لم تترك الحرب الجارية في قطاع غزة أي شخص من دون معاناة تُروى من خلالها الآلام والأوجاع، وانعدام مقومات الحياة كافة، ليصل الأمر إلى تسجيل الآلاف من الجرحى والمرضى على قائمة الانتظار كبارقة الأمل الوحيدة المتبقّية لتلقّيهم العلاج المناسب وتفادي أي مضاعفات مرضيّة قد تجعلهم في عداد الموتى أو العيش مع إعاقة مستدامة، أو أمراض يصعب التعامل معها مع استمرار انهيار المنظومة الصحية داخل القطاع وإغلاق المعابر.
علاج مع وقف التنفيذ
الجريح صالح حمد (39 عاماً)، من سكان حي الدرج في مدينة غزة، تعرّض لإصابة بشظايا صاروخ من الطيران الحربي أثناء وجوده في خيمته، التي يعيش فيها في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، نقل على أثرها الى المستشفى لتلقّي العلاج.
تبين في المستشفى أن حمد بحاجة الى إجراء عمليات جراحية عدة في قدميه والبطن نتيجة انتشار الشظايا في معظم أنحاء جسده، ما تسبب في حدوث تهتّك في العظام والأنسجة، نتج منه قصر في قدمه اليسرى بطول 12 سم عن قدمه اليمنى، في حين لم يتمكن الأطباء من إجراء أي جراحة لعدم توافر الإمكانات، إضافة إلى بداية تعرّض الجروح في بطنه للالتهابات وظهور الصديد، ما يجعله بحاجة مستمرة الى التنظيف والتعقيم وسط بيئة مليئة بالأوساخ والميكروبات وانعدام أدوات التطهير.
يقول شقيقه أحمد: “منذ إصابة شقيقي ونحن نسعى الى تحويله للعلاج في الخارج ولكن من دون جدوى، إذ مضى على الأمر أكثر من 3 شهور، في ظل الإجراءات الإسرائيلية المعقدة لنقل الجرحى للعلاج في الخارج، رافقه فقدان الأمل بتعافيه من حالته التي يمر بها، وعلى الرغم من ذلك نحاول جاهدين أن نوفر له ما يلزمه من رعاية صحية”.
أما الطفل يوسف دياب فـوُلد بعيب خلقي، ويحتاج للسفر العاجل لعدم إمكانية إجراء أي جراحة له داخل مستشفيات القطاع، يوضح والده تيسير: “يبلغ طفلي اليوم ثلاثة أشهر، يعاني من ثقب في الرئتين منذ ولادته وهو بحاجة الى السفر بشكل عاجل لإجراء العمليات الطبية المطلوبة، وما زلنا ننتظر الموافقة على السفر من الاحتلال الإسرائيلي بالتزامن مع تدهور الحالة الصحية لطفلي وأخشى أن أفقده كونه الابن الأول لي”.
يفيد مسؤول ملف التحويلات الطبية بقطاع غزة محمد أبو سلمية لـ”درج”، بأنّ الجرحى والمرضى يواجهون الموت يومياً جراء انتظارهم الخروج للعلاج في الخارج، لعدم وجود أي إمكانيات طبية في غزة، خصوصاً مرضى الأورام وجراحة القلب ومرضى غسيل الكلى.
ونوه إلى أنّه ومنذ إغلاق معبر رفح، لم يخرج عبر معبر كرم أبو سالم إلا 360 مريضاً فقط، وهذا رقم ضئيل جداً لا يلبي احتياجات المرضى، إذ تتم العملية بطريقة معقدة، والكثير منهم يتم رفضهم من الجانب الإسرائيلي، ومعظم الحالات التي خرجت هي حالات أورام أطفال، إضافة الى بعض الأطفال الجرحى.
أزمة قسم الأطفال
“لدينا داخل قسم الأطفال في مستشفى شهداء الأقصى عدد من الحالات المرضية لأطفال يحتاجون الى خدمات علاجية متقدمة غير متوافرة في قطاع غزة حتى في الفترة التي سبقت العدوان الحالي”، هكذا يصف رئيس قسم الأطفال في مستشفى شهداء الأقصى الطبيب هاني الفليت لـ”درج” الواقع داخل القسم، مؤكداً أنّ الأطفال يواجهون تحديات كبيرة، بخاصة من يولدون بعيب خلقي في القلب، إذ كانوا يحوَّلون مباشرةً إلى مستشفيات الضفة الغربية، لعدم توافر جراحين متخصصين في مستشفيات القطاع، إضافة إلى الأطفال المصابين بالسرطان والذين يعانون من الروماتيزم. اليوم، ونظراً الى عدم وجود أطباء متخصصين ومحدودية الإمكانات نتيجة انهيار المنظومة الصحية، أصبح العمل يتم بالإمكانات المتاحة.
بنود اتفاقية جنيف الرابعة في المواد 16 و17 و18 و19، شملت وجوب توفير الحماية الكاملة للمرضى وحياتهم وعدم استهدافهم وتأمين النقل الآمن لهم، كما نصت على أن المستشفيات هي منشآت آمنة لا يجوز استهدافها، أو إيقاف خدماتها أو التعدي عليها، ولا على سيارات الإسعاف المعنية بنقل المرضى والمصابين.
أرقام وحقائق
تشير إحصاءات حصل عليها “درج” من وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أنّ إجمالي عدد الجرحى وصل إلى 105 آلاف إصابة منذ بداية الحرب، منها 15 ألف إصابة تندرج ضمن الإصابات الحرجة التي تحتاج إلى تأهيل طويل، فيما سافر 2023 جريحاً قبل إغلاق المعبر، بينما بلغ عدد الجرحى الذين حُوّلوا للعلاج في الخارج بعد إغلاق المعبر ،182 جلّهم من الأطفال.
توضح الإحصاءات أيضاً، أنّ عدد مرضى السكري بلغ 71 ألفاً، بمعدل انتشار 3.2 لكل 100 نسمة، وعدد مرضى الضغط 105 آلاف بمعدل انتشار 4.8 لكل 100 نسمة. وسافر 6075 مريضاً قبل إغلاق المعبر، و250 مريضاً بعد إغلاقه. وتظهر بيانات الوزارة أنّ عدد الطلبات المقدمة للعلاج بالخارج يبلغ 25000 طلب، حصل 7707 منهم على طلب تحويل، وهم مدرجون على قائمة الانتظار.
تفيد منظمة الصحة العالمية في تقريرها “تقدير احتياجات إعادة تأهيل الإصابات في غزة باستخدام بيانات الإصابات من فرق الطوارئ الطبية “، بأنه من المرجح أن تشكل الإصابات الخطيرة التي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة، 25 في المئة من إجمالي عدد الإصابات، أو ما لا يقل عن 22500 شخص، إذ تشكل إصابات الأطراف الخطيرة الحاجة الرئيسية لإعادة التأهيل، مع نطاق تقديري يتراوح بين 13455 إلى 17550.
وقال ممثل منظمة الصحة العالمية في غزة ريك بيبركورن، في بيان، إنّ الزيادة الهائلة في حاجات إعادة التأهيل تحدث فيما يتواصل تدمير النظام الصحي.
حقوق مسلوبة بقوة السلاح
يشدد مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في غزة جميل سرحان لـ”درج”، على أنّ جل ما يقوم به الجيش الإسرائيلي ليس مصادفة، بل هو “مخطط استعماري” مدروس ضمن حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني بالقطاع. ويضيف: “منذ السيطرة على معبر رفح البري، مُنع الآلاف من المصابين الذين تحصلوا على تحويلات طبية من الخروج للعلاج بالخارج، ما يهدد حياتهم بالخطر”.
يشير سرحان إلى أنّ الهيئة رصدت أسماء عدة كانت مدرجة على قوائم التحويلات، باتت اليوم في سجلات الوفيات نتيجة المنع من السفر، وهذا مخالفة صارخة للحقوق الإنسانية.
يؤكد سرحان أنّ إجراءات الجيش الإسرائيليّ كافة بحق المدنيين تشكل مخالفة للقوانين الدولية والاعتبارات الإنسانية، فالقوانين ضمنت للجرحى المدنيين في الحروب حصولهم على العلاج المناسب من دون أي معوقات، ويضيف: “لكن الجيش الإسرائيلي يتمعّن في تدمير المنظومة الصحية، وقصف المستشفيات واقتحامها ومنع إدخال الأدوية والإمدادات الصحية والطبية، ولم يتوان عن استهداف مركبات طواقم الإسعاف، وذلك كله يؤكد حقيقة الاحتلال الساعي لإبادة الشعب وخلق أجيال تحمل معها أمراضاً مزمنة وبأطراف مبتورة”.
وطالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان المجتمع الدولي بالضغط الفعال على إسرائيل لضمان فتح المعابر والسماح بسفر آلاف المصابين والمرضى في قطاع غزة، لإنقاذ حياتهم من موت محقق ينتظرهم مع استمرار منعهم من السفر، وعدم توافر إمكانية علاجهم داخل القطاع بسبب الاستهداف الإسرائيلي المنهجي للقطاع الصحي هناك بالتدمير والحصار، ما أخرج غالبية مكوناته عن الخدمة.
من جهتها، حذرت الهيئة الدولية حشد من ارتفاع نسب وفيات المرضى والجرحى جراء إبادة القطاع الصحي، مطالبةً بتوفير العلاج للمصابين والمرضى وضمان إدخال الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات، ومؤكدة أن الحكومة الإسرائيليّة تتجاهل تدابير محكمة العدل الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني والمعايير الدولية لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدعو الى وقف حرب الإبادة الجماعية.
أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.