أعد هذا التحقيق حنان زبيس بدعم من Journalismfund Europe
على بعد أمتار من حقل زياتين، وغير بعيد عن الطريق الرابطة بين المحرس وصفاقس (270 كلم من العاصمة التونسية)، تطل مدخنة يحترق منها الغاز. يبدو المشهد مألوفاً بالنسبة الى سكان المنطقة، بحيث ألا أحد يعير اهتماماً للشعلة المنبعثة من المدخنة الموجودة في محطة حنبعل لتكرير الغاز الطبيعي في صفاقس، والتي تديرها شركة شال البريطانية، بعد شرائها عام 2015 لشركة بريتش غاز التي كانت تمتلكها سابقاً.
حسب بيانات حصل عليها مشروع “إحراق السماء”، فإن المحطة المرتبطة بحقل ميسكار للبترول في تونس حرقت ما يعادل 0.009 مليار متر مكعب من الغاز ما بين عامي 2012 و 2022، ما أدى إلى انبعاث نحو 25 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون ذهبت في الهواء.
هذه الغازات المضرة يتنفسها السكان الذين يعيشون في حي سكني صغير يُدعى حي بو عكازين على بعد 3 كيلومترات تقريباً من مقر المحطة، وحيث يزرعون الزياتين ولكن أيضاً الفلفل في البيوت المكيّفة.
في 2012، جاء في تقرير دائرة المحاسبات التونسية أن معدل الغاز الضائع في حقول إنتاج الغاز نتيجة الحرق بلغ معدل 11 في المئة من الإنتاج الإجمالي للغاز في تونس لعام 2010 (أي ما يعادل 2.7 مليون طن)، “ما من شأنه أن يلحق الضرر بالمحيط ويتسبب في إهدار جانب من الثروة الوطنية من الغاز”.
وفي رد وزارة الصناعة على التقرير، قالت إنه “تم منذ 2005 إعلام الشركات البترولية صاحبة الامتيازات المنتجة بضرورة إيجاد الحلول الفنية الكفيلة بالتقليص من حرق الغاز، وذلك بصفة تدريجية، إلى أن يتم تفادي حرقه نهائياً”.
ولكن على مستوى الواقع، نجد أن شركات بترولية عدة في تونس تواصل عمليات حرق الغاز، مستغلة غياب تشريعات وطنية تمنع ذلك، ومتسبّبة في إفراز غازات في الغلاف الجوي تزيد في الاحتباس الحراري كالميثان وثاني أكسيد الكربون وتتسبّب في مشاكل بيئية.
يأتي هذا التحقيق في سياق سلسلة من التحقيقات الاستقصائية ضمن مشروع “إشعال السماء” العابر للحدود حول حرق الغاز أو ما يُعرف بالـ flaring بقيادة (European Investigative Collaborations EIC)، بالتعاون مع منظّمة التحقيقات البيئية ((Environmental Investigative Forum (EIF) وعدد من المنصّات الإعلامية، من بينها موقع “درج”.
يتناول المشروع انبعاثات حرق الغاز في 18 دولة في أفريقيا والشرق الأوسط. دمج فريق المشروع بيانات انبعاثات حرق الغاز من Skytruth مع خرائط الامتيازات/التصاريح النفطية والغازية، وذلك لحساب انبعاثات حرق الغاز السنوية لكل أصل (حقول النفط والغاز، المصافي، مصانع الغاز الطبيعي المسال…) في دول عدّة من بينها تونس بين عامي 2012 و2022.
بحسب بيانات المشروع، بلغ معدل حرق الغاز في تونس 0.3 مليار متر مكعب في عام 2022. وأدى ذلك إلى توليد نحو 816 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون. ولئن شهد هذا المعدل انحفاضاً مقارنة بسنة 2012، إذ كان يبلغ 0.8 مليار متر مكعب، إلا أنه لا يعني أن تونس غير مطالبة بزيادة جهودها لتخفيض عمليات الحرق والتخلي عنها تدريجياً، نظرا الى ما يمكن أن تؤدي إليه من أضرار بيئية وصحية للسكان، حسب ما أثبتته الدراسات العالمية.
غازات من دون لون أو رائحة ولكن ذات أضرار عالية
في الطرقات شبه الخالية من السكان في قيض الصيف في حي بوعكازين بين المحرس وصفاقس، اعترضنا فلاح سألناه عما إذا كان الغاز المحترق القادم من محطة حنبعل لتكرير الغاز الطبيعي يُسبّب له ضرراً في التنفس أو يؤثر سلباً على مزروعاته، فأجاب: “المحطة موجودة منذ سنوات، ولم ألاحظ أي ضرر”. الإجابة نفسها جاءت على لسان شاب عشريني من سكان الحي، كان ماراً بالقرب من بيوت الفلفل.
هذه الإجابات بالسلب ليست غريبة، إذ إن الغاز المحترق وإن كان محملاً بالكثير من المواد الخطرة مثل ثاني أكسيد الكربون، يكون غالباً من دون لون أو رائحة، ولكن ذلك لا ينفي الضرر الذي يمكن أن يُلحقه على المدى الطويل على مستوى الزراعة وصحة الإنسان. وهو ما يؤكده الخبير في قطاع المحروقات، غازي بن جميع، بقوله “حتى لو كانت الكميات التي يتم التخلص منها بالحرق قليلة، فهذا لا ينفي إمكانية حصول ضرر بيئي وصحي على المدى الطويل.”
من جهته، يرى زياد الملولي، ناشط مدني وصاحب حملة “سيب التروتوار” للحفاظ على جمال مدينة صفاقس ونظافتها، أن “معظم السكان الذين يقطنون قريباً من الحقول النفطية أو محطات الغاز لا ينتبهون إلى الغازات التي تفرزها وإلى الضرر الذي قد ينجم عنها. وحتى لو علموا بوجوده، فلن يعترفوا به لأن معظمهم يشتغلون في هذه الحقول أو لهم أقرباء يعملون فيها ولا يريدون فقدان مواطن شغلهم”.
ويعني الحرق Flaring حرق الغازات المصاحبة لعمليات إنتاج النفط الخام أو الغاز في الحقول البترولية ومحطات الغاز للتخلص منه أو لأغراض تخص السلامة. ويعدّ إطلاق الغاز في الغلاف الجوي من خلال الحرق والتنفيس (evacuation) ممارسة صناعية تعود إلى 160 عاماً، ويساهم حرق الغاز في تغير المناخ، ويؤثر على البيئة من خلال انبعاث ثاني أكسيد الكربون والميثان والكربون الأسود والملوثات الأخرى.
وتشير التقديرات العالمية إلى أن كل متر مكعب من الغاز المحروق ينتج نحو 2.8 كيلوغرام من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2). في حين من الممكن إعادة استعمال الغاز الذي يُحرق لتوليد الطاقة وبخاصة الكهرباء أو إعادة حقنه في الحقل نفسه (بترول أو غاز). وتبرر الَشركات النفطية مواصلة قيامها بالحرق بأن عملية إعادة الاستعمال مكلفة مقارنة بالإنتاج أو بالكميات التي يتم التخلص منها عبر حرقها. في حين يرى غازي بن جميع، الخبير في قطاع المحروقات، أن “عملية تحويل الغاز إلى كهرباء لا تكلف الكثير حتى وإن كانت كميات الغاز التي يراد التخلص منها قليلة، إذ توجد محطات صغيرة للقيام بذلك، لا تتجاوز كلفتها الـ 10 آلاف دولار”.
