ألكسندر بروتيل وليوبولد سالزنشتاين “منتدى الاستقصاء البيئي” (EIF) يان فيليبين “ميديا بارت”.أُنجز هذا التحقيق بدعمٍ من صندوق الصحافة في أوروبا (Journalism Fund Europe)
تؤدي عمليات حرق الغاز الناتجة عن حرق شركات الغاز والنفط للغاز الطبيعي الفائض في الحقول والمحطات والمصافي الخاصة بإنتاج الهيدروكربونات، إلى تكاليف كارثية على السكان والكائنات الحية والمحيط البيئي. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر أحد العوامل الرئيسية المتسببة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع الوقود الأحفوري، مما يسهم في تفاقم آثار تغيّر المناخ.
وفقاً لآخر تقرير سنوي صادر عن البنك الدولي، أدت عمليات حرق الغاز إلى إنتاج 381 مليون طن من انبعاثات مكافئ ثاني أوكسيد الكربون في عام 2023 على مستوى العالم. تمثل هذه الكمية الضخمة 1% من إجمالي الانبعاثات العالمية، وتتجاوز حتى الانبعاثات السنوية التي تنتجها دولة كاملة مثل فرنسا خلال العام السابق لهذا الإحصائية (التي بلغت 315 مليون طن، وذلك حسب ﻗﺎﻋﺪة بيانات اﻻﻧﺒﻌﺎﺛﺎت الأوروبية التابعة ﻟلبرنامج العالمي لبحوث اﻟﻐﻼف اﻟﺠﻮي).
مع ذلك، تظل معظم الإحصاءات الخاصة بألسنة اللهب السامة التي تشعلها شركات النفط العملاقة مجهولة، بسبب افتقار هذه الشركات للشفافية. توفر البيانات المتاحة إجمالي الانبعاثات التي تنتجها الدولة فقط. علماً أن بعض شركات النفط التي انضمت إلى مبادرات البنك الدولي ومشروع الكشف عن الكربون، قد أعلنت بالفعل عن البيانات الخاصة بعمليات حرق الغاز التي تجريها حول العالم، لكن من دون الإفصاح عن أية تفاصيل إضافية.
ولأول مرة، يكشف تحقيقنا “إشعال السماء” المسؤولية الفردية لكل شركة من شركات النفط العملاقة في هذه الممارسة التدميرية.
مستعينين بصور الأقمار الصناعية والبيانات الجغرافية التي قدمها فريق الرصد الأرضي، المعنيّ بالمراقبة الليلية للأضواء ومصادر الاحتراق على مستوى العالم، التابع لمعهد “باين” للسياسات العامة ومنظمة “سكاي تروث” غير الحكومية، إضافة إلى أبحاث من مصادر مفتوحة، قمنا بتحديد آلاف المشاعل الناتجة عن حرق الغاز وربطها بأكثر من 650 منشأة نفط وغاز طبيعي (سواء أكانت حقول بترول أم محطات غاز طبيعي مسال أم مصافي نفط) في 18 دولة في أفريقيا والشرق الأوسط. وتمكنَّا من تقدير الانبعاثات الناتجة عنها في الفترة بين عامي 2012 و2022، ونسبتها إلى الشركات المشغلة لها.
وتمكنَّا في هاتين المنطقتين من تحديد الشركات المسؤولة عن إنتاج ما يقدّر بـ 1.37 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون خلال هذا العقد، وتُعد شركات النفط الأوروبية أكبر مصدر للتلوث الناتج عن عمليات حرق الغاز، بنسبة بلغت 33% من الانبعاثات، متفوقةً بذلك على شركات من الشرق الأوسط (31%) وأميركا الشمالية (14%)، بحسب تقديراتنا.
تحتل خمس شركات أوروبية كبرى مراكز في قائمة أكثر عشر شركات، في تقديرنا، متسببة في انبعاثات من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون في الفترة بين عامي 2012 و2022، وهي: “بريتيش بتروليوم ـ بي بي” البريطانية التي احتلت المركز الثاني بإجمالي انبعاثات بلغ 133 مليون طن، تلتها شركة “إيني” الإيطالية التي احتلت المركز الثالث بانبعاثات بلغت 121 مليون طن، ثم شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية التي احتلت المركز الخامس بانبعاثات بلغت 63 مليون طن، تلتها شركة “بيرنكو أنجلو” الفرنسية التي احتلت المركز السادس بانبعاثات بلغت 50 مليون طن، وأخيراً في المركز السابع شركة “شل” البريطانية- الهولندية بانبعاثات بلغت 47 مليون طن.

واحتلت شركة النفط الأميركية العملاقة “إكسون موبيل” المركز الرابع، بإجمالي انبعاثات بلغ 90 مليون طن. بينما تُعد شركة النفط الجزائرية المملوكة للدولة “سوناطراك” أكبر ملوث بفارق كبير عن باقي الشركات في الدول الثمانية عشرة التي شملتها الإحصائية، إذ تؤدي عمليات حرق الغاز التي تجريها إلى انبعاث 235 طناً من ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الأخير، أيّ ما يعادل نحو أربعة أضعاف انبعاثات شركة “توتال إنرجيز”. تواصل بشريكنا درج مع شركة سوناطراك ولكن لم يصلنا رد على هذه النتائج.
في حين قالت توتال إنرجيز لموقع ميديابارت، إن استخدام “صور الأقمار الصناعية”، كما تم في تحقيقنا، كان “غير دقيق بشكل كبير مقارنة بالقياسات في الموقع” ويمكن أن يؤدي إلى “تقديرات مبالغ فيها”، لكن الشركة لم تتمكن من تقديم قائمتها الخاصة بالتقديرات لكل موقع من مواقعها التشغيلية.
الآثار القاتلة لغاز الميثان
في حقول النفط والغاز، وكذلك منشآت تصنيع المواد الهيدروكربونية، يوجد فائض يجب التخلص منه من الغاز الطبيعي، الذي يتكون في معظمه من غاز الميثان. يحدث هذا في بعض الأحيان بدافع السلامة ولتفادي الانفجارات. الحل الأول هو إطلاق الغاز في الهواء، وتعُرف هذه العملية “بالتنفيس”، وتُعتبر عملية كارثية، لأن قدرة الميثان على احتجاز الحرارة في الغلاف الجوي أعلى بحوالي 84 مرة من ثاني أكسيد الكربون خلال فترة تبلغ 20 عاماً. بدلاً من ذلك، تُعتبر عملية حرق الميثان أفضل للمناخ، إذ يتحول معظمه إلى ثاني أكسيد الكربون. مع ذلك، تظل الانبعاثات الناتجة عن عمليات حرق الغاز هائلة، إضافةً إلى توليدها مزيج سام من المركبات المتطايرة وأكاسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة المعروفة بتأثيراتها المدمرة.
تُلوث هذه المركبات الهواء والتربة والمياه وتدمر البيئة، وتهدد أيضاً صحة ملايين الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من مشاعل إحراق الغاز، مسببةً أمراضاً تنفسية وجلدية، إضافةً إلى السرطانات والولادات المبكرة. ووفقاً لدراسة نُشرت في “مجلة الاقتصاد العام”، فإننا نشهد زيادة في الأمراض عند مسافة 90 كم من مواقع الحرق.
زار شركاؤنا في غرف التحرير التابعة لمنصة “درج” وصحيفة “إن آر سي – NRC” وفريق “سورس ماتيريال” ومركز “أوكسبيكرز” وموقع “مونغاباي” سبع دولٍ لتغطية الآثار الكارثية لعمليات حرق الغاز على السكان المحليين، حيث تتعرض مناطق سكنية بأكملها للخطر، كونها تبعد 10 كم فقط عن هذه المشاعل السامة التي تشغلها شركات نفط عملاقة مثل “بي بي” أو “إيني” أو “شل” أو “توتال إنرجيز”.
بالنسبة لبعض هذه الشركات، لا تكمن المشكلة في وجود عملياتها، بل في السكان المحليين أنفسهم…
عند سؤال شريكنا NRC حول تعرض السكان المحليين لمواقع تشغيلها في نيجيريا، صرحت شركة شل بأن “حق المرور” الخاص بها قد تم “التعدي عليه” من قبل المجتمعات المحلية. وأشارت شل إلى أن “العديد من منشآتنا لإنتاج النفط والغاز لم تكن في الأصل موجودة في مناطق ذات كثافة سكانية عالية”، مضيفة أنها “تواصل العمل مع الحكومات المحلية وأصحاب المصلحة الآخرين لتثبيط المجتمعات عن التعدي على المناطق التشغيلية”.
مشكلة المال
على الرغم من التعهدات التي قدمتها الحكومات وشركات النفط، فإن المعركة ضد مشاعل إحراق الغاز لا تزال خاسرة. فوفقاً للبنك الدولي، ارتفعت انبعاثات عمليات حرق الغاز بنسبة 7% في عام 2023، مقارنة بعام 2022، ولم تشهد أي انخفاضٍ منذ 2010. وحذرت الوكالة الدولية للطاقة من أن عمليات حرق الغاز على المستوى العالمي “لا تتبع المسار الصحيح” للوصول إلى “صافي صفر انبعاثات بحلول عام 2050”.
ينص التقرير الأخير الذي نشره البنك الدولي في يونيو/حزيران 2024، على أن ثمة “ضرورة ملحة” لاتخاذ الإجراءات اللازمة. ويشدد على أن “هذا يُحمل الشركات المشغلة مسؤولية التأكد من أن عملية إنتاج النفط والغاز خالية قدر الإمكان من التلوث خلال مرحلة التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة”.
تزداد هذه المشكلة تعقيداً عندما ندرك أن عمليات حرق الغاز تمثل إهداراً هائلاً للموارد، حيث يجري خلالها التخلص من الغاز من دون أية استفادة منه، على الرغم من وجود تقنيات متقدمة لاستخلاص الميثان واستخدامه في توليد الكهرباء. وتوجد حاجة ماسة لهذا الحل في الدول الأفريقية ودول الشرق الأوسط التي يشملها تحقيقنا “سماوات مشتعلة”، التي تعاني من نقص في إنتاج الكهرباء. ووفقاً للبنك الدولي، فإن كمية الميثان المحترقة ستكون كافية لإمداد “كل دول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء بالطاقة”.
ووفقاً للبنك الدولي وإدارة معلومات الطاقة، فإن الاستثمار بنحو 200 مليار دولار سيكون كافياً لخفض انبعاثات الميثان الخام وإنهاء عمليات حرق الغاز الروتينية. يمثل هذا المبلغ 5% فقط من الأرباح السنوية لقطاع الوقود الأحفوري على مستوى العالم (التي بلغت 4 آلاف مليار دولار في عام 2022).
قامت شركات النفط الكبرى ببناء منشآت للحد من آثار عمليات حرق الغاز في بعض حقولها النفطية، لكنها لا تزال محجمة عن الاستثمار على نطاق واسع. وذلك لأن خيار الحرق أقل تكلفةً، وأيضاً يمكن أن تؤثر عملية استخلاص الميثان على إنتاج النفط.
يقول خوسيه أنطونيو غارسيا فرنانديز أستاذ الهندسة الكيميائية في كلية الهندسة في بلباو “تتغير كمية الغاز التي تصل إلى الشعلة، لذا يصعب التحكم بهذه العملية. نحتاج إلى تدفق ثابت لإنتاج الكهرباء”. ويكشف أيدن فارو وهو باحث أول في وحدة العلوم الدولية التابعة لمنظمة “السلام الأخضر ـ غرينبيس” أنه “عندما أجرينا تحقيقاً حول عمليات الحرق في العراق بالتعاون مع شبكة “بي بي سي”، أخبرنا مهندس هناك أنه بسبب مشكلات الضغط هذه، فإنه يجب تقليل إنتاج النفط لاستخلاص مزيد من الغاز، لكن شركات النفط اختارت الحفاظ على مستوى الإنتاج”.
تواطؤ الحكومات
حسب فارو، يرجع السبب الرئيسي وراء الفشل في الحد من انبعاثات عمليات الحرق إلى “عدم وجود تشريعات فعالة ورادعة يترتب عليها بعض النتائج”، وهي حقيقة أكدها تحقيقنا.
تُظهر بياناتنا أنه خلال العقد الأخير، تسببت شركات النفط، بحسب تقديراتنا، في انبعاث 451 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في تسع دول أفريقية يحظر قانونها عمليات حرق الغاز أو يسمح بها فقط بصورة استثنائية لمدة زمنية قصيرة، وهي: جمهورية الكونغو وأنغولا والكاميرون والغابون ونيجيريا وغانا وغينيا الاستوائية وموزمبيق والجزائر. علماً أن أكثر من نصف هذه الانبعاثات (263 مليون طن) نتجت عن شركات غربية عملاقة مثل “توتال إنرجيز” و”بي بي”.

يُظهر ذلك أن هذه البلدان النامية لا تزال متساهلة مع شركات النفط، في تناقض واضح مع روح قوانينها، وذلك من أجل زيادة الإيرادات والإنتاج إلى أقصى حد. لا يختلف الوضع كثيراً في البلدان التي لا تحظى بتشريعات تنظم عمليات الحرق أو لديها تشريعات ضعيفة، مثل العراق والإمارات العربية المتحدة.
ودائماً يتجاهل الاتحاد الأوروبي، الذي يُعد أكبر مستورد للهيدروكربونات على مستوى العالم، هذا الوضع. وعلى الرغم من بدء العمل بتشريع جديد سنَّه الاتحاد الأوروبي بهدف التصدي لانبعاثات الميثان في قطاع الطاقة، في 13 يونيو/ حزيران 2024، فقد اعتبره النشطاء البيئيون مخيباً للآمال.
يحظر التشريع الجديد تنفيس الغاز في البلدان التابعة للاتحاد الأوروبي وحرقه، ما عدا في الحالات الاستثنائية التي تتعلق بالسلامة. ومع ذلك، فإن نص التشريع أكثر تساهلاً بدرجات في ما يخص الواردات. صحيح أنه يحظر بيع الوقود الأحفوري ذو الكثافة العالية من غاز الميثان في أوروبا، لكن هذا الحظر لن يطبق إلا في أغسطس/ آب من عام 2030، وسيتم تحديد القيم القصوى لكثافة غاز الميثان في عام 2029. باختصار، لا يوجد ما يضمن أن الاتحاد الأوروبي سوف يُلزم الشركات بأن تكون كثافة الميثان في الواردات الهيدروكربونية مماثلة لتلك المنتجة على أراضيه.
محدودية التعهدات الطوعية غير الملزمة
حالياً، تعتمد المعركة ضد عمليات حرق الغاز على المبادرات الدولية التطوعية التي يطلقها البنك الدولي، التي تثير شكوكاً كثيرة حول فعاليتها. تتألف الشراكة العالمية للحد من حرق الغاز وانبعاثات الميثان؛ التي أُطلقت في عام 2023 خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2023، من حكومات ومنظمات متعددة الأطراف وشركات نفط، وقد تعهدت جميعها بتقديم “منحة تمويلية جديدة” تبلغ 255 مليون دولار. لكن هذا المبلغ ضئيل للغاية مقارنة بالمئة مليار دولار التي يرى البنك الدولي أنها ضرورية لإنهاء “الحرق الروتيني”، الذي يشير إلى عمليات الحرق المستمرة للغاز، التي لا ترتبط بالسلامة أثناء عمليات الإنتاج العادية.
في عام 2015، أطلق البنك الدولي برنامجه الرئيسي، الذي يُعرف بمبادرة “القضاء على الحرق الروتيني للغاز نهائياً”. وقد حظيت هذه المبادرة بدعم من الحكومات وشركات النفط، من بينها كافة الشركات التي كشف تحقيقنا عن تورطها الكبير في تشغيل مشاعل حرق الغاز، باستثناء شركة “بيرنكو”. تعهدت هذه الشركات بإنهاء الحرق الروتيني للغاز في عام 2030. لكن في تقاريرها للبنك الدولي، أعلنت شركات النفط الأوروبية السبع (بي بي وإيني وإكوينور وريبسول وشل وتوتال إنرجيز وفينترسال) أن ما معدله 32% فحسب من عمليات الحرق التي نفذتها في عام 2022 تعتبر “روتينية”. ويعني هذا أنه حتى في حال التزامها بتعهداتها، ستستمر معظم انبعاثاتها.
ثمة فروق كبيرة للغاية بين هذه الشركات لدرجة تثير الشك حول مدى دقة المنهجية التي يتبعونها. فعلى الرغم من كمية الانبعاثات الهائلة، ترى شركة “بي بي” أن 1.7% فقط من عمليات الحرق التي تجريها تعتبر روتينية، وتصل هذه النسبة إلى 17.5% لدى شركة “توتال إنرجيز”، بينما أعلنت شركتي “إيني” و”ريبسول” أن عمليات الحرق الروتيني لديهما تتخطى 50%.
تتعارض هذه الأرقام أيضاً مع تلك المذكورة في دراسة نشرتها الوكالة الدولية للطاقة، ذُكر فيها أن 66% من عمليات الحرق على مستوى العالم تُعد روتينية. ورداً على سؤال طرحته شبكة التعاون الاستقصائي الأوروبي، قال توماس دي أوليفيرا بريداريول محلل سياسات الطاقة والبيئة لدى وكالة الطاقة الدولية، إن الدراسة تُعرِّف عمليات الحرق الروتيني بأنها تلك التي تستمر “لأكثر من 85% من زمن تشغيل المشاعل”، وأوضح أن “الشركات ربما تتبنى تعريفاً مختلفاً”.
زوبين بامجي، مدير في مبادرة الحد من حرق الغاز والميثان العالمية (GFMR)، يقدر أن الحرق الروتيني يمثل في المتوسط “حوالي 70% من إجمالي الحرق” على مستوى العالم. ووفقًا لبامجي، فقد تم الإعلان عن معدلات تصل إلى 100% على مستوى الدول في النيجر والكاميرون، بينما تصل إلى صفر بالمائة في الدنمارك أو المملكة العربية السعودية.
لا يوجد إلى الآن أيّ تعريف موحد أو فحص مستقل بشأن كميات الحرق الروتينية. وهو ما يصب في مصلحة شركات النفط العملاقة.
وقال دانيال زافالا-أريزا، وهو باحث في منظمة “صندوق الدفاع البيئي” غير الحكومية وجامعة أوتريخت، إن “ما يجب علينا فعله هو تتبع عمليات الحرق من خلال اللجوء إلى تدابير القياس المباشرة والرصد المستمر، ولدينا اليوم كافة الأدوات التي تمكنا من فعل ذلك. وخلافاً لمشكلة تعريف الحرق الروتيني، يجب خفض عمليات الحرق عموماً بشكل كبير”.
كيف يستهان بعمليات حرق الغاز؟
غالباً ما تقلل شركات المواد الهيدروكربونية أيضاً من مسؤوليتها. إذ تُعلن كافة الشركات الأوروبية العملاقة عن كمية الانبعاثات الناتجة من المنشآت التي تشغلها بشكل مباشر فقط. دون احتساب الحقول التي لا يمتلكون أغلب حصصها، على الرغم من أنها تجني أرباحاً من هذه الحقول.
أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هو حقل الرميلة في جنوب العراق، الذي يعد أكبر مصدر للتلوث في تحقيقنا، حيث بلغت انبعاثاته من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون 105 مليون طن خلال العقد الأخير. وترى عملاقة النفط البريطانية “بي بي” أنها غير مسؤولة عن ذلك، على الرغم من امتلاكها 47.63% من حصص حقل الرميلة، وإدراجها في وزارة النفط العراقية بوصفها مُشغل للحقل خلال هذه الفترة.
حتى عند النظر فقط في المنشآت التي تشغلها تلك الشركات بشكل مباشر، لاحظنا أيضاً فروقات بين الإحصاءات في تحقيقنا وبيانات بعض الشركات الأوروبية الكبرى، وهو ما يوحي بأنها لا تبلغ بدقة عن انبعاثاتها.
في حالة كمية الانبعاثات التي تنتجها شركة “بي بي”، وعند الأخذ في الاعتبار 18 دولة فقط، وجدنا، بحسب تقديراتنا، أن الانبعاثات المنسوبة إلى الشركة تعادل ضعف ما أبلغت عنه عالمياً. أخبرت الشركة شركاءنا في Source Material بأنها “تعمل على إدارة وتقليل حرق الغاز في الأصول التي تديرها”، لكنها لم تعلق على هذا التناقض.
وبالمثل، أظهرت تقديراتنا أن انبعاثات شركة “إيني” تجاوزت 2.8 مرة الكمية التي أعلنتها الشركة على مستوى العالم خلال الفترة نفسها.
صرحت شركة إيني، لشريكنا دوماني، بعد 10 أيام بأن البيانات الأصلية التي استخدمناها “لا تسمح بتحديد الأصول بشكل فردي وربطها بالمشغل المعني” وطلبت مراجعة قائمة الأصول التي أخذناها بعين الاعتبار. وبعد تزويدها بالقائمة، أشارت الشركة إلى أن “بعض الأصول ليست مُدارة أو تقع خارج نطاق إيني”، لكنها لم تحدد أي منها.
علاوة على ذلك، تشير دراستان علميتان نُشرتا في الآونة الأخيرة أن تقديرات الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز، المحسوبة وفقاً لنسبة مكافئ ثاني أوكسيد الكربون، قد تكون في الواقع أعلى بكثير مما كان يُعتقد سابقاً. إذ تفترض المعايير العلمية التي يستخدمها البنك الدولي (والتي استخدمناها أيضاً في تحقيقنا) أن 98% من الميثان المرسل إلى المشاعل يحترق بالفعل، وهو ما يعرف بـ”كفاءة الاحتراق”.
يمكن أن يؤثر التغيّر في معدلات الكفاءة كثيراً على القيم النهائية للانبعاثات: إذ إن قدرة الميثان على احتجاز الحرارة أعلى بكثير من ثاني أوكسيد الكربون، وبالتالي، كلما انخفضت كمية الغاز المحترق، كلما زادت الانبعاثات. ووفقاً للبنك الدولي، تتسبب كفاءة احتراق بنسبة 92% في زيادة انبعاثات مكافئ ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 30%.
خلال الدراسة الأولى، التي أجراها “صندوق الدفاع البيئي” في عام 2021، تم قياس “كفاءة الاحتراق” الفعلية في حوض بيرميان – أكبر منطقة منتجة للنفط في الولايات المتحدة – باستخدام الأقمار الصناعية والطائرات المروحية المزودة بكاميرات تصوير حراري، وأظهرت الدراسة أن انبعاثات الميثان الفعلية التي تطلقها الشركات تبلغ 3.5 ضعف ما تبلغ به وكالة حماية البيئة الأميركية.
وقد تأكدت هذه النتائج في دراسة ثانية نُشرت عام 2022 في مجلة “ساينس” – وهي مجلة أكاديمية مُحكّمة – وأجريت في ثلاث مناطق لإنتاج النفط في الولايات المتحدة. فقد وجدت الدراسة أن نسبة الميثان المحترق تبلغ 91% فقط، وليس 98% كما هو متوقع، وهو ما يشير إلى “قصور كبير” في تقدير كمية الانبعاثات الناتجة عن عمليات حرق الغاز.
وينوِّه زافالا- أريزا إلى أنه “في دول أخرى حول العالم، تكون كفاءة المشاعل أقل من 91%. علاوة على ذلك، يمكن أن تتوقف المشاعل عن العمل، مع استمرار تدفق غاز الميثان، لكن الشركات لا تبلغ عن هذه الحوادث، لهذا، فإن كمية الانبعاثات الحقيقية كبيرة للغاية”.
أحد العوامل الأخرى التي تفاقم المشكلة هو السخام الناتج عن عملية حرق الغاز. وتُعد هذه الجسيمات الدقيقة، المعروفة أيضاً باسم “الكربون الأسود”، أقوى بمقدار 1500 مرة من ثاني أوكسيد الكربون، وتتكون بسبب الاحتراق غير الكامل للوقود الأحفوري.
يعتبر الاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض أن عمليات حرق الغاز تسهم بنحو 40% من الإجمالي السنوي لرواسب الكربون الأسود في القطب الشمالي، التي يتوقع انتشارها في الغلاف الجوي خلال مرحلة ذوبان الجليد في المستقبل القريب. مع ذلك، وبسبب عدم فهمنا الكافي لكفاءة الشعلات على مستوى العالم، لا يندرج الكربون الأسود ضمن المعايير الحالية لقياس كفاءة عمليات حرق الغاز.
ويختتم أيدن فارو كلامه قائلاً: “من الضروري العمل على خفض عمليات حرق الغاز وتسرب الميثان، لكن لا أتصور أن هذه المشكلة يمكن حلها فقط من خلال الاستثمارات والتكنولوجيا. يجب التفكير في المسألة من منظور أشمل. إذ تُظهر مشكلة حرق الغاز حاجتنا الملحة للاستغناء عن الوقود الأحفوري”.
إقرأوا أيضاً: