال عن عملية حرق قش الأرز نفى أهالي المنطقة الأمر، وقال صلاح محمد إن “سعر الوقود أصبح مرتفعاً، مما دفع الأهالي للاستفادة من القش واستخدامه لإشعال الأفران”.
الشكاوى من تدني خدمات الرعاية الصحية المقدمة داخل مركز الرياض في محافظة كفر الشيخ، هو أهم ما يسيطر على أحاديث أهالي المنطقة، وأوضح رجب حسين أن “غالبية الأهالي تعاني من انتشار الأمراض الصدرية علاوة على الفشل الكلوي والكبدي”، وأكد أن “عدم وجود ردة فعل تجاه شكواهم هو أكثر ما يُغضبهم، بخاصة أنهم يستخدمون مياه الصرف الزراعي من أجل ري مزروعاتهم، وأحياناً تختلط بمياه الصرف الصحي، كما أن المركز الطبي الخاص في المنطقة يتم إعادة بناءه – لتدني حال المنشأة – منذ عام 2018 ويسير العمل فيه ببطء شديد، برغم أن مستشفى خاص تم بناؤه إلى جواره خلال مدة لم تتجاوز العام”.
وبمعاينة الوحدة الصحية لمركز الرياض، وهي عبارة عن مبنى خالٍ من أجهزة التكييف، ولا يوجد في مدخله مدرج يسمح بصعود الكرسي المتحرك أو السرير المتنقل المستخدم عادة لنقل المرضى، كما أن الرائحة الكريهة تفوح من المكان الذي تنتشر فيه قطط الشارع، أحد الأطباء العاملين في الوحدة الصحية أفاد أن “العمل يتم بالجهود الذاتية وتبرعات الأهالي” وأن “أكياس الدم واللقاحات وغيرها التي يتم عادة حفظها في وحدات تبريد متنقلة، تم شراؤها بالجهود الذاتية، ولا يُقدم المركز سوى خدمات صحية بسيطة”.
الأثر الصحي
ذكرت دراسة بحثية نشرتها دورية ” iopscience” أن أكثر من 500 ألف أميركي يعيشون على بعد 3 أميال من شعلات الغاز الطبيعي، معرضون لخطر الآثار الصحية الضارة؛ تصل إلى 7500 حالة وفاة مبكرة و410 ألف حالة ربو سنوياً؛ حيث تتسبب الانبعاثات الناتجة عن الحرق في زيادة أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب والسكتات الدماغية، بسبب التعرض لجزيئات الكربون الأسود، كما تشير الدراسات إلى وجود ارتباط ملحوظ بين نشاط الحرق وزيادة خطر الولادة المبكرة .
توصلت دراسة جديدة أجراها باحثون في كلية الصحة العامة، ومعهد جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل للبيئة وصندوق الدفاع البيئي، إلى أن التلوث الناجم عن تنفيس الغازات وحرقها أدى إلى أضرار صحية بقيمة 7.4 مليارات دولار، وأكثر من 700 حالة وفاة مبكرة، و73 ألف حالة تفاقم للربو بين الأطفال سنوياً، ووجد الباحثون أيضاً أن الانبعاثات لا يتم الإبلاغ عنها بشكل كافٍ، وأن التحكم بالانبعاثات ليس مربحاً للمشغلين فحسب، بل يمكن أن يحسّن بشكل كبير الصحة العامة في المجتمعات المحيطة.
البيانات والأدلة المقدمة في هذا التحقيق تدق ناقوس الخطر. حرق الغاز في مصر ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هو قضية تتعلق بالصحة العامة والتنمية المستدامة. يجب على الحكومة والشركات العاملة في قطاع الطاقة، والمجتمع المدني، والجمهور، العمل معاً لتطوير حلول مستدامة لهذه المشكلة. من الضروري الاستثمار في التقنيات الحديثة التي تهدف إلى الاستفادة من الغاز بشكل فعّال، وتقليل الانبعاثات الضارّة، وفي عالم يسعى جاهداً للانتقال إلى اقتصاد أخضر، تبرز مصر كدولة تمتلك إمكانات هائلة للقيادة في هذا المجال. ومع ذلك، فإن استمرار حرق الغاز يعوق هذا التحول. يجب على مصر أن تستلهم من تجارب الدول الأخرى التي نجحت في الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وأن تتبنى سياسات طموحة لتحقيق الحياد الكربوني.
إقرأوا أيضاً: