أجلسُ وحدي في غرفة نومي المعتمة، في بداية الفجر، إذ تحرّك نسمة هواءٍ ربيعيّة الستارة. لقد مضى اليوم الأول من دون أدنى حركةٍ في الشارع. لم يعد لفرق الوقت بينَ الليل والنهار معنى مهماً، فالهدوء ذاته والترقب والهلع ذاتهما. أنظرُ إلى السماء من شقّ صغيرٍ بين درفتي الشبّاك المغلقتين. تراودني أفكار غريبة، أتوقف عند فكرة أنني للمرة الأولى أشعرُ بالسعادة لأنّ جدتي العزيزة ميتة أصلاً.
تحزنني الفكرة بحدّ ذاتها، فأنا أشتاقها كثيراً ولكنني سعيدة لأنني عندما أسمع بأنّ الكورونا يفتكُ بكبار السن، لا أقلق على جدتي التي توفيت منذ أربع سنوات. وأتوه وأنا أفكّر بأننا نحنُ الذين قد يمتلكون فرصاً أكبر في النجاة لن نرجع يوماً كما كنا بعد أن نفقد من سنفقد من كبار السنّ الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم. لربما التفكير بهذا نفسه رفاهيّة اليوم ضمن حالة الخوف من أيّ تواصل بشريّ والغموض الذي يحيطُ بهذا الفايروس.
أفكّر بجيراني في الحارة، معظمهم فوق الـسبعين، أفكّر خصوصاً بذلك الجار العجوز الذي أكرهه، الجار الذي ينامُ عند الثامنة مساءً ويستيقظ في الرابعة صباحاً ودائماً ما نتشاجر لأنه يسلبني حريّة الحركة بعد نومهِ، الجار الذي لا يراني سوى جيل غير مسؤول ومزعج لا يجرّب حتّى أن يفهمهُ، ولا يتوانى عن الدقّ على السقف عندما يسمع أيّ حركة تذكر بعد نومه. الجار الذي أتأفف من نومه الخفيف ومن حظّي معهُ.
العجوز الذي لا يعرفُ كيفَ يلفظ اسمي فيتفادى أن يناديني به، ويكتفي بـ”عمّو”. أمّا أنا فلا أعرف اسمه حتّى ولم يخطر لي يوماً أن أسأله، بل اكتفيتُ بالـ”عمّو” التي فرضها ضمن علاقةٍ تسودها النديّة والانزعاج شبه الدائم من بعضنا بعضاً.
أسمعُ صوت حركتهِ، بينما يأتي صوت الآذان من بعيد. وأشعرُ للمرة الأولى بأنه ليس مزعجاً على الإطلاق وأنّ صوت حركتهِ الآن هو الصوت الوحيد الذي يكسر إيقاع الهدوء المتعب الذي نعيشهُ. لربما يكون هو أقلّ هستيريّة في التعامل مع هلع الكورونا منّا نحنُ الذينَ يتابعون الأخبار على كلّ وسائل التواصل والتلفاز وغيرها آملين بأن يحصلوا على إجابةٍ مطمئنة من مكانٍ ما. ولربما هو كغيره من المسنين، يقلق عندما يسمع بأنّ هذا الفايروس يستهدفُ المسنين، لكنّه يعيشُ أصلاً في قوقعتهِ المريحة لأنّه لم يستطع أن يلاحق هذا الكمّ من التغيير الذي أصاب البشريّة في العشرين سنة الماضية، فيعرفُ عن الكورونا المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام المحليّة فقط.
يتعالى صوت حركتهِ وأتخيّل مقطعاً طولياً للعمارة، أتخيلهُ يغسل وجهه ويعدّ مشروبه الصباحيّ ببطء وأتخيّل كيف تفصلُ الجدران الإسمنتيّة بيننا. أنا أجلسُ في سريري وأستعدّ للنوم وهوَ يستيقظُ ليبدأ يومه. يعرف كلانا عن حركة الآخر ضمن أضيق مساحاتنا الآمنة، كل شيء تقريباً. هو يعرفُ الأغاني التي أحبّ أن أسمعها، يعرفُ متى يذاع برنامجي المفضّل ولربما يسمعُ صوت ضحكتي عندما أتابع برنامج إيلين ديجينرس، يعرفُ متى أتشاجر مع صديقي، ويعرفُ اسم قطّي، وعلى أغلب الظنّ فإنّهُ الشخص الوحيد الذي يسمعني عندما أنهارُ وأبكي وحدي ليلاً.
أتذكّر أنني في الأيّام الأولى للثورة في لبنان، كنتُ أسترق السمع على الأخبار من تلفزيونه عندما أفقدُ إشارة الإنترنت في المنزل، وأتذكرُ كيفَ ارتبكَ عندما فتحتُ الباب يوماً وهو في شجار مع ابنتهِ أمامَ باب المصعد وتظاهرَ بأنّ أصوات الشجار التي كنتُ أسمعها ما هي إلّا وهم في رأسي، أتذكر كيفَ يسلّم عليّ عندما يراني مصادفة في الشارع، بالابتسامة ذاتها التي تعني كم لا يطيق كلانا العيش مع الآخر في مبنىً واحد… وأجدُ نفسي أرغبُ في أن أقرع بابهُ وأشاركهُ فنجان قهوةٍ في هذا الصباح شبه الميّت. الجميع خائفون بعدَما أعلنت “منظمة الصحّة العالميّة ” كورونا – كوفيد 19 وباءً عالميّاً، وقد أصبح الهدوء في بيروت لا يشبه بيروت.
أعرفُ أنّه لا يحبّ أنني جارتهُ ولا أعتقدُ أنني سعيدةً بأنّ جاري هو رجل طاعن في السنّ يستيقظُ على دبيب نملةٍ كما يقال، ويعتقد بأنّ عاداتهُ فقط هي الصحيحة في الحياة وأنّ حياتي برمتها ما هي إلّا عبث وحسب. يأسر حريتي، يستيقظ باكراً جدّاً، يتشاجر مع أفراد عائلته حول المواضيع ذاتها كل يوم أحد، عندما يأتون لزيارتهِ ويغادرون غاضبين واحداً تلو الآخر مع أطفالهم وعائلاتهم. عنيدٌ ولا يمتلكُ صبرَ أن يسمعَ أيّ شيء لا يتوافق مع آرائه، فيبتسمُ ويتظاهر بأنّه لم يسمع شيئاً.
يوم تشاجرنا، استفزني كثيراً، كان يرمي جملاً عن “العيب” والـ”ما بصير”، وعندما كنت أقول أيّ شيء في المقابل، كان يكتفي بالابتسام والتظاهر بأنّه لا يسمع شيئاً مما أقوله.
أفكّر في ما إذا كنتُ سأنزعج منهُ بالمقدار ذاته إذا نجونا معاً من هذا الفايروس، أفكّر إن كنتُ سأغيّر من عاداتي التي تزعجهُ. أبتسم، فأنا غالباً لن أغيّر منها شيئاً، وسيبقى يعطي لنفسه الحقّ بأن يوبخني وسأبقى أُستفزّ من طريقته الأحاديّة بالتعبير عن نفسه، ولربما نتشاجر أكثر من السابق، وكم أشتاق لتلك اللحظه التي سأعودُ بها متأخرةٍ في ليلة صيفيّة ما وسأغلق الباب بقوّةٍ فينزعج ويدقّ لي على الإسمنت كي أخفف وقع الحركة، لكنني إذا حصل ذلك لن أشتم وحسب، سأشتم وأنا أضحك بصوتٍ عالٍ وسأصرخ له يومها من شقّتي بأعلى صوتي بأننا نجونا معاً وأنّ شجارنا وحركتنا وإزعاجي إياه وإزعاجهُ إياي، ما هما إلا إشارة على أننا أحياء!
إلى الـ”عمّو” الذي لم أتخيّل يوماً أنني سأخاف عليهِ: “دير بالك عحالك بهالأيام”.