تشير تقديرات الشراكة العالمية للتخفيض من حرق غاز الميثان Global Flaring and Methane Reduction Partnership (GFMR) التي أطلقها البنك الدولي، إلى أن حرق الغاز العالمي ارتفع من 139 مليار متر مكعب في عام 2022 إلى 148 مليار متر مكعب في عام 2023. والميثان هو أحد الغازات الدفيئة القوية وله قدرة على إحداث الاحتباس الحراري بما يصل إلى 80 مرة أكبر من قدرة ثاني أكسيد الكربون. وتساهم أنشطة النفط والغاز في ما يقرب من خمس انبعاثات غاز الميثان العالمية الناتجة من النشاط البشري، كما أن ما يقرب من نصف هذه الانبعاثات يحدث في البلدان النامية.
وبالعودة إلى شركة شال، نجد أن الشركة حرقت إجمالي 0.09 مليار متر مكعب من الغاز في تونس ما بين 2012 و2022 في مختلف المواقع التي تشتغل فيها، وأدى ذلك إلى انبعاث 0.23 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون حسب بيانات المشروع، على رغم أن الشركة هي من ضمن الشركات المنضمة إلى مبادرة ” صفر حرق روتيني بحلول عام 2030″ Zero Routine Flaring by 2030 (ZRF) التي أطلقها البنك الدولي في 2015، والتي تُلزم الحكومات والشركات النفطية بإنهاء حرق الغاز الروتيني في موعد لا يتجاوز عام 2030.
يذكر كذلك أنه في المملكة البريطانية لا يمنع القانون القيام بالحرق ولكنه يشترط الحصول على ترخيص مسبق لذلك من هيئة النفط والغاز Oil and Gas Authority (OGA)، التي تعطي الموافقة على حرق الغاز أو تنفيسه من منشآت معالجة النفط أو الغاز، وذلك حسب قانون الطاقة لسنة 2016. في حين أنه لا يوجد في تونس قانون يمنع الحرق أو التنفيس، وهو ما يفتح المجال لشركات بترولية عدة مشتغلة في البلاد بالقيام بذلك بكل حرية.
في ردّها على أسئلة فريق المشروع، قالت شركة شال: “لم تعد شركة شال تشغل أصول إنتاج النفط والغاز في تونس، التي تتضمن حرق الغاز، منذ أن أعادت ترخيص حقل مسكار البحري إلى الحكومة التونسية في حزيران/ يونيو 2022. لا تزال شال تحتفظ بحصة 50 في المئة في حقل حنبعل، على الرغم من أن هذه العملية ليست مُدارة من شال. يقدم المشغل (APO) بيانات الحرق إلى شال. يتم تلخيص بيانات الحرق شهرياً في التقرير الشهري للصحة والسلامة والبيئة لـ APO. الأحجام منخفضة جداً، بما يتناسب مع الإنتاج”.
الشركات الاوروبية لا تحترم تعهداتها خارج بلدانها
شال ليست الشركة الوحيدة التي تقوم بالحرق في منطقة صفاقس، إذ تعرف الأخيرة بأنها العاصمة الاقتصادية لتونس وتتميز بكثافة سكانية عالية، كما تتمركز فيها منشآت بترولية عدة.
على بعد 25 كلم شمال غربي المدينة، يقع حقل النفط سيدي لتيم، الذي تديره الشركة الفرنسية – التونسية للنفط (CFTP). أنشئت هذه الشركة سنة 1968 بين الدولة التونسية والشركة الفرنسية للنفط (CFP)، وأسندت إليها رخصة البحث “صفاقس – قرقنة”، وأدت الأشغال المنجزة إلى العثور على اكتشاف حقلي “سيدي ليتيم” سنة 1971 والذي دخل طور الإنتاج سنة 1972، و”سيدي بحارة” سنة 1972.
يقع حقل النفط سيدي لتيم بين مزارع الزيتون، ويبعد نحو 15 كلم من قرية بئر الملولي حيث توجد مدرسة ابتدائية. عند الاقتراب من الحقل، تظهر بوضوح شعلة احتراق الغاز. وكان إنتاج حقل سيدي لتيم بلغ سنة 2021، 34 ألف متر مكعب من النفط الغاز، حسب ما جاء في موقع الشركة. كما يمر تحت مزارع الزيتون المحاذية للحقل خط أنابيب عالي الضغط يتم عبره إيصال النفط إلى ميناء ترابسا بالصخيرة (صفاقس) لتجميع البترول.
حسب البيانات التي في حوزتنا، فإن معدل حرق الغاز الذي أنتجته الشركة في تونس ما بين سنتي 2012 و2022 بلغ نحو 0.09 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وصلت إلى 0.2 مليون طن، وقد كان يبلغ 0.0007 مليار متر مكعب في عام 2012، ليصل إلى 0.006 مليار متر مكعب في عام 2022، أي أن هناك زيادة ملحوظة في معدل الحرق، وهو ما يتعارض إلى حد ما مع ما جاء في ميثاق السياسة البيئية للشركة، والذي تؤكد فيه عملها على حماية البيئة وصحة العاملين فيها.
حاولنا التواصل مع الشركة الفرنسية – التونسية للنفط عبر الإيميل لسؤالها حول سياساتها للتقليل من حرق الغاز، ولكننا لم نتلقّ رداً على أسئلتنا.
لا تقتصر عمليات حرق الغاز على هذين الموقعين فقط في صفاقس، فيمكن أن نضيف إليهما موقع قبيبة الحاجب الذي تمتلكه شركة طينة للخدمات البترولية Thyna Petroleum Services TPS، وهي شركة تمتلكها الشركة النرويجية Panoro Energy (49%) والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية ETAP .(51%) هذا الموقع هو من ضمن 5 امتيازات تمتلكها الشركة النرويجية لاستغلال حقول نفط بمنطقة صفاقس. وفي عام 2021، بلغ إجمالي الإنتاج 1.66 مليون برميل نفط.
أثبتت زيارتنا الميدانية لموقع قبيبة الحاجب أن عمليات الحرق موجودة وأن الحقل يقع بالقرب من مزارع زيتون وعلى بعد 3.4 كيلومتر من قرية قبيبة. وحسب بيانات المشروع، فإن معدل حرق الغاز الذي ينتجه هذا الموقع بلغ نحو 0.04 مليار متر مكعب ما بين 2012 و2022 مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وصلت إلى 110 آلاف طن.
الحرق هدر للغاز وخسائر اقتصادية كبيرة
حسب ما جاء في تقرير البنك الدولي حول تتبّع إحراق الغاز على مستوى العالم Global Gas Flaring Tracker لسنة 2024، أحرقت شركات النفط في العالم خلال سنة 2023 أكبر كمية من الغاز الطبيعي منذ خمس سنوات، أي نحو 148 مليار متر مكعب من الغاز في عام 2023، بزيادة قدرها 7 في المئة عن عام 2022، على الرغم من زيادة إنتاج النفط الخام بنسبة 1 في المئة فقط خلال 2023.
وعلى رغم أن تونس ليست من بين البلدان التسعة الأكثر إنتاجاً للنفط والمساهمة بالتالي في 75 في المئة من عمليات الحرق في العالم مثل نيجيريا والجزائر والعراق وليبيا وروسيا وإيران، إلا أنها تساهم في عمليات الحرق وانبعاثات الميثان، فحسب تقديرات GMRF بلغ الحجم السنوي لكميات الغاز المحروق في تونس 185.16 مليون متر مكعب سنة 2023، في حين كان سنة 2022، 279.13 مليون متر مكعب. يحدث هذا في حين تعاني تونس من انخفاض ملحوظ في إنتاج الغاز بنسبة 26 في المئة في تموز/ يوليو 2024 ليصل إلى 0.72 مليون طن، في حين بلغ 0.98 مليون طن في السنة الماضية، حسب ما جاء في النشرية الشهرية (تموز 2024) التي نشرها المرصد الوطني للطاقة والمناجم.
جاء في مقال ورد في Flareintel، وهو تطبيق يتّبع كل مكان لحرق الغاز في العالم باستعمال الأقمار الإصطناعية، أن “دول شمال إفريقيا مثل تونس وليبيا والجزائر ومصر تهدر 23 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً على المشاعل والفتحات والتسريبات (أي ما يعادل 15 في المئة من واردات الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي).
وورد أيضاً في المقال، أن “هناك فرصاً هائلة في ما يخص تجميع الغاز (بدل حرقه) في هذه البلدان، بما أنه يمكن التخفيف من التوهجات (الشعلات الناتجة من الحرق) من خلال التكنولوجيا التي أثبتت جدواها، نظراً الى أن الكثير من خطوط أنابيب الغاز في شمال أفريقيا تتمتع بقدرة فائضة. لذلك يمكن تحقيق مشاريع عدة جذابة تجارياً، لا سيما إذا حُدِّدت خارطة طريق واضحة”.
زيادة الاحتباس الحراري والمشاكل البيئية
عدا الخسائر الاقتصادية، يتسبب هدر الغاز المحترق في زيادة الاحتباس الحراري، بما أنه يشكل مصدراً مهماً لإطلاق الغازات الدفيئة مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. ولكن الميثان يُعدّ أكثر ضرراً على طبقة الأوزون، إذ تبلغ مساهمة كيلوغرام واحد من الميثان في الاحتباس الحراري أكثر من 21 مرة قدرة كيلوغرام واحد من ثاني أكسيد الكربون إذا ما احتُسب هذا التأثير على مدى مائة عام، حسب دراسة نشرها قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة إبادان في نيجيريا.
تنجم عن الحرق أيضاً مشاكل بيئية، فهو يتسبب في نزول ما يسمى بـ”االمطر الحمضي” الناتج عن حرق الغازات الحمضية، والتي بدورها تتحول إلى أكاسيد كبريت تلتحم في الغلاف الجوي، مع الأكسيجين والماء. وينتج من هذا المطر تلوث التربة والمياه وتآكل الأسطح، فمثلاً أدت الأمطار الحمضية الناجمة عن حرق الغاز إلى تغيير الغطاء النباتي في منطقة دلتا النيجر، كما أثبتت الدراسات العلمية التي أجريت حول منطقة جنوب شرقي نيجيريا (وهو بلد يعد من أكثر البلدان في العالم حرقاً للغاز) فقدان التربة خصوبتها وقدرتها على الزراعة المستدامة بسرعة بسبب تحمضها نتيجة الملوثات المختلفة المرتبطة بحرق الغاز في المنطقة. كما أثرت عمليات الحرق على محصول الذرة الذي شهد تراجعاً بسبب تأثر التربة، حسبما جاء في دراسة علمية بعنوان “التأثير العالمي لحرق الغاز” نشرت سنة 2012 في مجلة Scientific Research.
لا بد من الإشارة إلى أن الحقول الخمسة الأعلى في انبعاثات الحرق في تونس هي:
-بئر بن ترتر: 1.4 مليار متر مكعب من حرق الغاز، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تصل إلى 3.6 مليون طن.
– البرمة: 1.2 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ 3.1 مليون طن.
– عشتروت: 0.7 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تصل إلى 1.8 مليون طن.
– لعريش: 0.5 مليار متر مكعب، مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ 1.4 مليون طن.
للأسف لم يكن من الممكن زيارتها لأنها مصنفة “كمناطق عسكرية”.
حرق الغاز في المنطقة الصناعية بقابس
على بعد 2 كلم من مدينة قابس (400 كلم من تونس العاصمة)، تطالعك سحابة كبيرة من الدخان الأبيض والبرتقالي، آتية أساساً من المنطقة الصناعية حيث توجد مجموعة من المنشآت المتخصصة في قطاعي المحروقات والصناعات الكيميائية، وعلى رأسها المجمع الكيميائي بقابس الذي ينتج الفسفاط ويحوّله إلى حمض الفوسفوريك وإلى أسمدة، ويعرف بتلويثه للمنطقة عبر الغازات التي يُطلقها والتي يختلط فيها الأمونياك بغازات أخرى.
يحاول السكان المقيمون قريباً من المنطقة الصناعية سواء في بلديات غنوش أو بوشمة أو دائرة شط السلام، ألا يعيروا اهتماماً لهذا الدخان ذي الرائحة الخانقة، والذي تزيد الرياح من نطاق تأثيره، ولكن من دون جدوى. فالرائحة القوية، والمشاكل في التنفس التي تحدثها إلى حد الاختناق أحياناً، بالإضافة إلى الأثر البيئي على الزراعات الموجودة في الواحات المجاورة، لا يمكن تجاهلها.
وفقاً لدراسة أجرتها المفوضية الأوروبية في عام 2018 حول “تأثير التلوث الصناعي على اقتصاد منطقة قابس”، فإن المجمع الكيميائي بقابس مسؤول عن الملوثات الرئيسية مثل ثاني أكسيد الكبريت (SO2)، وفلوريد الهيدروجين (HF)، وأول أكسيد النيتروجين (NO)، والجسيمات (PM)، والأمونيا (NH3)، وأكاسيد النيتروجين (NOx)، والهيدروكربونات (HC) وأول أكسيد الكربون (CO).
في خضم هذا المشهد المقلق، توجد في المنطقة الصناعية بقابس محطة لمعالجة الغاز تابعة لشركة OMV النرويجية، وهي مربوطة عبر خط أنابيب بحقل نوارة لإنتاج الغاز الطبيعي في تطاوين بالجنوب التونسي الذي تمتلكه الشركة، بالشراكة مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.
تحرق هذه المحطة الغاز، وهو ما عايناه أثناء زيارتنا الميدانية للمنطقة من خلال وجود مدخنة تتصاعد منها شعلة الحرق.
حسب معطيات الأقمار الصناعية التي حصلنا عليها من موقع Skytruth، فإن معدل الحرق في المحطة بلغ 0.003 مليار متر مكعب ما بين عامي 2012 و 2022، متسبباً في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبلغ نحو 8 آلاف طن.
وإجمالاً، ساهمت شركة OMV النرويجية التي تشارك في استغلال ثمانية حقول للنفط والغاز في تونس، في إنتاج نحو 0.02 مليار متر مكعب في عام 2022 مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بلغت نحو 47 ألف طن.
يحصل هذا فيما الشركة النرويجية انضمت سنة 2017 إلى مبادرة ” صفر حرق روتيني بحلول عام 2030″ Zero Routine Flaring by 2030 (ZRF) التي أطلقها البنك الدولي. وعلى هذا الأساس تعهدت “بإنهاء عمليات الحرق والتنفيس الروتينية في المواقع التشغيلية الحالية من خلال تنفيذ جميع الحلول القابلة للتطبيق، في أقرب وقت ممكن، وفي موعد أقصاه عام 2030″، حسبما جاء في موقعها. كما تعهدت بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المباشرة بنحو 1.5 مليون طن سنوياً.
من جهة أخرى، فإن الحرق الروتيني ممنوع في النرويج منذ 1971 بالنسبة الى كل الحقول البترولية الموجودة على أراضيها. وهذا يلزم كل الشركات النرويجية المشتغلة في مجال النفط بأن تكون لديها حلول لتصريف الغاز، كما توافق السلطات النرويجية على أي حرق وتصريف لأسباب تتعلّق بالسلامة.
وهذا يؤكد أن الشركات الأوروبية التي تحترم التزاماتها في بلدانها، لا تفعل بالضرورة الشيء نفسه في البلدان التي تشتغل فيها خارج حدود الدول التي تنتمي إليها.
وللتذكير، تفرض اللائحة 1119/2021 للاتحاد الأوروبي الالتزام بتحقيق صافي انبعاثات صفرية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2050. لذلك، تمنع المادة 15 منها منعاً تاماً الحرق الروتيني والتهوئة إلا في حالات خاصة لها علاقة بحالات الطوارئ أو الأعطال أو المتطلبات الفنية أو لأسباب الأمنية.
التأثير الصحي للحرق
على بعد نحو 4 كلم من محطة الغاز التابعة للشركة النرويجية في المنطقة الصناعية بقابس، تقع بلدية بوشمة، ما أن تدخل إليها حتى تحس بثقل الهواء الملوث وتشعر سريعاً بصعوبة في التنفس وتهيج في العيون والجلد. لكن وسيم، صاحب محل لبيع الأجهزة هناك، يقول إن “هذه التأثيرات عادية، فنحن سكان بوشمة نتنفس الهواء الملوث يومياً، حتى أننا تعودنا عليه، فلم يعد يزعجنا”.
ولكن ذلك ليس ما لمسناه خلال زيارتنا لمركز الصحة الأساسية في بوشمة، فلئن لم يقبل الإطار الطبي هناك بالحديث معنا بشكل رسمي، إلا أن إحدى الممرضات أخبرتنا أن هناك حالات تأتيهم لأناس يعانون من أمراض تنفسية مثل الربو أو أمراض مثل الغدة الدرقية وهناك إصابات بسرطان الدم أو الرئة. وتعزو الممرضة هذه الإصابات أساساً إلى تلوث الهواء، وبخاصة إلى غاز “الأمونياك” القادم من المجمع الكيميائي.
ولا يقتصر تضرر السكان في المناطق المحيطة بالمنطقة الصناعية على الضرر الصحي وإنما يتجاوز ذلك إلى تضرر الزراعات في الواحات المجاورة، إذ يشتكي الفلاح محمد من تضرر البرسيم وغراسات البصل والكروم من الغازات المنبعثة من المنطقة الصناعية، حيث ” تصفرّ أوراق الشجر والنباتات وتيبس وبعدها تموت الغراسات ولا يمكننا فعل أي شيء لإنقاذها”، يقول بأسف. وقد عاينت معدة التحقيق بنفسها اصفرار الأوراق من خلال تجوالها في الواحة.
من الصعب تحديد مستوى الضرر البيئي والصحي الناجم عن الحرق الذي تقوم به محطة الغاز بقابس التابعة للشركة النرويجية، بخاصة أن المنطقة الصناعية تضم شركات أخرى ملوثة مثل المجمع الكيميائي ومصنع Al KIMIA وشركة الصناعات الكيميائية للفلور بقابس (ICF). ومع ذلك، لا يمكن استعباد فرضية وجود الضرر الناتج من الحرق.
في هذا الصدد، يعتبر الخبير في قطاع المحروقات، غازي بن جميع، أنه “حتى لو وُجدت محطة إنتاج الغاز في منطقة ملوثة أساساً، فهذا لا يخلي مسؤوليتها من المساهمة في تلوث الهواء عبر القيام بعمليات الحرق”.
حاولنا التواصل مع شركة OMV عبر الإيميل لمعرفة سياساتها في مجال الحد من الحرق في المواقع التي تشتغل فيها في تونس، ولكنها لم تجب عن أسئلتنا.
ويتسبب الحرق الروتيني للغاز في مشاكل صحية كثيرة للسكان المقيمن بالقرب من حقول النفط والغاز، إذ “تحتوي المشاعل على سموم معروفة، مثل البنزين الذي يلوث الهواء وتنجم عنه مشاكل في الجهاز التنفسي مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية، حسب موقع روكي ماوتن الامريكي، وهو مؤسسة غير ربحية تهدف الى تحسين الممارسات الطاقية في الولايات المتحدة. كما أعلنت وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA)، أن التعرض للبنزين يسبب سرطان الدم الحاد واضطرابات دم أخرى. وهو ما أثبتته أيضا قناة الـ ب.ب.س في تحقيق لها نشر في 2022 عن تأثيرات حرق الغاز على السكان في العراق، حيث ثبت ارتفاع حالات الإصابة بسرطان الدم لدى الأطفال في منطقة الرميلة بالبصرة.
من جهتها، ذكرت جمعية الصحة العامة الكندية في تقرير لها حول حرق الغاز نشر في سنة 2000، أن لهذه العمليات تأثيراً على مناعة جسم الإنسان وعلى الوفيات المبكرة والاضطرابات التناسلية والإصابة بالسرطانات بالنسبة الى المجتمعات المحيطة بحقول النفط والغاز.
وتوصل باحثون في كلية الصحة العامة وجامعة نورث كارولينا في معهد تشابل هيل للبيئة وصندوق الدفاع عن البيئة في الولايات المتحدة، إلى أن التلوث الناجم عن تنفيس النفط والغاز وإشعالهما أدى إلى أضرار صحية بقيمة 7.4 مليار دولار، وأكثر من 700 حالة وفاة مبكرة، بالإضافة إلى 73 ألف حالة تفاقم للربو بين الأطفال سنوياً. وجاء في الدراسة التي أعدها هؤلاء الباحثون ونشروها سنة 2024، أن 360 حالة وفاة مبكرة من جملة 710 التي رُصدت، “تُعزى إلى الجسيمات الدقيقة (PM2.5) والأوزون (O3) وثاني أكسيد النيتروجين (NO2).”
ضرورة وضع قانون منظم للحرق في تونس
على رغم التزاماتها الدولية، تواصل شركات أوروبية عدة مستغلة لحقول البترول والغاز في تونس قيامها بعمليات الحرق الروتيني للغاز، وهي تستفيد في ذلك من غياب قانون يمنع الحرق أو ينظمه.
ولا يتم إلزام الشركات في تونس إلا بتقديم “دراسة لاستخدام المنتوجات المرافقة للنفط، وبخاصة الغاز الذائب أو المصاحب” في إطار خطة تطوير حقل المحروقات التي لا بد من توفيرها في البداية للحصول على امتياز استغلال الحقل حسب ما جاء في الفصل 47 من مجلة المحروقات.
ولا تستطيع الوكالة التونسية للحفاظ على المحيط ANPE المسؤولة عن مراقبة مدى التزام المنشآت الصناعية والبترولية بعدم تلويث المحيط وبخاصة الهواء، متابعة عمليات الحرق. “في غياب قانون يمنع الحرق لا يمكننا مراقبة الشركات التي تقوم به، ونحن لا نتدخل إلا في حالة حصول حادث أو تسرب خطير للغاز”، يقول أحد الإطارات في الوكالة رفض ذكر اسمه.
وتشارك المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية ETAP بدورها، في عمليات حرق الغاز، أولاً باعتبارها شريكاً لمعظم الشركات الأوروبية المشتغلة في قطاع النفط والغاز في تونس، وثانياً لأنها تمتلك بعض الحقول النفطية ملكية تامة.
وحسب معطياتنا، فقد شاركت الشركة الحكومية في حرق الغاز بمعدل ملياري متر مكعب بين عامي 2012 و2022. يأتي هذا في حين أنها من الشركات المنتمية الى مبادرة Zero Routine Flaring by 2030 (ZRF).
وبينما تفرض هذه المباردة على المشاركين فيها أن يقوموا بالنشر التلقائي للمعطيات حول مساهمتهم في الحرق الروتيني، لم تنشر المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية منذ تاريخ توقيعها إلى اليوم هذه المعطيات، حسبما جاء في موقع البنك الدولي.
تواصلنا عبر الإيميل مع ETAP لسؤالها حول عمليات الحرق التي تقوم بها، ولكنها لم تجب عن أسئلتنا.
يعتبر غازي بن جميع، الخبير في قطاع المحروقات، أنه كان من المفروض على المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية أن تعطي المثال على تطبيق التعهدات الدولية للتقليل من الحرق، وأن تعطي المثال لشركائها الأوروبيين في تونس عبر الحرص على أن يوضَع إطار قانوني ينظم عمليات الحرق”.