ظلَّ “قيصر” لسنوات بالنسبة للسوريين أشبه بأسطورة أو رمز يتجاوز حدود الواقع، لكنه في جوهره كان بطلاً من لحم ودم، بطلاً يشبههم وينتمي إلى عالمهم. لم يكن قيصر شخصية خارقة أو رجلاً مجهول الهوية من روايات الأبطال، بل كان موظفاً عادياً، شخصاً يمكن أن تصادفه يومياً في شارعك أو مكتبك، لكنه امتلك شجاعة استثنائية جعلته يغيّر مجرى التاريخ السوري.
من هو قيصر؟
أصبح بالإمكان الإجابة عن سؤال من هو “قيصر”؟، إنه المساعد أول فريد ندى المذهان، من بلدة الشيخ مسكين في درعا وكان يعمل في دمشق. قبل الثورة كان مسؤولاً عن تصوير الحوادث المرورية، وبعدها نقله النظام لتصوير جثث المعتقلين.
جاء فريد من بلدة تشبه البلدات والأحياء التي ينحدر منها السوريون، لولا هذا لما اتصل بي صديقي، وقال لي: “لك طلعت بعرفه، طلع من عنا”.
نشأ فريد وسط معاناة مألوفة، لكنه قرر أن يتحمّل مسؤولية كشف الحقيقة وبقراره هذا، أثبت قيصر أن البطولة ليست حكراً على شخصيات عظيمة أو قوى خارقة، بل هي خيار شخصي يتّخذه إنسان عادي في لحظة مفصلية. الأبطال في النهاية هم أبناء عائلاتنا، جيراننا، أصدقاؤنا، أولئك الذين يملكون الشجاعة ليقفوا في وجه الظلم.
عندما نُشرت الصور التي سرّبها “قيصر”، شكّلت واحدة من أكثر الأرشيفات الديكتاتورية دموية في العصر الحديث، وعلى الرغم من أن العالم كان يدرك مسبقاً وحشية نظام الأسد، إلا أن هذه الصور جاءت كدليل بصري قاطع، لا يمكن إنكاره أو تجاهله، على حجم الجرائم التي ارتكبها بحق المعتقلين، لقد كانت هذه التسريبات بمثابة صدمة تاريخية، إذ كشفت للمرة الأولى وبشكل موثّق، عن التعذيب المنهجي والموت الجماعي في أقبية المعتقلات السورية.
تفاعل العالم مع الصور بشكل واسع، حيث تناولتها أكثر من 1000 وسيلة إعلامية حول العالم، وأثارت نقاشات حادة في الأوساط الحقوقية والسياسية. بعد نشر صور قيصر، لم تعد مسألة التطبيع مع الأسد مجرد خيار سياسي خلافي، بل تحوّلت إلى معضلة أخلاقية أمام الحكومات التي كانت تفكر في إعادة العلاقات معه. يمكن القول إن هذه الصور أسست لحاجز غير مرئي بين النظام السوري والمجتمع الدولي، إذ أصبح التورّط في إعادة تأهيله سياسياً، أشبه بمحاولة تبرير ما لا يُبرَّر.
الحقيقة في ربطة خبز وجورب
وبرغم أن اسم قيصر استخدمه الأباطرة الرومان بعد يوليوس قيصر، الذي كان قائداً عسكرياً وسياسياً بارزاً، وبات يُستخدم اليوم للإشارة إلى القوة والعظَمَة، ويرتبط بالحكم والقيادة. لكن في حالة “قيصر” السوري، أصبح الاسم رمزاً للشجاعة والعدالة بدلاً من السلطة، وهنا تمكّن فريد عن غير قصد وبحدسه الإنساني وطموحه، بتحقيق العدل، من منح اسم يرتبط بالقيادة والقوة إلى اسم يحمل قيمة إنسانية وأخلاقية.
لم نمتلك يوماً صورةً لقيصر. ربما تخيلناه كرجل يشبه أبطال الأفلام البوليسية، أولئك الذين يمتلكون تقنيات متطورة وأدوات تجسس حديثة، ينتقلون بسيارات فاخرة ويتواصلون عبر قنوات سرية لا تخترقها الرقابة. لكن قيصر لم يحتج إلى كل ذلك، كانت أدواته شديدة البساطة، كل ما احتاجه كان ربطة خبز وجواربه، ليخفي واحداً من أهم الأرشيفات السورية. قيصر لم يكن بطلاً بأسلحة متطورة، بل بوعي إنساني جعل منه شاهداً على جريمة كان يمكن أن تبقى بلا دليل.
استخدم فريد شيئين بسيطين لإخفاء أدلته: الجوارب وربطة الخبز، اللذين يمتلكان في الذاكرة السورية مكانة حياتية وحميمة. الخبز، الذي رافق السوريين على الحواجز وأمام الأفران، حيث انتظروا لساعات طويلة للحصول على لقمة تسد جوعهم، تحوّل في هذه القصة إلى وسيلة للخلاص، ليس من الجوع هذه المرة، بل من طمس الحقيقة. أما الجوارب، التي لطالما بيعت على الأرصفة وصعد باعة متجولون إلى الحافلات ليعرضوها بأسعار زهيدة، فقد أصبحت بشكل غير متوقّع حافظة لأحد أهم الأرشيفات السورية.
إن ارتباط إخفاء هذا الأرشيف بشيئين يعكسان عوز السوريين وحاجاتهم اليومية ليس مجرد تفصيل عابر، بل هو دلالة قاسية على طبيعة الظرف الذي وُثّقت فيه هذه الجرائم. في ظل الاستبداد، يصبح حتى الخلاص مرهوناً بأدوات الفقر، وكأن السوري، حتى في لحظات مقاومته، لا يجد سوى ما اعتاد حمله في يومياته الثقيلة، ليكون وسيلته في مواجهة الموت والنسيان.
لم يقتصر دور فريد على تهريب الصور، بل سعى أيضاً إلى مساعدة عائلات المخفيين والمعتقلين، محاولاً إيقاف استنزافهم المالي على يد عناصر النظام الذين ابتزّوهم بوعود كاذبة عن مصير أحبّائهم. في مقابلته مع قناة الجزيرة، قال بحسرة: “أنا ما قدرت أتمالك نفسي، عبيقتلوا أولادنا، قهرونا وذلّونا، وبرجعوا بياخدوا منا مصاري ورشاوي مشان يفرجونا أولادنا ميتين!”.
لم يكن تهريب الصور سوى البداية، إذ ظلّ فريد يواجه الألم يومياً وهو يقلّبها واحدة تلو الأخرى. كانت الوجوه الممزقة بالكدمات والحروق تروي قصصها له بصمت: “عندما كنت أشاهد الصور، أشعر أنها تحدّثني” يقول فريد، الذي لم يتمكّن حتى من التعرّف على أقاربه بين الضحايا، بعدما طمست آثار التعذيب ملامحهم المألوفة.
نظام الأسد من جوّع السوريين وليس قيصر
يوجّه البعض أصابع الاتهام إلى قيصر، معتبرين أنه السبب في تجويع السوريين وتفاقم الأزمة الاقتصادية. لا شك في أن العقوبات الأحادية لطالما كانت سلاحاً غير عادل يدفع ثمنه المدنيون قبل الأنظمة، ولكن قبل إقرار القانون، كان الاقتصاد السوري منهاراً أصلاً بسبب الفساد، وسوء الإدارة، وتمويل النظام لحربه بدل دعم الاقتصاد، كما كانت القطاعات الإنتاجية مدمّرة والأسعار مرتفعة، بينما استخدم النظام سياسة التجويع سلاحاً في المناطق المحاصرة، كما فعل في الغوطة.
إذا كان التجويع اليوم يُستخدم لإدانة قيصر، فلماذا لم يُدن الأسد حين مارس التجويع الممنهج بحق المعتقلين والمدنيين؟ كيف يصبح قانون أُقرّ بعد اختفاء أكثر من 120 ألف شخص هو المشكلة الأخلاقية الوحيدة؟ هذا التناول الانتقائي يعكس توظيفاً مزدوجاً للمعايير، إما عن جهل بحقيقة ما حدث وإما عن تواطؤ متعمّد.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن قانون قيصر تمكّن من نخر النظام من الداخل، محوّلاً إياه إلى كيان هشّ، غير قادر على المواجهة أو الصمود بالقوة نفسها التي امتلكها سابقاً، لطالما آلمت العقوبات الأنظمة التي تعتمد على التمويل العسكري والقمعي للبقاء.
لكن المسألة ليست تمجيداً للعقوبات الأميركية، بل تأكيد أن العدل لا يكون انتقائياً. حين يصبح كاشف الحقيقة هو المتّهم، وتُبرَّر مأساة بينما تُدان أخرى، فنحن أمام خلل أخلاقي لا يمكن تجاهله.
اليوم، بدلاً من القول “أعطِ ما لقيصر لقيصر”، يمكن القول إن قيصر قدّم لنا كل ما يملك، إذ خسر حقه في حياة طبيعية، بعدما فُرضت عليه تدابير أمنية صارمة لحمايته، كما كشف في مقابلته مع قناة “الجزيرة”.
حُرم من الاندماج في المجتمع الفرنسي، من تعلّم اللغة، ومن العمل، وعاش هو وعائلته في الخفاء، تكريماً لأرواح المعذبين والمختفين، لكل الوجوه التي ظهرت في صوره المهربة، ولم يستطع أحد التعرف على أصحابها، لأن النظام السابق لم يترك ملامح على الوجوه ولا لحماً على العظام.
إقرأوا أيضاً: