تبدو وزارة الخارجية الإيرانية كمن يهزأ من شعبه وهي تطالب واشنطن بوقف العنف ضد الأميركيين، قائلة “دعوهم يتنفسون”، إثر التظاهرات التي عمت مدناً أميركية عدة، احتجاجاً على قتل الشرطة المواطن جورج فلويد، في جريمة عنصرية.
“لقد سمع العالم صوت مظلوميتكم ويقف الى جانبكم”، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، متوجّهاً إلى الشعب الأميركي.
يبدو الأمر وكأنّ إيران تعتقد صراحةً أن العالم لم يسمع صوت المتظاهرين الذين قتلتهم في شوارعها، أو كأنّ شعبها يتنفّس حقاً.
حين ينتقد مسؤولون إيرانيون جريمة عنصرية ارتكبها “العدو” ” أو “الشيطان الأكبر”، ألا يخطر في بالهم النساء اللواتي يعشن في مدنها وأزقّتها بلا كرامة وبلا صوت، والناشطات اللواتي اختفين واللواتي اعتقلن والنشطاء الذين جُلدوا والذين عُذّبوا وأعدموا؟ ماذا عن الأقلية العربية في الأهواز التي اعتقل وأعدم عشرات من نشطائها؟ ماذا عن الثورة الخضراء عام 2009 التي سحقت وأبيدت بلا رحمة؟ أليست هذه شذرات من جرائم عنصرية ارتكبها نظام الملالي الذي يريد الآن تلقين الغرب أصول التعامل مع المتظاهرين؟
ما زالت تظاهرات العراق على مقربة منا وما زلنا نسمع صوت الرصاص الحيّ الموجّه إلى الصدور البريئة. حوالى 600 مواطن قتلوا في تظاهرات العراق الذي يقبض على نظامه مسؤولون موالون للنظام الإيراني.
والسطوة الإيرانية تمتدّ إلى بلدان أخرى تحاول فيها إسكات أصوات الاحتجاج وفرض الصوت الخمينيّ الأوحد. وتجرؤ إيران على القتال في بلدان الآخرين تحت ذرائع دينية طائفية، وذلك كلّه طبعاً في الطريق نحو القدس.
وقد سمعنا في الفترة الأخيرة مسؤولاً إيرانياً يخاطب شعبه قائلاً إن إيران هي لبنان واليمن وسوريا والعراق…
ونحن نشاهد وجه الولايات المتحدة الآخر ونراقب كيف تتعامل مع شعبها المحتج، تدخّلت إيران في وسط المشهد لتجعله كوميدياً وتراجيدياً في آن. وتتحوّل من أيقونة للقمع والعنف، إلى منظّرة في حقوق الإنسان وحرية التعبير وعدم التمييز بين الناس.
ومثلها فعلت صديقتها الصين التي قالت إن العنصرية “مرض مزمن في المجتمع الأميركي”، وإن الاضطرابات تُظهر “خطورة مشكلتي العنصرية وعنف الشرطة في الولايات المتحدة”، بحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية تجاو ليجيان في مؤتمر صحافي في بكين.
الصين أيضاً صاحبة ذاكرة قصيرة على ما يبدو، فقد نسيت سريعاً ما تفعله بالمسلمين الإيغور وغيرهم، من قمع ممنهج، ونسيت الشبهات التي تحوم حولها في ملف “كورونا” وطريقة تعاملها معه ومع شعبها.
وهذه الذاكرة المثقوبة تمتد لتشمل دولاً عدة خصوصاً في منطقتنا التي تكرس فيها التمييز ضد النساء واللاجئين والعمال وضد المختلفين قانونياً واجتماعياً واقتصادياً.
أما ترامب، الرجل غريب الأطوار والذي أعلمنا منذ البداية أنه لا يأبه لأحد ولا يحبّ المختلفين مؤكّداً أن أميركا أولاً، انسلّ وسط الجلبة كلها، وقف في الشارع أمام إحدى الكنائس حاملاً الإنجيل، وطلب من أحدهم أن يلتقط له صورة.
لا نعرف إن كان ترامب يفكّر بمعالجة ما اقترفه رجال الشرطة عبر صورة يستعطف بها الشعب الأميركي (المسيحي)، المؤمن بشعار“in God we trust” أي “ثقتنا بالله”، وهو شعار موجود على العملة الأميركية أيضاً.
لكن ما نعرفه أن ذاك الشعور بالضعف غير المعلن الذي تتقاسمه بلدان الشرق الأوسط وأيضاً الدول العظمى التي تحاول منافسة الولايات المتحدة، يتحوّل في الظروف الراهنة إلى ذريعة للشماتة والتنظير على العملاق الأميركي الذي لم يكن هزّه ممكناً سوى من داخله. والمشهد الأميركي اليوم مع فرض حظر التجوّل ومحاولات تفرقة المتظاهرين، جعل بلداناً قمعية دكتاتورية مثل إيران ودولة أخرى تشعر بالتفوّق أو على الأقل بالمساواة في المظالم. فالآن ليست هي التي تقمع وتقتل، ويخرج عليها ترامب والغرب “الامبريالي” للدفاع عن حرية التعبير والتظاهر. الآن تجلس إيران مستمتعةً في الكرسي الآخر الذي كان قبل الآن كرسي ترامب والغرب، تجلس وتوبّخ ترامب على عنصريته ووحشيته.
جريمة مقتل فلويد وما تبعها من تظاهرات في مدن أميركية عدة ومحاولات قمعها، أسلحة مهمّة لا بدّ أن تستثمرها إيران وسواها من الآن وصاعداً، فكلّما قال لها أحدهم: “بأي حق قتلتِ فلان أو فلانة؟”، سترد: “بالحق الذي قتل به جورج فلويد”.