fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“إيفيجيني”… جدلية التضحية والمصير في أسئلة اللجوء السوري بألمانيا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“في كل المسرحيات يبذل يوربيديس أقصى ما يستطيع ليظهر شخصياته على مستوى لا يرتفع كثيراً عن مستوى الفرد العادي. وهو عقلاني متشكك في معالجاته الأسطورية وآرائه الدينية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الأسطورة الإغريقية تتوقف جيوش هيلاس في أوليس للإبحار صوب طروادة، لكن الربة أرتيمس تمنع هبوب الرياح وتشترط على أغاممنون قائد الجيوش تقديم ابنته إيفيجيني قرباناً لذلك. 

 أما في المسرح فقد خصص يوربيديس نصين مسرحيين لحكاية “إيفيجيني”، “إيفيجيني في أوليس” و”إيفيجيني في تاوريس”، عام 412 ق.م. وفيهما يتبع يوربيديس رواية مخالفة للأسطورة وفحواها أن الربة أرتميس أنقذت إيفيجيني ابنة أغاممنون فلم تذبح قرباناً من أجل إبحار الأساطيل الإغريقية إلى طروادة وإنما حملت إلى بلاد التاوريين. وهؤلاء القوم يعبدون أرتميس وبوصول إيفيجيني إلى هناك أصبحت كاهنة معبد أرتميس. 

في نسخ أخرى من الحكاية، فإن إيفيجيني تقدم بملء إرادتها نفسها تضحيةً لأجل طموح شعبها في الانتصار في الحرب، هذه الإرادة الشخصية تقرأ على كونها فعل رضوخ، وتقرأ أيضاً من كتاب آخرين، كغوته مثلاً، على أنها فعل بطولي يضع المرأة إلى جوار الرجل في قدرتها على صناعة الحدث التاريخي.

قدم الكاتب محمد العطار والمخرج محمد أبو سعدة ثلاثية مسرحية سورية عن تجربة النزوح والهجرة استلهمت من نصوص إغريقية، “نساء طروادة في الأردن”، “أنتيغون شاتيلا في لبنان”، والعرض الثالث “إيفيجيني في ألمانيا”، والأعمال الثلاثة قدمت مع نساء من الشتات السوري. قدم العرض المسرحي (إيفيجينيا) في برلين في مسرح فولكسبونه، بمشاركة مجموعة من السوريات المقيمات في ألمانيا، في تجربتهن التمثيلية الأولى. وتقوم الحبكة الرئيسية على فكرة تقدم المشاركات إلى اختبار اختيار ممثلة casting لأداء دور إيفيجيني. والمتوقع من المرشحات للدور ضمن اختبار الأداء هو تقديم مقطع من إحدى مونولوغات إيفيجيني. ولا يقدم العرض المسرحي حكاية درامية، بل يقدم حكايات النساء المشاركات. لأن المقابلات الفردية تصبح أكثر من مجرد اختبار أداء، وتتحول إلى بوح أمام الجمهور عن التجارب الشخصية للنساء اللاجئات كقصص الحب، رغبة التمثيل المسرحي، العائلة، الثورة، واللجوء.

تكتب الباحثة وديعة فرزلي في التعريف عن بنية العرض: “خلال الورشات التدريبيّة استلهم الكاتب والدراماتورغ المسرحيّ محمد العطّار النصّ المسرحيّ للعرض، الذي تشارك كلّ واحدةٍ من المشاركات قصّتها فيه. اقتربت هذه القصص إلى حدّ من الحاجات الملحّة للنساء المشاركات، والإشكاليّات الراهنة التي تختبرها كلّ واحدةٍ من الشخصيّات في حياتها الجديدة في ألمانيا. مثلاً: صعوبات العودة إلى المدرسة في ألمانيا بالنسبة إلى المشاركة هبة الله مع فئاتٍ عمريّةٍ أصغر منها، أو العودة إلى التمثيل الاحترافيّ بالنسبة إلى المشاركة ديانا قدح، أو البحث عن عملٍ بالنسبة إلى المشاركتين: ساجدة الطايع، وزينة العبد الله، أو البحث عن الحبّ مجدّداً بالنسبة إلى المشاركة ليلى شندي. وما يمكن أن نلْحظه في غالبيّة قصص المشاركات هو العلامات الجليّة لتصدّع الهويّة الثقافيّة، ومواجهة أسئلة الاغتراب عن الجماعة، وإعادة البحث مجدّداً عن تعريفاتٍ للذات بعلاقتها مع الذاكرة، وما تسبّبه رحلة البحث هذه من إحساسٍ بالعزلة، ورغبةٍ بالانطواء على النفس”.

الإرادة مقابل التغيير في حكايات اللجوء السوري

في الإطار نفسه، تأتي قراءة أحمد عثمان لمسرح يوربيديس الذي يعود إليه النص الأصل، فيكتب: “في كل المسرحيات يبذل يوربيديس أقصى ما يستطيع ليظهر شخصياته على مستوى لا يرتفع كثيراً عن مستوى الفرد العادي. وهو عقلاني متشكك في معالجاته الأسطورية وآرائه الدينية. فمثلاً كان يوربيديس أول من قدم على المسرح شخصيات مأساوية في بؤس تام بثياب مهلهلة، واختار بعضهم من أصل وضيع ومع ذلك منحهم نبل السلوك وعظمة متميزة في الأخلاق وإضافة إلى أن ذلك أحدث تجديداً عميقاً في مفهوم التراجيديا في حينها، فإنه أيضاً يبرهن على تشعبه بالتعاليم السوفسطائية التي ترى أن الفوارق الاجتماعية والتفرقة بين النبيل والوضيع ليست من صنع الطبيعة، ولكنها من نسج العادات والأعراف. والإنسان لم يعد عنده الشريك الأضعف أمام الآلهة في هذا الوجود. صفوة القول أن يوربيديس يمازج ويزاوج بين الخير والشر، الحب والكراهية، النبل والخسة وهو يرسم شخصيات مسرحياته”.

تكتب الباحثة فرزلي عن حضور التضحية في الاقتباس السوري المعاصر: “تدفعنا بنية المسرحيّة في علاقتها مع النصّ الإغريقيّ، لتتبّع الأثر الناتج عن ديناميكيّات العلاقة بين مستويَي العرض: الأوّل اختبار الأداء، والمستوى الثاني مسرحية إيفيجيني؛ حيث يُطلب من المرشّحات للدور أن يقدّمن مقطعاً يخترنه من مونولوغات إيفيجيني، وتُسأل كلّ واحدةٍ منهنّ عن رأيها الشخصيّ بتضحية إيفيجيني، وما الذي كانت لتفعله لو كانت مكانها؟ أي هل تقبل بهذه التضحية؟ تتنوّع إجابات المشاركات على سؤال التضحية بأنفسهنّ من أجل الآخرين، ومنهنّ من تضحي بنفسها من أجل عائلتها، ومنهنّ من لا تقبل التضحية أبداً، ومنهنّ من تجد أن التضحية دليلٌ على القوّة”. تتابع الباحثة في المقارنة بين القدر في حكاية إيفيجيني وبين القدر في حكاية اللجوء السوري في ألمانيا: “كيف يمكن أن نفهم الإسقاطات المحتملة لمسرحيّة إيفيجيني في أوليس على واقع النساء المشاركات في العرض؟ بالنظر إلى قبول إيفيجيني بالتضحية بنفسها على أنّه قدرٌ محتّمٌ عليها، فذلك يمكن أن يتقاطع مع حكايات الشابّات السوريّات من ناحية قبولهنّ بالقدر، إذا افترضنا أنّ الّلجوء هو القدر المحتّم، وما ينطوي عليه من مخاطر في رحلة اللجوء نحو المجهول.

 لكنّ غايات هذه المخاطرة لم تكن في سبيل الجيوش، أو الوطن، بلْ في سبيل إنقاذ الفرد الواحد الذي طحنته الحرب والعسكرة في بلاده. يرتسم لدينا هنا فارقٌ واضح المعالم بين شخصيّة إيفيجيني وقبولها بأن يُضحّى بها، وبين المشاركات في العرض اللواتي حاولن النجاة والبحث عن سبلٍ أُخرى للعيش. وإذا كانت إيفيجيني ضحيّة الجيوش ورغبة الملك، فالمشاركات في العرض هنّ الآن في لحظة مقاومةٍ ضدّ الحرب، والعسكرة، والمجتمعات الذكوريّة، بحثاً عن مسارٍ جديدٍ لحياتهنّ المقبلة”.

تحضر موضوعة اللجوء أو المنفى في حكاية إيفيجيني حين تنقذها الآلهة وتحملها إلى تاوريس، وهناك تتقارب حكايتها مع حكايات الغريبات، النازحات، المنفيات. يكتب حسن صقر في تقديم ترجمة نص “إيفيجيني في تاوريس، غوته، 1779”: “يرى بعض النقاد أن غوته وجد صلة عن طريق التماثل بين ارتباط إيفيجيني في جزيرة تاوريس وملكها تواس، وبين ارتباطه هو بدوقية فايمار وحاكمها الدوق المتنور كارل اوغست. إنه ارتباط إشكالي فيه المد والجزر، فيه الرضا الخارجي وفيه المعاناة من الداخل. فقد ترك غوته إيفيجيني أن تتحدث في مونولوجاتها منفردة لتعبر عن حنينها إلى بلاد الإغريق وفي الوقت ذاته تتألم لجحودها إزاء معاملة تواس النبيلة لها”. وبينما كان يوربيديس يهدف بالدرجة الأولى إلى كتابة عمل مقدس يرمي إلى تأكيد نبوءة الآلهة، ويجعل مصير الإنسان مرسوماً سلفاً ونضاله ينتهي إلى نتيجة واحدة، ألا وهي تحقيق مشيئة الآلهة. فإن عمل غوته في هذه المسرحية ارتكز على الأحداث وناقض البناء الدرامي لأنه ناقض الأهداف، ليؤكد فلسفته في الإنسان، كما كتب في إحدى قصائده: “نبيل هو الإنسان، غني بالعطاء وطيب، وهذا ما يميزه، عن الكائنات التي نعرف”. يكتب (صقر): “يتشكل الإنسان بحسب فلسفة غوته من الممكنات المبدعة التي تنزع إلى التحقق والتكامل. الحياة هي طريق انبثاق الذات نحو الأعلى. والتجربة هي التي تدفع بالفرد أن يبوح بمكنوناته. وتتخلص فلسفة غوته في الحياة بكلمة التحول، والتحول نزوع وانبثاق. البطولة لدى غوته ليست للأحداث، وإنما للنماذج. الصراع لا يدور في الخارج وإنما في الداخل وأهداف الصراع ليست الخلاص الشكلي أي نجاة الجسد ومغادرة الجزيرة، وإنما الكشف عن مكنونات الروح وإخضاعها إلى الامتحان الصعب من أجل خلاصها الحقيقي”.

أما عن إسقاطات النص على حكايات المرأة السورية في تجربة اللجوء السياسية، الثقافية، والإجتماعية، فتبين الباحثة (وديعة فرزلي) عن العرض السوري المعاصر بإعتباره نوعاً من أنواع التمثيل لتجربة المرأة السورية في النزوح القسري والمنفى: “في العموم تتكلّم المشاركات الشابّات السوريّات على المسرح من موقع الناجيات من الحرب في سوريا، والناجيات من قوارب الّلجوء، لكنْ في الوقت نفسه، هنّ الآن في صراعٍ مستمرٍّ، وحالة تخبّطٍ من أجل بداية حياةٍ جديدةٍ في البلد الجديد الذي لجأنَ إليه. والعرض محاولة للتعرّف على الذات الجديدة، وعلى الهويّة الثقافيّة الجديدة، التي يعاد تشكيلها بفعل الارتجاج العنيف الذي سبّبته الهجرة القسريّة. تدور محاولات التعرّف هذه أوّلاً: حول اكتشاف تجربة الّلجوء، ونقلها إلى الجمهور الألمانيّ من خلال العودة إلى قصصٍ ذاتيّةٍ قاسيةٍ حدثت خلال رحلة الّلجوء، وإعادة تذكّرها كما في مسرحيّة إيفيجيني؛ حيث إنّ محاولة السرد والتذكّر هي بوحٌ ذاتيٌّ قد يساعد على النظر إلى الخلف، والاعتراف بقسوة ما حدث”.

إقرأوا أيضاً:

26.07.2022
زمن القراءة: 6 minutes

“في كل المسرحيات يبذل يوربيديس أقصى ما يستطيع ليظهر شخصياته على مستوى لا يرتفع كثيراً عن مستوى الفرد العادي. وهو عقلاني متشكك في معالجاته الأسطورية وآرائه الدينية.

في الأسطورة الإغريقية تتوقف جيوش هيلاس في أوليس للإبحار صوب طروادة، لكن الربة أرتيمس تمنع هبوب الرياح وتشترط على أغاممنون قائد الجيوش تقديم ابنته إيفيجيني قرباناً لذلك. 

 أما في المسرح فقد خصص يوربيديس نصين مسرحيين لحكاية “إيفيجيني”، “إيفيجيني في أوليس” و”إيفيجيني في تاوريس”، عام 412 ق.م. وفيهما يتبع يوربيديس رواية مخالفة للأسطورة وفحواها أن الربة أرتميس أنقذت إيفيجيني ابنة أغاممنون فلم تذبح قرباناً من أجل إبحار الأساطيل الإغريقية إلى طروادة وإنما حملت إلى بلاد التاوريين. وهؤلاء القوم يعبدون أرتميس وبوصول إيفيجيني إلى هناك أصبحت كاهنة معبد أرتميس. 

في نسخ أخرى من الحكاية، فإن إيفيجيني تقدم بملء إرادتها نفسها تضحيةً لأجل طموح شعبها في الانتصار في الحرب، هذه الإرادة الشخصية تقرأ على كونها فعل رضوخ، وتقرأ أيضاً من كتاب آخرين، كغوته مثلاً، على أنها فعل بطولي يضع المرأة إلى جوار الرجل في قدرتها على صناعة الحدث التاريخي.

قدم الكاتب محمد العطار والمخرج محمد أبو سعدة ثلاثية مسرحية سورية عن تجربة النزوح والهجرة استلهمت من نصوص إغريقية، “نساء طروادة في الأردن”، “أنتيغون شاتيلا في لبنان”، والعرض الثالث “إيفيجيني في ألمانيا”، والأعمال الثلاثة قدمت مع نساء من الشتات السوري. قدم العرض المسرحي (إيفيجينيا) في برلين في مسرح فولكسبونه، بمشاركة مجموعة من السوريات المقيمات في ألمانيا، في تجربتهن التمثيلية الأولى. وتقوم الحبكة الرئيسية على فكرة تقدم المشاركات إلى اختبار اختيار ممثلة casting لأداء دور إيفيجيني. والمتوقع من المرشحات للدور ضمن اختبار الأداء هو تقديم مقطع من إحدى مونولوغات إيفيجيني. ولا يقدم العرض المسرحي حكاية درامية، بل يقدم حكايات النساء المشاركات. لأن المقابلات الفردية تصبح أكثر من مجرد اختبار أداء، وتتحول إلى بوح أمام الجمهور عن التجارب الشخصية للنساء اللاجئات كقصص الحب، رغبة التمثيل المسرحي، العائلة، الثورة، واللجوء.

تكتب الباحثة وديعة فرزلي في التعريف عن بنية العرض: “خلال الورشات التدريبيّة استلهم الكاتب والدراماتورغ المسرحيّ محمد العطّار النصّ المسرحيّ للعرض، الذي تشارك كلّ واحدةٍ من المشاركات قصّتها فيه. اقتربت هذه القصص إلى حدّ من الحاجات الملحّة للنساء المشاركات، والإشكاليّات الراهنة التي تختبرها كلّ واحدةٍ من الشخصيّات في حياتها الجديدة في ألمانيا. مثلاً: صعوبات العودة إلى المدرسة في ألمانيا بالنسبة إلى المشاركة هبة الله مع فئاتٍ عمريّةٍ أصغر منها، أو العودة إلى التمثيل الاحترافيّ بالنسبة إلى المشاركة ديانا قدح، أو البحث عن عملٍ بالنسبة إلى المشاركتين: ساجدة الطايع، وزينة العبد الله، أو البحث عن الحبّ مجدّداً بالنسبة إلى المشاركة ليلى شندي. وما يمكن أن نلْحظه في غالبيّة قصص المشاركات هو العلامات الجليّة لتصدّع الهويّة الثقافيّة، ومواجهة أسئلة الاغتراب عن الجماعة، وإعادة البحث مجدّداً عن تعريفاتٍ للذات بعلاقتها مع الذاكرة، وما تسبّبه رحلة البحث هذه من إحساسٍ بالعزلة، ورغبةٍ بالانطواء على النفس”.

الإرادة مقابل التغيير في حكايات اللجوء السوري

في الإطار نفسه، تأتي قراءة أحمد عثمان لمسرح يوربيديس الذي يعود إليه النص الأصل، فيكتب: “في كل المسرحيات يبذل يوربيديس أقصى ما يستطيع ليظهر شخصياته على مستوى لا يرتفع كثيراً عن مستوى الفرد العادي. وهو عقلاني متشكك في معالجاته الأسطورية وآرائه الدينية. فمثلاً كان يوربيديس أول من قدم على المسرح شخصيات مأساوية في بؤس تام بثياب مهلهلة، واختار بعضهم من أصل وضيع ومع ذلك منحهم نبل السلوك وعظمة متميزة في الأخلاق وإضافة إلى أن ذلك أحدث تجديداً عميقاً في مفهوم التراجيديا في حينها، فإنه أيضاً يبرهن على تشعبه بالتعاليم السوفسطائية التي ترى أن الفوارق الاجتماعية والتفرقة بين النبيل والوضيع ليست من صنع الطبيعة، ولكنها من نسج العادات والأعراف. والإنسان لم يعد عنده الشريك الأضعف أمام الآلهة في هذا الوجود. صفوة القول أن يوربيديس يمازج ويزاوج بين الخير والشر، الحب والكراهية، النبل والخسة وهو يرسم شخصيات مسرحياته”.

تكتب الباحثة فرزلي عن حضور التضحية في الاقتباس السوري المعاصر: “تدفعنا بنية المسرحيّة في علاقتها مع النصّ الإغريقيّ، لتتبّع الأثر الناتج عن ديناميكيّات العلاقة بين مستويَي العرض: الأوّل اختبار الأداء، والمستوى الثاني مسرحية إيفيجيني؛ حيث يُطلب من المرشّحات للدور أن يقدّمن مقطعاً يخترنه من مونولوغات إيفيجيني، وتُسأل كلّ واحدةٍ منهنّ عن رأيها الشخصيّ بتضحية إيفيجيني، وما الذي كانت لتفعله لو كانت مكانها؟ أي هل تقبل بهذه التضحية؟ تتنوّع إجابات المشاركات على سؤال التضحية بأنفسهنّ من أجل الآخرين، ومنهنّ من تضحي بنفسها من أجل عائلتها، ومنهنّ من لا تقبل التضحية أبداً، ومنهنّ من تجد أن التضحية دليلٌ على القوّة”. تتابع الباحثة في المقارنة بين القدر في حكاية إيفيجيني وبين القدر في حكاية اللجوء السوري في ألمانيا: “كيف يمكن أن نفهم الإسقاطات المحتملة لمسرحيّة إيفيجيني في أوليس على واقع النساء المشاركات في العرض؟ بالنظر إلى قبول إيفيجيني بالتضحية بنفسها على أنّه قدرٌ محتّمٌ عليها، فذلك يمكن أن يتقاطع مع حكايات الشابّات السوريّات من ناحية قبولهنّ بالقدر، إذا افترضنا أنّ الّلجوء هو القدر المحتّم، وما ينطوي عليه من مخاطر في رحلة اللجوء نحو المجهول.

 لكنّ غايات هذه المخاطرة لم تكن في سبيل الجيوش، أو الوطن، بلْ في سبيل إنقاذ الفرد الواحد الذي طحنته الحرب والعسكرة في بلاده. يرتسم لدينا هنا فارقٌ واضح المعالم بين شخصيّة إيفيجيني وقبولها بأن يُضحّى بها، وبين المشاركات في العرض اللواتي حاولن النجاة والبحث عن سبلٍ أُخرى للعيش. وإذا كانت إيفيجيني ضحيّة الجيوش ورغبة الملك، فالمشاركات في العرض هنّ الآن في لحظة مقاومةٍ ضدّ الحرب، والعسكرة، والمجتمعات الذكوريّة، بحثاً عن مسارٍ جديدٍ لحياتهنّ المقبلة”.

تحضر موضوعة اللجوء أو المنفى في حكاية إيفيجيني حين تنقذها الآلهة وتحملها إلى تاوريس، وهناك تتقارب حكايتها مع حكايات الغريبات، النازحات، المنفيات. يكتب حسن صقر في تقديم ترجمة نص “إيفيجيني في تاوريس، غوته، 1779”: “يرى بعض النقاد أن غوته وجد صلة عن طريق التماثل بين ارتباط إيفيجيني في جزيرة تاوريس وملكها تواس، وبين ارتباطه هو بدوقية فايمار وحاكمها الدوق المتنور كارل اوغست. إنه ارتباط إشكالي فيه المد والجزر، فيه الرضا الخارجي وفيه المعاناة من الداخل. فقد ترك غوته إيفيجيني أن تتحدث في مونولوجاتها منفردة لتعبر عن حنينها إلى بلاد الإغريق وفي الوقت ذاته تتألم لجحودها إزاء معاملة تواس النبيلة لها”. وبينما كان يوربيديس يهدف بالدرجة الأولى إلى كتابة عمل مقدس يرمي إلى تأكيد نبوءة الآلهة، ويجعل مصير الإنسان مرسوماً سلفاً ونضاله ينتهي إلى نتيجة واحدة، ألا وهي تحقيق مشيئة الآلهة. فإن عمل غوته في هذه المسرحية ارتكز على الأحداث وناقض البناء الدرامي لأنه ناقض الأهداف، ليؤكد فلسفته في الإنسان، كما كتب في إحدى قصائده: “نبيل هو الإنسان، غني بالعطاء وطيب، وهذا ما يميزه، عن الكائنات التي نعرف”. يكتب (صقر): “يتشكل الإنسان بحسب فلسفة غوته من الممكنات المبدعة التي تنزع إلى التحقق والتكامل. الحياة هي طريق انبثاق الذات نحو الأعلى. والتجربة هي التي تدفع بالفرد أن يبوح بمكنوناته. وتتخلص فلسفة غوته في الحياة بكلمة التحول، والتحول نزوع وانبثاق. البطولة لدى غوته ليست للأحداث، وإنما للنماذج. الصراع لا يدور في الخارج وإنما في الداخل وأهداف الصراع ليست الخلاص الشكلي أي نجاة الجسد ومغادرة الجزيرة، وإنما الكشف عن مكنونات الروح وإخضاعها إلى الامتحان الصعب من أجل خلاصها الحقيقي”.

أما عن إسقاطات النص على حكايات المرأة السورية في تجربة اللجوء السياسية، الثقافية، والإجتماعية، فتبين الباحثة (وديعة فرزلي) عن العرض السوري المعاصر بإعتباره نوعاً من أنواع التمثيل لتجربة المرأة السورية في النزوح القسري والمنفى: “في العموم تتكلّم المشاركات الشابّات السوريّات على المسرح من موقع الناجيات من الحرب في سوريا، والناجيات من قوارب الّلجوء، لكنْ في الوقت نفسه، هنّ الآن في صراعٍ مستمرٍّ، وحالة تخبّطٍ من أجل بداية حياةٍ جديدةٍ في البلد الجديد الذي لجأنَ إليه. والعرض محاولة للتعرّف على الذات الجديدة، وعلى الهويّة الثقافيّة الجديدة، التي يعاد تشكيلها بفعل الارتجاج العنيف الذي سبّبته الهجرة القسريّة. تدور محاولات التعرّف هذه أوّلاً: حول اكتشاف تجربة الّلجوء، ونقلها إلى الجمهور الألمانيّ من خلال العودة إلى قصصٍ ذاتيّةٍ قاسيةٍ حدثت خلال رحلة الّلجوء، وإعادة تذكّرها كما في مسرحيّة إيفيجيني؛ حيث إنّ محاولة السرد والتذكّر هي بوحٌ ذاتيٌّ قد يساعد على النظر إلى الخلف، والاعتراف بقسوة ما حدث”.

إقرأوا أيضاً: