صافح الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي حليفه بشار الأسد في دمشق. زيارة هي الأولى لرئيسي الى العاصمة السوريّة، بعد 12 عاماً من الحرب التي شنّها الأسد على شعبه منذ اندلاع التظاهرات في سوريا. صورة الاثنين لا تخلو من الاستفزاز، “مجرما حرب”، يداً بيد، مُستعدان للعودة إلى الساحة العربيّة والدولية.
تتزامن زيارة الرئيس الإيراني مع إعادة توزّع القوى الإقليميّة، التهدئة بين إيران والسعودية برعاية الصين قائمة على قدم وساق، أما سوريا فتعيد فتح سفاراتها في الدول العربيّة، وتعمل على استعادة مقعدها في جامعة الدول العربية على رغم اشتراطات خمس دول، منها مصر والكويت، ناهيك بالتقارب السوريّ التركيّ واجتماعات وزراء الدفاع. باختصار، تؤتي دبلوماسية الكبتاغون السوريّة ثمارها، وأذرع إيران في اليمن وسوريا ولبنان والعراق قادرة على فرض الحوار مع دول الجوار.
لا تهدد عودة الأسد إلى الحاضنة العربيّة ذهنية رئيسي البراغماتية، ولا يرى في ذلك ضرورة سياسية تلح عليه. فهذه الحاضنة لم يكن لها وجود مؤثر سابقاً مع تنامي نفوذ طهران في سوريا، بخاصة في مرحلة “الأسد” الابن، ثم القفزة الهائلة التي حدثت مع انخراط الحرس الثوري في تصفية وتطييف الثورة السورية. الثابت في هذه الزيارة هو التفتيش عن استحقاقات الحرب التي لا يكف المسؤولون الإيرانيون عن المطالبة بها، وتعويض خسائر طهران الاقتصادية.
الاستقبال الذي حظي به رئيسي في دمشق، يحمل رمزية تبدو مقصودة ومتعمدة، يتداخل فيها الدينيّ مع السياسيّ، إذ برزت الأعلام الإيرانية وسط التظاهرات التي رحبت بوصوله، وعلت عبارات دينية طائفية مثل: “يا علي.. يا علي”، في إشارة إلى رابع الخلفاء علي بن أبي طالب. لاحقاً، أعلن رئيسي، أثناء وقوفه عند العتبات المقدسة في مقام السيدة زينب في ريف دمشق، عن “الإرادة الصلبة” لبلاده في دمشق، والتي نجحت في جعل تيار أو “جبهة الممانعة” قوياً “لا يتقهقر”، إذ ساهمت (المقاومة) في تغيير المعادلات في المنطقة، “وهذا الأمر بات واضحاً للعيان”. وأضاف أنّ “فلسطين المقاومة وقفت ضد الكيان الصهيوني، وغيّرت الوضع بصورة كاملة”، لافتاً إلى أنّ “زمام المبادرة اليوم في أيدي المجاهدين الساعين الى تحرير القدس، وفي يد الشعب المقاوم”، باختصار، رئيسي زعيم ديني وسياسي، وقائد حربة المقاومة التي تخاذل عنها الكثيرون، وطبّعوا مع “الأعداء”.
المظاهر التعبوية والخطابات التجييشية لا تتجاوز حدودها الوظيفية لتأكيد ما هو واضح، سياسياً وميدانياً، وتسويقه إعلامياً كرسالة لأطراف خارجية. غير أنّ الأهداف الاقتصادية ودفع فاتورة الحرب تمثل السياق الأكثر متانة وراهنية، بغض النظر عن السطح المتخم بالاصطفاف والتحالف القوي الذي يحتاج (حتى لا يهتز) إلى تعويض طهران خسائرها البالغة نحو 30 مليار دولار خلال عشرة أعوام في سوريا، وفق تصريح برلماني إيراني.
رافق الرئيس الإيراني “وفد وزاري سياسي واقتصادي رفيع”، على مدار يومين. في طهران، صرح الناطق بلسان الحكومة، علي بهادري جهرمي، بأنّ الزيارة استجابة لدعوة من “الأسد”، ولها “أهمية استراتيجية” للبلدين، وأن هدفها “اقتصادي”.
عرج الناطق بلسان الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، بشكل مباشر، على قضية إعادة إعمار سوريا التي سبق وكانت ضمن ملفات تخضع لاستقطابات سياسية حادة داخل النظام، بعدما سجل القطاع الخاص بإيران إخفاقاً مريراً في تحقيق نتيجة مرضية. وقال كنعناني: “سوريا دخلت مرحلة إعادة الإعمار، والجمهورية الإسلامية في إيران (…) جاهزة لتكون مع الحكومة السورية في هذه المرحلة أيضاً”، مثلما كانت إلى جانبها “في القتال ضد الإرهاب” الذي عدّه “مثالاً ناجحاً على التعاون بين الدولتين”.
سبق لرئيس جمعية الإعمار في إيران، إيرج رهبر، أن صرح لوكالة أنباء “مهر” الإيرانية، قبل عامين، بعدم التقدم في ملف إعادة إعمار سوريا. فضلاً عن فشل تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين منذ عام 2018. نقلت وكالة الأنباء الإيرانية عن رهبر قوله إنّ تلك الاتفاقيات المرتبطة بالاستثمار الإيراني في قطاعات النقل والمصارف والإسكان بسوريا لم تحظ بأي “ترجمة عملية من الناحية الاقتصادية”.
لا يكاد يختلف موقف رئيس جمعية الإعمار في إيران، والذي كان ضمن وفد إيراني زار سوريا لتدشين اتفاقيات بهذا الشأن، عن مقاربة البرلماني الإيراني السابق ورئيس لجنة الأمن القومي، حشمت الله فلاحت بيشة، إذ خاض الأخير هجوماً عليه قبل عامين، بخصوص فشل تعويض إيران 30 مليار دولار في سوريا على خلفية الدعم العسكري لـ”الأسد”. عاودت التذكير بهذا الأمر صحيفة “كيهان” الأصولية، بصيغة معدلة وصفت “الخسائر” بأنّها “ديون مستحقة” ينبغي “حلّها” خلال تلك الزيارة.
اللافت أن المستشار العسكري للمرشد الإيراني، الجنرال يحي رحيم صفوي، تخطى أيّ اعتبارات سياسية وديبلوماسية عندما ذكر أن هذا الدعم الإيراني، لإبقاء الرئيس السوري في منصبه “ليس مجانياً”. وينطبق الأمر ذاته، وفق صفوي، على تدخلات إيران بالمنطقة، تحديداً العراق.
تصريحات صفوي وسابقيه جاءت في لحظة ارتباك قصوى سياسياً في إيران على خلفية تفاقم التظاهرات بعد أزمة الوقود، فضلًا عن احتدام التنافس مع موسكو في سوريا وسماح الأولى لإسرائيل أو عبر التنسيق معها استهداف مناطق نفوذ الحرس الثوري بدمشق. الأمر الذي اضطرَّ أطرافاً عدة في النظام للضغط على الحكومة للحصول على موارد وأموال جراء خدماتها الإقليمية. وقال صفوي: “تم تدشين عقود عدة مع سوريا، وسنحصل على أشياء في المقابل. بيد أنّ الروس يستفيدون من روسيا أكثر مما نستفيد”.
تتراوح تكاليف إعادة إعمار سوريا، وفق الجنرال الإيراني، بين 300 إلى 400 مليار دولار، وقد تستغرق أعواماً عدة. إلا أنّ الأكيد والضروري هو “تعويض (إيران) الخسائر الفادحة في سوريا”. وتابع: “السوريون مستعدون لتعويضها من مناجم النفط والغاز والفوسفات لديهم”.
التقى رئيسي وفدًا اقتصادياً برئاسة وزير الطرق والمدن الإيراني في دمشق. وقال الرئيس السوري إنّ “ترجمة العمق في العلاقة السياسية بين سوريا وإيران إلى حالة مماثلة في العلاقة الاقتصادية، هي مسألة ضرورية ويجب أن تستمر حكومتا البلدين في العمل عليها لتقويتها وزيادة نموها. وقد تم توقيع 15 اتفاقية تعاون بين البلدين. وذكر المساعد السياسي للرئيس الإيراني، أنّ الاستراتيجية الإيرانية تهدف الى تعزيز الوجود الاقتصادي على ساحل البحر المتوسط.
تطلعات إيران الجيواستراتيجية والاقتصادية، وتحديداً في مناطق تأمين وجود الطاقة، على ساحل المتوسط، تلاحق موسكو التي استأجرت مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً تقريباً، مع الأخذ في الحسبان أنّ بناء الأولى “مرفأين مهمّين في شمال طرطوس وفي جزء من مرفأ اللاذقية” تزامن مع الخطوة الأخيرة.
نقلت وكالة أنباء “تسنيم” عن مساعد الرئيس الإيراني، محمد جمشيدي، قوله: “نسعى إلى إيجاد تعاون اقتصادي مستدام في سوريا، بحيث نتمكن في النهاية من الحضور الملموس على سواحل البحر الأبيض المتوسط”.
أخفقت الحكومات الإيرانية السابقة في تحقيق أيّ تقدم مع سوريا، وفق جمشيدي. وقال: “في الفترات الماضية، بعض الحكومات اعتقدت أنّه للحصول على صلاحيات ومصالح اقتصادية، يجب منح صلاحيات جيوسياسية مقابلها، أيّ التنازل عن قوة إيران الإقليمية للحصول على مصالح اقتصادية”. وتابع: “لكنّ حكومة رئيسي لا تعتقد هكذا. فإننا نسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي إلى جانب حفاظنا والتزامنا بالقدرة الاستراتيجية والإقليمية والمقاومة”.
إثر عودته إلى طهران، اعتبر رئيسي الزيارة لدمشق انعطافة لجهة تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية. ولمّح إلى القطاعات التي سيتعاون فيها البلدان، منها الطاقة والصناعة والسياحة والزراعة.
خالفت صحيفة “شرق” المحسوبة على التيار الإصلاحي، كل التقديرات السابقة، واعتبرت نتائج الزيارة تشمل الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية ولا تتضمن المجالات الاقتصادية والتجارية. وقالت إنّ “إمكانات طهران الاقتصادية نتيجة العقوبات المفروضة عليها باتت معدومة”.
تبقى الصحف الأصولية والمقربة من الحكومة، هي من سعت الى تصدير تغطية تركز على البعد الاقتصادي لهذه الزيارة، في ظل التحديات الماثلة أمام حكومة “رئيسي”، وتحميلها الأزمات المجتمعية المتسببة في تنامي التظاهرات الفئوية والحقوقية. وتبدو هذه الاستدارة القوية نحو استحقاقات الحرب في سوريا مناورة تكتيكية للتغطية على المعضلة الاقتصادية وتخطي التضخم نسباً غير مسبوقة. فصحيفة “جام جم” عنونت صفحتها الأولى بـ “والآن حان وقت جني ثمار المقاومة”، فيما جاء مانشيت “كيهان”: “فصل جديد من العلاقات الاقتصادية بين طهران ودمشق بعد التوقيع على 15 مذكرة تفاهم”، وقالت “خراسان”: “يد غنية في الشام”.
يرى الباحث والمحلل السياسي المتخصص بالشأن الإيراني، مسعود محمد، أنّ إيران باشرت بإعادة تموضعها وفق عنوان الانتقال من مرحلة المواجهات إلى مرحلة تثبيت الحصص والتسويات. ومن هذه الزاوية لا بد من قراءة واقعية لزيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الى لبنان، حيث سعى “الى رسم حدود نفوذ إيران، سياسياً وعسكرياً، مع إرسال إشارة الموافقة على تعديل المعادلة السياسية الداخلية القائمة، وذلك من خلال منح القوى المعارضة لـ”حزب الله” هامشاً أوسع على مستوى الإدارة السياسية للبلاد. وهذا الهامش سيكون من خلال إعادة التفاهم مع التيار الوطني الحر حول شخصية وسطية”.
في سوريا، تأتي زيارة الرئيس الإيراني وفق المبدأ نفسه، أيّ تحت عنوان البدء في “ترتيب مرحلة التسويات التي بدأت المنطقة تدخلها. ففي سوريا، وقّع الرئيس الإيراني اتفاقات اقتصادية وُصفت بتعاون استراتيجي شامل طويل الأمد، شملت مذكرة تفاهم تخص قطاعات النفط، ستشكل تلك الاتفاقيات الترجمة الاقتصادية للنفوذ العسكري الإيراني، الذي تمّ تكريسه خلال سنوات الحرب الماضية. إنّها زيارة تحصيل الفواتير”. يقول محمد لـ”درج”.
هناك مهمة مطلوبة من إيران و”حزب الله” لم تنته بعد، وهي ترسيم الحدود البرية ما بين لبنان وسوريا وإسرائيل، مثلما لعب “حزب الله” دوراً في عملية ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، وفق الباحث والمحلل السياسي المتخصص بالشأن الإيراني.
إقرأوا أيضاً: