حين قررت نور أن تلتحق بزوجها بلال النعمان في الرقة وأن تصطحب معها طفليها، تولت والدة بلال إيصالها إلى مطار رفيق الحريري الدولي. ووالدة بلال لم تتولى هذه المهمة لأنها مؤمنة بخطوة ابنها مغادرة طرابلس والإلتحاق بـ”داعش”، بل لأنها تعتقد أن الزوجة يجب أن تكون حيث يكون زوجها.
غادرت نور عبر مطار بيروت إلى تركيا ومنها دخلت إلى سورية حيث كان بلال بانتظارها هناك.
بلال النعمان ابن بائع المعجنات في منطقة باب الرمل في طرابلس في شمال لبنان كان غادر إلى الرقة السورية عبر نفس الطريق الذي سلكته زوجته نور التي كان تزوجها ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره فيما هي كانت في عمر الثالثة عشرة.
قتل بلال في غارة روسية استهدفت موقعاً لـ”داعش” في مدينة الميادين السورية، وذلك بعد أن أمضى نحو سنتين مقيماً في الرقة وصاعداً في أسلاك “داعش” التي صار فيها أميراً على ما كشفت وثيقة حصل عليها “درج”.
لكن مقتل بلال لم ينهِ قصة الفتى الذي صار أميراً. فمنطقة باب الرمل التي نشأ فيها، بطن ولادة لحكايات صغير مفضية إلى مصائر موازية لمصير بلال. في المنازل، وقائع غير مثبتة تجري في غفلة عن أنظار المراقبين.
والد بلال يُشعرك أن ابنه أفلت من نظره في لحظة والتحق بـ”داعش”، وعليك أن تصدقه، ذاك أن الرجل بلا حيلة، وهو اذ يبيع منقوشة الزعتر بمئتين وخمسين ليرة لبنانية، يحيط نفسه بشبان من عمر ابنه، ويتحدث عن بلال بصوت ثكل، يردك فيه إلى أصوات الأمهات لا أصوات الآباء. يقول لقد خسرته وما بقي لي من أثره هو أولاده الذين لا استطيع استردادهم من المخيم الذي يقيمون فيه في محيط الرقة.
وفي منزل أهل بلال يعلو صوت أمه فوق كل الأصوات. يصمت الأب، فيما الشقيقات في الغرفة المجاورة. المنزل صغير ويقع في مبنى بدأ يتهالك. غرف المنزل ضيقة، وصوت أم بلال يمسك بالجدران. إنها الأم التي لطالما توجه إليها بلال برسائله من الرقة. صوته مناجياً أمه يشعرك بأن الوالدة هي مفتاح الحكاية التي بدأت في طرابلس وانتهت في الرقة.
بلال التقط لنفسه مئآت الصور في الرقة وأرسلها إلى أمه. وثق مختلف لحظات عيشه فيها، بحيث يسع المرء أن يؤلف حكايته من الصور فقط. وهو اذ أمعن في تصوير نفسه لم يتمكن من أن يحررها من أمه، ذاك أن أم بلال موجودة في وجه إبنها الذي لا أثر فيه لوجه الأب.
في صور بلال وفي صوته، امرأة هاربة من طرابلس. أو امرأة أرسلت ابنها لكي ينتقم لها. ليست صور بلال وحدها ما يدفعك إلى هذا الشعور، انما صوت الأم في منزل العائلة في باب الرمل. فهي تكرر انه كان رفيقها، ولطالما أنصتت إلى أصوات الرصاص حين كان يقاتل في باب التبانة، وإلى حكايات الشارع التي تتخللها حكاية ابنها. قالت أن صديقه أبو هريرة هو من جنده في جماعة سلفية كانت تقاتل في المنطقة. صحيح أنها هي من أرسله إلى المسجد حيث التقى بصديقه هناك، لكنها فعلت ذلك لأن المسجد مكان يلجأ إليه الناس لكي يتقوا مصائر آبائهم.
[article_gallery]
ورواية أم بلال عن ابنها الذي صار أميراً في “داعش” قبل أن يقتل في غارة روسية على مدينة الميادين السورية، لا تكتمل أبداً، ولا تنعقد تفاصيلها على حكاية واحدة، فهو بحسبها تسرع في المغادرة إلى اسطنبول، ذاك أنه ما أن وصل إليها حتى ندم واتصل بها سائلاً المساعدة في العودة، لكن الأوان كان قد فات، فقد جاءت “داعش” واصطحبته إلى الحدود السورية ومنها دخل إلى الرقة. لكنها تستدرك لاحقاً فتقول أنه لم يتصل بها إلا بعد أن وصل إلى الرقة. ثم تعود لتستجمع الرواية في حقيقة أن بلال قتل، وأن زوجته وأولاده لا ذنب لهم.
ليست الوقائع هي ما يمسك المرء أثناء استماعه إلى رواية أم بلال عن ابنها، إنما حقيقة أن المرأة هي الشخصية الرئيسة في حكاية العائلة، وهذه حال معظم أمهات “الجهاديين” الطرابلسيين. فموقع الأم في هذه العائلة ليس هامشياً على نحو ما يمكن أن يتصور المرء. الأم هنا ليست المرأة وليست الزوجة، والفارق بين النوعين هائل.
ففي قصة بلال ونور أم ثانية يبدو أن موقعها في ضائقة العائلة مركزي أيضاً. إنها أم نور التي ماتت ولم تكن نور قد بلغت الرابعة من عمرها. وصحيح أن نور “المهاجرة” لم تقدم على فعلتها في حياة أمها، لكن الأخيرة بحسب شقيقة نور الكبرى فاطمة كانت مقيمة في وعي العائلة وفي خوفها. أما والدها، الذي يعمل إلى اليوم دهاناً في قريته فنيدق في عكار، فلا يبدو أن له أثراً في تراجيديا العائلة. فاطمة قالت أن رحيل الأم المبكر خلف خوفاً غامضاً، أعادت إليه رغبتها التي راودتها ذات يوم قبل أن تغادر نور إلى الرقة، في أن تستأجر منزلاً في طرابلس تقيم فيه هي وشقيقتها وشقيقها مع أولادهم سوية. هكذا من دون أن ينفصل كل منهم عن زوجه أو زوجته. الزواج كان بحسبها قد شكل فراقاً عن حاضنة كانت الأم هي من أنشأها. ولطالما راود فاطمة هذا الأمر، لا سيما وأنها تقيم اليوم في وحشتها بعد أن حكم على زوجها بالسجن خمس سنوات بتهمة ترويج المخدرات. والخوف الذي يسكن فاطمة متصل إلى حدٍ بعيد بخوف أصلي هو جزء من المعادلة النفسية الجماعية لعائلات الفقر الطرابلسي، وهو مسؤول إلى حدٍ بعيد عن قذف الأبناء إلى أقدارهم في الرقة والموصل وبغداد، أو إلى السجون بتهم تتراوح بين الإرهاب والمخدرات.
في معظم سير “الجهاديين” الطرابلسيين أم يطغى حضورها على حياتهم، وأب غائب وبعيد ومسكوت عنه. وحين يُذكر، وهذا أمر نادر، يُستحضربصفته امتداد لحياة أراد “الجهادي” مغادرتها والثأر منها. الأب هو الجاهلية والأم هي “الفطرة”. ثمة نوع من الإسقاط، يبدو أن الأب عرضة له، وهو إسقاط الفشل الهائل الذي أصيبت به العائلات على وجه الأب. والد بلال “شارب خمر” بحسب الأم، ووالد نور “بسيط” على ما تصفه فاطمة. الأول باع معجنات والثاني دهان، وهما يكادان يعيشان خارج المنزل، أو خارج روح المنزل. ولغيابهما مكان غامض في حكاية بلال الخاصة وفي حكاية نور الخاصة.
وإذا قال المرء أن لكل بلد “داعشها” الخاص، المولود من فشلٍ لا يشبه فشل البلد الآخر، فإن “داعش” طرابلس له خاصية “أمومية”، فالسير كلها تردك إلى ثأرٍ للأم خلف حكاية الملتحقين بالتنظيم، وتردك أيضاً إلى إحاطة الأم بحكاية إبنها، وإلى أم متضخمة وأب متلاشٍ وعنيف وخارج المنزل.
والغريب أن أمهات كثرٍ قلن إنهن من أرسلن أبناءهن إلى المسجد، المكان الذي تم تجنيد الأبناء فيه، وهن أرسلنه إليه تعويضاً عن تكفيراً عن ذنوب آباء “يسكرون”، أو تفادياً لاندراج الإبن بأهواء الشارع وبأمزجته. وهن اذ فعلن ذلك وأفضى إلى ما أفضى إليه من مصائر، ما زلن معتقدات بأن ما أقدمن عليه لا علاقة له بموت أبنائهن في الرقة وغيرها. فالدين يجري في بيئة هؤلاء مجرى الحياة، والمسجد خير ملجأ من النزوات، وما أفضى بالأبناء إلى “داعش” كانت مجرد صُدف وأقدار لا تتصل بما هم فيه من بؤس، ومن انعدامٍ للخيارات.
[video_player link=””][/video_player]