انطلقت عملية “ردع العدوان” التي قادتها فصائل المعارضة السوريّة المسلّحة من إدلب يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وأُعلن عن سقوط النظام السورية وفرار بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، نُشرت بعدها عشرات القصص والتقارير والمقابلات التي روت حكاية المعركة “من الداخل” وكشفت أسرار “الساعات الأخيرة” لبشار الأسد. وهكذا، يهمل تلخيص أهم مرحلة في تاريخ سوريا الجانب الآخر من الحكاية، ونقصد هنا “الجيش السوري” أو “جيش النظام” كما يُسمى عادة، والذي لا نمتلك صورة واضحة عن كيفية تعامله مع هذه “المعركة” التي غيّرت تاريخ سوريا.
الجيش السوري: “جاهزية قتاليّة كاملة”!
منذ بداية العملية، شهدنا أخباراً عدة عن الجيش السوري، ففي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، نشرت صحيفة الوطن المقربة من نظام الأسد تقريراً صغيراً عن “دكّ” الجيش السوري خروقات “النصرة” في ريف إدلب، الأمر ذاته في اليوم التالي، 28 من الشهر نفسه، إذ نشرت الوطن عن قصف الجيش “النصرة” وأعلنت أن “زمن خفض التصعيد انتهى”.
في الوقت تكشف، تكشف “برقية عاجلة” صادرة عن إدارة عمليات الجيش السوريّ في تاريخ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عثر عليها “درج” في مقر إدارة المخابرات الجوية، موقّعة من العماد عبد الكريم محمود ابراهيم، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش والقوات المسلحة، جاء فيها أنه “نظراً الى التطورات المتسارعة توضع الهيئات والشعب والإدارات والجحافل والتشكيلات بجاهزية قتالية كاملة اعتباراً من لحظة استلام هذه البرقيّة”.
الاستعداد الرسمي والجاهزية يكشفان أن الجيش السوري أمام حالة حرب، إذ تقول البرقية أيضاً: “توقف الإجازات ويمنع المبيت وتكون قوات جاهزة لتنفيذ أية مهمة تُسند لها…”، وذلك لحماية القوات “من أي هجوم أرضي أو جوي مفاجئ ويبقى القادة في مقراتهم”.
استمرت بلاغة دحر “الإرهاب” حتى أيام نظام الأخيرة بينما تتقدم قوات “ردع العدوان”، وتخلّلتها أخبار عن اشتباكات مع الجيش السوري، وفرار جنود الجيش السوري. لكن ما يلفت هو تداول حكايات عن قرصنة أجهزة اللاسلكي الخاصة بجنود الجيش السوري، وبثّ أوامر للانسحاب، إشاعة انتشرت لفترة قصيرة، لتبرير ترك الجنود سلاحهم ومواقعهم خالية، تلتها أخبار متفرقة عن انسحاب الجيش السوري من موقعه، وفرار أكثر من ألفي جندي سوري نحو العراق، ناهيك بتهديدات من فصائل مسلّحة تابعة للنظام بأنها لن تلقي السلاح.
على الصعيد الأمني، عاش النظام أيامه الأخيرة برقابته الصارمة وبيروقراطيته القاتلة المعتادتين، بخلاف ما أمرت به “البرقية العاجلة” أعلاه، إذ يدل آخر جدول للضباط المناوبين في شهر كانون الأول/ ديسمبر على حركة دوامٍ روتينية، بينما يكشف ملف سجل الكتب الصادرة والواردة لعامي 2024 و2025 في إدارة المخابرات العامة بحيّ كفرسوسة في دمشق، أن يوم الدوام الأخير في تاريخ نظام الأسد الأمني، 5 كانون الأول 2024، لم يتجاوز بضعة أوامر بإجراء دراسات أمنية لصحافيين وناشطي مجتمع مدني أجانب دخلوا البلاد حديثاً، قبل أن يتوقف التدوين في ذاك السجل عند الكتاب رقم 2055 لتبقى بقية صفحاته فارغة إلى الأبد.
“إعادة الانتشار” ما قبل السقوط
قبل سقوط النظام بيومين، أي في تاريخ 6 الشهر، خرج علينا وزير الدفاع السوري علي محمود عباس في كلمة تلفزيونيّة فسر فيها “اضطرار قواتنا المسلحة لاستخدام أساليب مناسبة في خوض المعارك من كر وفر وتقدم وانسحاب إلى بعض النقاط”، مؤكداً: “قيام قواتنا المسلحة بإعادة انتشارها خارج مدينة حماة”.
تحركات الجيش السوري بقيت مجهولة بصورة ما، لكن حصلنا في “درج” على وثيقة استخباراتيّة مفادها أنه في 5 كانون الأول، أي قبل يوم واحد من كلمة وزير الدفاع، تلقى “اللواء رئيس شبعة المخابرات-الفرع 227” أو المخابرات العسكرية، “برقيّة” وصفت بأنها “فورية وسرّية للغاية” مفادها أن اللواء بشار خليل اسكندر، قائد القوات الخاصة المنتشرة في البادية “تلقى أمراً” بتنفيذ “مناورة” وتجميع الكتائب (804-972-255) في منطقة حويسيس بصورة أدق “مطار T-4 العسكري” ثم التوجّه إلى حمص، حيث استقرت في المدينة الرياضيّة.
بشار خليل اسكندر عيّن في الشهر السادس من عام 2024 نائباً لقائد “القوات الخاصة” سهيل الحسن، كما شملت البرقية أيضاً مقتل 9 عسكريين أعلاهم برتبة عميد ركن، وهو قائد الكتيبة 804، إلى جانب اثنين وصفهما (دورة متطوعين) مواليدهما 2005 و2006.

هؤلاء قُتلوا أثناء تنفيذ كمين لقوات المعارضة في جبهة حماة (جبل علي زين العابدين)، وتكرّر دائماً في التقارير أن اشتداد المعارك واستخدام المسيّرات هما ما تسبّب بمقتلهم، وهذا ما نلاحظه في صور المسيّرات التي استخدمت في تلك المعركة ذات اليوم. ويذكر أنه في عام 2019، نُشر تسجيل فيديو لأحد جنود الكتيبة 804 يخاطب “أخيه الكبير بشار الأسد”، قائلاً إنه هو وكل عسكري عندهم وجع ولا يوجد من يكترث لهم ولمطالبهم.
نقرأ أيضاً في وثيقة تعود إلى يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر عام 2024، أن الكتائب التي كانت في الملعب في حمص، تم توجيهها لـ”إعادة الانتشار” في منطقة “المشرفية” أو كلية الهندسة. تذكر المراسلات أيضاً أن كتائب القوات الخاصة (708، 95) الموجودة في ريف حماة (قمحانة وجبل زين العابدين) تراجعت نحو مطار حماة العسكري، ثم انقطع الاتصال معها ولم تعلم جهة توجهها لاحقاً، وفي 6/2012 تمت “إعادة انتشار” من منطقة الربيعة في حماة إلى منطقة سلحب مع انضمام عناصر من الفرقة الخامسة.
الحال في دمشق لم يكن بتلك الحدّية لكنه كان يشي بقُرب بدء تنفيذ الجيش “مهمة أمنية خاصة”، ففي وثيقة أخرى “سرية للغاية” صدرت بتاريخ 6 كانون الأول/ ديسمبر 2024 – أي قبل سقوط النظام بأقل من 48 ساعة – اطلع عليها “درج” في أحد الألوية التابعة لقوات الحرس الجمهوري، جرى التعبير عن مخاوف “من وجود بعض الخلايا الإرهابية النائمة التي يحتمل أن تقوم ببعض الأعمال التخريبية لزعزعة الأمن والاستقرار وتخريب المصالحات ونشر الفوضى وتهديد سلامة المواطنين الآمنين وإيقاع الخسائر في صفوف قواتنا المسلحة”.
اقترحت الوثيقة تنفيذ الفوج 108 مغاوير مهمة أمنية خاصة تُعنى بـ “تأمين الحماية وتحقيق الأمن والاستقرار وملاحقة الخلايا النائمة وأي أنشطة إرهابية تخريبية”، من خلال إقامة حواجز ونقاط تفتيش على الشوارع والمداخل الرئيسية للقرى المحاذية لدمشق من الجانب الجنوبي الشرقي، إضافة إلى نشر عدد من “الحواجز المتنقلة التي تُفتح بشكلٍ مفاجئ” – التي تُعرف شعبياً باسم “الحواجز الطيارة” التي غُيّب عندها آلاف السوريين – وتشكيل مجموعات الاقتحام والمداهمة.
في الوقت ذاته، جاء في الوثيقة أن الفوج 108 جاهز لتنفيذ العمليات العسكرية المكلف بها في ريف دمشق، كذلك “المهمة القتالية” الموكلة إليه في اللاذقية، و”المهمة الأمنية” في السويداء، لا نعلم الفرق بين المهمتين، وهل الأمر مجرد بلاغة بيروقراطيّة أم ذو معانٍ أخرى.
ليلة السقوط
يقول محمد الجلالي، رئيس وزراء حكومة نظام الأسد المخلوع، أنه في ليلة هروب الأسد حاول التواصل مع وزير الدفاع، ولكن الأخير لم يرد على هاتفه، وهنا يتضح أنه بعد ساعاتٍ من صدور تلك الوثيقة، تم أُخلي الفوج تباعاً وفرّ كبار ضباطه ومجنديه وعناصره، حسبما أفادت به مصادر محلية في منطقة دمر – التي يقع فيها اللواء 105 الذي وجد “درج” الوثيقة فيه – إذ كان مقر الفوج خاوياً عندما اقتحمه المدنيون عشية السابع من كانون الأول/ ديسمبر، قبل وصول قوات “جبهة فتح دمشق” بقيادة أحمد العودة، التي كانت أول الواصلين إلى العاصمة.
تشير الوثائق إلى اختلاف بين الأوامر الأمنية التي تكشف “إعادة الانتشار” والأوامر العسكريّة التي تشير إلى الجاهزية والاستعداد للمعركة، التي اختارت الغالبية من جنود النظام ألا تخوضها، الموقف الذي يمكن تلخيصه في أحد الفيديوهات التي يظهر فيها جنديان من الجيش السوري يقولون“تسريح جماعي… يوم الأحد… أتوستراد المزة… 2024… انتاكت أم الجيش العربي السوري”.
إقرأوا أيضاً: