العزيزان مجتبى وشربل، طفلا حلقة “الجديد” المحذوفة، تحية طيبة…
أكتب إليكما من خلف المحيطات، حيث أعيش منذ أكثر من عشر سنوات.
أكتب إليكما لأن لي ولداً في عمركما الذي أتمناه مديداً وافر الفرح، وقد شاهدتكما تتناقشان في الحلقة التي أثارت استنكاراً لبنانياً شديد الطهرانية، مما اضطر القناة إلى الاعتذار عنها، وعنكما، وحذف الحلقة.
سأخبركما، قبل أن أذهب بعيداً في رسالتي، أن ابني الذي ولد هنا، لم يلتقط لهجتنا التي أحبها، ولا اللغة العربية. ومع أننا حاولنا كثيرا؛ ولا نزال، إلا أن مفرداته تقتصر على قلة قليلة. إيه، لا، يعني، مرحباً.
هذه خسارتي وليست خسارته بطبيعة الحال. فالحديث معه، أي حديث، يحتاج إلى جهد مضاعف مني للبحث في صياغة جمل بلغة ليست لغتي الثانية، وفي تخطي العوائق التي تصيب من لا يحكي بلهجته الأم، والملل السريع الذي قد يصيبني من نفسي، ومن الملل الذي لا شك قد يصيبه، ويخفيه عني، للطفه الزائد.
لكنني كنت أفكر، بينما أفكر بكتابة هذه الرسالة، أن حاجز اللغة عائق جيد بيني وبينه. تفوقي عليه بالسن والخبرة والأبوة، يزيله تفوقه علي بطلاقته الإنكليزية. لذا، بدلاً من تلقينه أفكاري اللبنانية، بلهجتي اللبنانية، أراني في الغالب أستمع إلى آرائه، هو الذي يحلو له أن يسألني حيناً ما إذا “اللاشيء” شيئاً أم لا، وفي حين آخر عن كيف نزيد واحداً على الرقم اللانهائي أو ننقص منه واحداً. ولأنني لا أعرف، أطلب منه أن ينوّرني، فيفعل.
اعترف أنه يجهل مشاكل لبنان، أسماء زعمائه، حروبه الصغيرة والكبيرة، طوائفه، ولا أتطوع لأخبره، لأن تعقيدات لبنان أصعب، بعد، من فيزياء الكم ومن غموض الثقب الأسود. أعني، قد أجد جواباً لمسألة جمع رقمين لانهائيين، لكنني سأكون في ورطة إن حاولت أن أشرح له أن ولدين من عمره اختلفا على التلفزيون في انتمائيهما إلى “القوات اللبنانية” و”حزب الله” حتى ضج لبنان بهما.
عزيزيّ:
لا أقول إنه أفضل منكما، أو إن حظه أوفر لأنه لا يعيش في لبنان. أعرف أن ما تتعرضان إليه لا يقارن بما يتعرض إليه أطفال البلاد الأخرى، وأن حمايتكما من محيطيكما تبدو مستحيلة، خاصة وأن كثيراً من الأطفال بحاجة أحياناً إلى من يظن أنه يحميهم. لكنني أجزم أن من هم في سنكما، أذكى بما لا يقاس من كل البالغين. عقولهم طرية بعكس عقولنا التي تيبس وتضمر مع السن والعادات السيئة، التي تأتي مع وهم النضوج الذي يُخرجنا من الجنة لمرة واحدة وأخيرة، حين نفقد ذهول الأطفال ومقدرتهم على الدهشة واللعب بخيالهم، وبالاستمتاع باكتشاف معجزة الطبيعة الأعظم، أعني أدمغتنا، والمهرجان الدائم الذي تصنعه لنا عبر حواسنا، وتزيد خيالاً من عندها، وأحلاماً حين ننام، وسبيلاً إلى حوار مفتوح مع أنفسنا، يكون في أرقى مراتبه في الصغر. جنة تنتهي حين يتلاشى هذا الصوت الداخلي الأليف ليحل محله صوت التأنيب والتعنيف وجلد الذات.
لم يكن خلافكما السياسي على الشاشة محبطاً. المخيب للأمل هو أنكما لم تقولا فكرة واحدة جديدة من خارج الصندوقين اللذين يعيش كل واحد فيكما مع بيئته فيه. فكرة يتيمة تقول إنكما تقفان على مسافة من قطعان البالغين، الذين يلوكون الأفكار ذاتها جيلاً بعد جيل، وقد وصلت إليكما كما هي، بلا زيادة ولا نقصان.
جملة واحدة كانت لتصنع فارقاً بينكما وبين نجوم الشاشات الذين لشدة ما ابتذلوا اللغة وكرروها، نجحوا في ترسيخها في ولدين ظهرا جاهزين ليكونا نائبين عن الأمة، يترافعان تحت قبة البرلمان، لسوء حظيهما بالطبع.
العزيزان:
هذه الرسالة ليست للوعظ لا سمح الله، ولا للنصح، وقد قلت لكما سلفاً إنكما أذكى منا جميعاً، كاتب هذه السطور وقراؤها معاً. لكنني أستغرب فيكما أنكما تبذّران أقصر وأحلى موسم في عمريكما، على أشياء مثل الفارق بين “القوات اللبنانية” و”حزب الله”. دَعَا هذه التفاهات لنا، نحن التافهين العالقين في هذه السخافة المستدامة منذ الأزل. لديكما عالم هائل من الاحتمالات والمتع، استغلاها قبل أن تكبرا وتنضما إلينا، إلى قطيعنا العظيم من اللبنانيين الناضجين، الأحياء الموتى.
عزيزيّ:
أعتذر إن أطلت عليكما، لكنها عادة المسنين، وابني يظنني أكبر البشر سناً، ويمازحني أحياناً فيسألني عما إذا عاصرت الديناصورات. ابني الذي لا أخاف شيئاً قدر خوفي من أن أكتشف أنه بات يفكر مثلي، أو يردد عباراتي. أن يخسر فرصته بالتمرد على كل أؤمن به، ويبحث عن مفرادته بنفسه، ولا يستسلم ويصير نسخة مني.
العزيزان مجتبى وشربل:
هذه رسالة لا صلاحية لها، لا الآن، وأنتما ولدان لن تستفيدا من كاتبها الأقل منكما ذكاء، ولا لاحقاً، حين تكبران ويهبط حتماً معدل ذكائكما فتنضمان إليه وأترابه من القطعان المتعاقبة. هذه رسالة من ماضٍ لبناني سحيق، ملآن بديناصورات لا تثير خيالاً ولا تحفز على الطيران ولو في الأحلام. هي حسرة صرفة من ديناصور لبناني آخر، لا معنى لها، ولا فائدة ترجى منها، فسامحاني إذا ضيعتما وقتاً ثميناً على قراءتها، وأشكركما إذا كنتما، في أي سطر منها، انقطعتما عن القراءة قبل الوصول إلى هذه النقطة الأخيرة.
مودتي
إقرأوا أيضاً: