دفعني الحظر المفروض على تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية الإيرانية إلى التفكير في مدرستي القديمة وكينغ كونغ.
أعلن “مجلس التعليم العالي” في البلاد، بعد أسبوعين من الاحتجاجات في إيران، أن تدريس اللغة الإنجليزية أصبح محظوراً الآن في المدارس الابتدائية الإيرانية. وقد جعلني هذا الإعلان أفكر مرةً أُخرى في كينغ كونغ.
جاء حظر اللغة، الذي أطلق عليه بعض المقيمين في وسائل التواصل الاجتماعي “تنقية اللغة الإنجليزية”، في أعقاب حجب الحكومة لتطبيق التواصل الاجتماعي “تيليغرام” خلال الاحتجاجات. ويُعزى هذا الحظر إلى أن التعليم الابتدائي يُمثل أساساً للمعرفة الثقافية للشباب. ومن هذا المنطلق، تعتبر دورة اللغة الإنجليزية الخارجة عن المناهج الدراسية شكلاً من أشكال “الغزو الثقافي” الغربي كما وصفها المرشد الأعلى الإيراني.
بينما كنت طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات نشأت في طهران، ورثت عن عمتي التي تلقت تعليماً جامعياً، “قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية”، الذي كان عتيقاً وضخماً. ولكنه كان أول شيء أخذته معي عندما قرر والدي الانتقال إلى النرويج قبل بضع سنوات من الثورة الإيرانية. ولقد تشبثت به طوال حياتي، منذ ذلك الحين. وخلال أشهر الصيف الطويلة التي قضيتها في طهران أثناء طفولتي، كنت أجلس على أرضية حجر بارد في منزلنا لساعات، أتصفح تعريف الكلمات الانجليزية في قاموس عمتي. وما دفعني لفعل ذلك هو سبب واحد: وهو أنني وقعت في حب كينغ كونغ وأردت أن أصبح جزءاً من عالمه. لقد كان الرجل المثالي. فلقد كان متواضعاً، ورحيماً، وقوياً، ونقياً ومُتفانياً: واصل تسلقه إلى أعلى الأبراج، للدفاع عن العالم ضد العدو وحماية فتاته من الأذى. وعلى الرغم من أنه هزم في النهاية، فقد كان الشهيد المثالي، وكان نموذجاً للوداعة والتسامح. وعلمت نفسي كل الكلمات الإنجليزية التي من شأنها أن تصف حبي له. يُمثل تسلقه للهوائي القائم فوق مبنى “إمباير ستيت”، بالنسبة لي، طريقاً مُباشراً للوصول إلى عالم خيالي آخر، ذلك العالم الذي تخيلته كمدينة بعيدة، بأضوائها واحتضانها الكبير للناس من كل مكان في العالم تقريباً. باختصار، لقد كان يشبه نسخة “الرجل المثالي” في الصوفية الإيرانية الشيعية، غير أنه كان كثيف الشعر ويتمتع بعضلات أكثر.
واسمحوا لي أن أشرح، في شهر فبراير/شباط من عام 1979، عند عودته إلى إيران بعد سنوات قضاها في المنفى خارج البلاد، كانت الخطوة الأولى التي اتخذها “آية الله روح الله الخميني” هي انتقاد وسائل الإعلام وتقنيات الأفلام. وفي خطابه الأول إلى الشعب الإيراني، دعا إلى إجراء عملية تطهير شاملة للأفلام السينمائية والتلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى. وقال إنه عن طريق إخضاع أعين الناس وآذانهم للإمبريالية الأجنبية، أضعفت وسائل الإعلام الكيان الوطني واستنزفت طاقات الأمة عن طريق “غزو ثقافي”. وأضاف أن التعرض لأشكال إعلامية نقية ومقيدة بالأعراف الإسلامية من شأنه أن يعيد تنشيط حواس المواطن، معتبراً أن ذلك يعطي الشعب الإيراني القدرة على التصدي بصورة جماعية ضد قوى الإمبريالية والاستعمار.
يفسر عالم الاجتماع، عبد الوهاب بوحديبة، الطهارة في الإسلام على أنها “الحالة التي تجعل من الممكن إجراء حوار مع المُقدس”. فعبر طريق الطهارة، يستعيد المؤمن السيطرة على الجسد والقوى التي تُسبب الوهم. وقد كانت هذه القوى، بالنسبة إلى إيران الثورية، هي القوى الوهمية للإمبريالية الغربية والتجارية. من خلال استعادة الطهارة، يمكن للكيان الجماعي في البلاد الوصول إلى “عالم الخيال”.
ويقال إن أئمة الشيعة الاثنا عشر وشخصية الإمام الثاني عشر المشابهة لشخصية المسيح المُخلص، يُقيمون في هذا “العالم الخيالي”، والذي يُعتقد أنه يُمثل الصورة الأصلية لجميع الأشياء. وقال الخميني إن السينما الرأسمالية الغربية لم تنتج إلا نسخاً فاسدةً عن هذا العالم المثالي. وأشار الخميني في العديد من اللقاءات أن تقنيات السينما ووسائل الإعلام، بمجرد أن تصبح خالية من الخطيئة، ستُمهد للمؤمن طريق الوصول إلى “عالم الخيال”.
يحاكي الحظر الجديد على التحدث باللغة الإنجليزية ما حدث في عهد الخميني، ويؤكد مجدداً موقف إيران الثابت ضد الغزو الثقافي. ويدعو إلى اعتماد المواطنين على الموارد والطاقات والقوى الوطنية الإيرانية. وكذلك يدعو هذا الحظر، في جوهره، الأمة الإيرانية إلى توجيه حواسها إلى ما هو أبعد من نطاق المفسدة الرأسمالية وفي اتجاه العالم الروحاني للصورة الأصلية.
يوجد القليل من الأشياء التي أعتز بها أكثر من قاموس “أكسفورد للغة الإنجليزية”، الممزق الذي أعطتني إياه عمتي. فقد يسرت لي كلماته ومفاهيمه، الطريق إلى عالم آخر وأظهرت لي واقعاً مختلفاً. هذا الواقع المزدوج يساعدني على تعليم طلابي الذين يدرسون الدراسات الإعلامية، أن يروا العالم بعيون جديدة. فالحياة في عالم آخر، واستيعاب نسيجه اللغوي والثقافي، يجعل من الصعب الإساءة إليه باعتباره شكلاً ثقافياً متدنياً وفاسداً. قد جعلني الواقع المزدوج الذي رأيته لأول مرة من خلال كينغ كونغ وقاموس “أكسفورد للغة الإنجليزية”، غريبة في وطني. إلا أن ما هو عميق بالنسبة لي، هو أنه يجعلني أشعر أنني في بيتي في هذا العالَم.
*نجار مُتحدة – كاتبة إيرانية
هذا الموضوع تم اعداده وترجمته عن موقع SALON لمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.
[video_player link=””][/video_player]