“ابني قُتِل، توجد أدلة على ذلك، في البداية كانت الأدلة في قلبي، في احساسي، في عقلي، لقد كنت متأكدة من مقتله”.
بكثير من الحزن المشحون بالاحتجاج، تحدثت أم الياس الطاهري عن قضية ابنها، مؤكدة أن أخذت مساراً “غير عادل”، ويشوبها الكثير من “الانتهاكات”.
تفجرت قضية الشاب إلياس الطاهري (18 سنة) في الفترة الأخيرة، بعدما نشرت صحيفة الباييس الاسبانية فيديو (مدته 13 دقيقة) يوثق لعملية تقييد الفتى من قبل رجال الأمن، عندما كان نزيلاً قاصراً (17 سنة) في مركز أوريا للأحداث بألميريا الاسبانية حيث كان يحتجز مهاجرون غير شرعيون. الشاب ينحدر من مدينة تطوان المغربية وهو حاول الهجرة الى اسبانيا صيف عام 2019 لكنه لقي حتفه في مركز الاحتجاز الاسباني.
قصة الطاهري، أو “جورج المغربي” الشبيهة نوعاً ما مع قصة جورج فلويد الأميركي الأسود الذي قتله عنصر من الشرطة، لم تكن وليدة الفترة الأخيرة، بل مضى على وقائعها عام بأكمله من دون تفاصيل، أو أدلة تورط المدانين. وحكمت آنذاك المحكمة بأن ما وقع لا يعدو أن يكون سوى مجرد “حادثة عرضية”، تسلتزم استعمال القوة لـ”منع العنف أو إصابة النزيل بنفسه”.
لكن أنس الطاهري (22 سنة)، أخ الضحية، ينفي في تصريحات لـ”وكالة فرانس بريس” كلام السلطات الإسبانية، ويؤكد أن الفيديو يوثق لجريمة قتل واضحة، ويقول: “إذا شاهدتم شريط الفيديو فلا يمكنكم أن تصدقوا إطلاقاً أنه حادث عرضي كما تقول القاضية”.
القضية إذاً، في جعبتها الكثير من التفاصيل المخفية. والمقطع المصور وثق الجزء الأكبر منها: تكبيل، تقييد، ضغط على الجسد، عنف واستسلام للضحية من دون مقاومة.
وتسبب نشر الفيديو في تحريك القضية من جديد، إذ طالبت نيابة ألميريا بإعادة فتح التحقيق، كما أن أطوار الحادثة المكشوفة أثارت انتقادات أصوات حقوقية ومدنية، وطالبت بإعادة النظر حول طريقة التعامل مع القاصرين المهاجرين في مراكز الإيواء.
قَتَلُوه أم كَبحوا انفعالاته؟
تبدو طريقة تقييد القاصر على السرير غير إنسانية بالنظر لعدم خطورة الضحية المُكبل بطريقة تراها أصوات حقوقية ومدنية بأنه “مهينة” و”وحشية”.
بيد أن المركز الرسمي للحرس المدني،أكد أن رجال الأمن حاولوا تقييد القاصر “بشكل قانوني”.كما تم تسويغ هذا الفعل بمبرر أن الشاب كان “يقاوم” ويعاند أوامر القوة الأمنية. ما أدى إلى استعمال رجال الأمن القوة بغية كبح انفعالاته ووضعه على السرير منبطحاً على بطنه ورأسه إلى الأسفل. في وقت يشدد فيه القانون الاسباني على ضرورة أن يكون رأس المتابع إلى الأعلى حتى لا يتعرض للاختناق أو أضرار بدنية قد تودي بحياته.
ورجح تقرير التشريح الطبي إلى نتيجة غير محسومة، تفيد بأن طريقة تقييد الطاهري وفمه نحو الأسفل، قد تكون سبباً في الاختناق، وبالتالي الموت.
تتشبث السلطات الاسبانية بمعطى طبي لتبرير العنف في حق الطاهري، تقول إن الفتى “هدد طبيبا بالسكين”. كما اعتمدت على شهادة طبية تشخص حالته بـ”اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع”.
لكن،أم الطاهري ترفض رفضاً قاطعاً هذه “المزاعم”. وتقول: “حتى إن كان مريضاً نفسياً أو عقلياً كان لزاماً أن يتابعوا حالته مع طبيب مختص، لا أن يعاملوه بهذه الطريقة الوحشية”.
“جريمة مكتملة الأركان”
تجد السلطات الإسبانية نفسها محاصرة بوابل من المطالب الحقوقية والمدنية، هذه الأصوات تشدد على ضرورة إعادة التحقيق في أطوار القضية، بعد ظهور دفوعات وأدلة تشير إلى أن ما حصل ليس مجرد عنف لاحتواء انفعالات فتى قاصر.
“ما وقع للشاب الطاهري يعتبر بمثابة جريمة مكتملة الأركان”، يقول المحامي مراد العجوطي، عضو “ائتلاف العدالة من أجل إلياس الطاهري”.
ويوضح لـ”درج”: “المدعي العام كيَّف الأفعال القانونية على أنها استعمال مفرط للقوة، لكن لم يُكَيِّفها على أنها قتل، لأن القانون الاسباني يحمي الأفراد الذين يعملون في هذه المراكز. لذا أنا أعارض هذا التكييف لأنه غير حقيقي، لأننا أمام جريمة قتل مكتملة الأركان”.
وما زالت القضية تراوح مكانها بدون جديد قد يحسم لمصلحة الطرف المتضرر.
في هذا السياق، يؤكد العجوطي لـ”درج” أن عائلة الضحية استئنفت قرار المحكمة، لكن ليس هناك تقدم في القضية، على رغم الضغط الإعلامي والحقوقي.
ويقول: “السلطات الإسبانية ما زالت لم تأخذ الملف بالجدية والحزم المناسبين فإذا تم الاعتراف بهذا الخطأ سيمكن من ظهور دعاوى قضائية أخرى”.
“انتصرنا كطرف مدني”
قضية فلويد المغربي نالت حقها من التضامن الحقوقي والمدني، بمزيد من الانتقادات والبيانات والخطابات الاستنكارية، مع خطوات عملية من مراسلات وشكاوى وضعتها منظمات ومؤسسات مدنية بغية إحياء القضية.
وطالب الناشط الحقوقي فرنسيسكو فرنانديز ماروغان بـ”اتخاذ قرار سريع وجذري لوضع حد نهائي للجوء إلى هذا الأسلوب للسيطرة على قاصرين”، مشدداً على أحقية “ألا يموت أي شخص آخر في إسبانيا في هذه الظروف”.
أما مؤسسة الثقافة العربية الموجودة في إسبانيا، فقامت بتنصيب نفسها كطرف مدني في القضية، وأكدت أن الطاهري تعرض لمعاملة “لا إنسانية قبل وفاته اختناقاً”، وقالت بأن “الأمر يتعلق بجريمة قتل عمد غذّتها الكراهية والعنصرية وليست بوفاة عرضية عنيفة”، مطالبة محكمة ألميريا بـ”إصدار حكم نموذجي في هذه الواقعة”.
و لم يقتصر التضامن في قضية الطاهري الجهات الحقوقية وحسب، بل شمل أيضاً مئات المغاربة والإسبان على حد سواء، وتم توقيع عريضة الكترونية للضغط على السلطات الإسبانية من أجل إعادة فتح تحقيق حول موت الطاهري.
وقدم “ائتلاف العدالة من أجل إلياس الطاهري” مقترح قانون لدى السلطات الاسبانية، وأكد العجوطي أن الائتلاف راسل السفير الإسباني في المغرب، والكثير من المؤسسات الإسبانية لتقديم شكوى أمام السلطات الاسبانية، بالتنسيق مع “مؤسسة ابن بطوطة” التي يرأسها البرلماني المغربي في اسبانيا محمد الشايب.
“لقد انتصرنا كطرف مدني في هذه القضية”، يوجز العجوطي مجهودات الفعاليات المدنية والحقوقية المبذولة تجاه مظلومية الشاب المغربي المغترب في اسبانيا.
وعلى رغم أن القضية لم تُحْسَم بعد، إلا أن العجوطي وسواه من الحقوقيين والمدنيين والمدافعين عن الطاهري يرون أن مكسباً مهماً قد تحقق، يكمن في إحياء القضية، والكشف عن ملابسات خفية بانتظار التطورات المقبلة.