تختلف موجة الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في محافظة السويداء السورية، خلال الأسابيع الفائتة، عن أحداث ومظاهرات عاشتها المحافظة الجنوبية، تدرجاً منذ عام 2018 بعدما هدأت جبهات القتال نسبياً.
إذ امتازت الاحتجاجات السابقة، بقصر المدة، ومحدودية المشاركة، واقتصار مطالبها على الجانب المعيشي، أما الشعارات السياسية التي تطال النظام السوري بشكل مباشر، فإن ظهرت كانت لا تلبث أن تتراجع، ولم يندر أن تُسبّبَ ابتعادَ شريحة واسعة عن التظاهرات.
من ناحية أخرى وعلى وقع الانهيار المعيشي المتسارع، وهبوط سعر صرف الليرة، وموجات الهجرة الجارفة بالتحديد للفئات الشابة، والتي شملت نساءً ورجالاً وعائلات بأكملها في كثير من الأحيان، بدا أن التململ أو ربما الألم بلغ مرحلةً قصوى، في مجتمع “مُزارع/ مُحارب” يغلب عليه التماسك العائلي والمحافظة الاجتماعية.
يضاف إلى ما سبق المعاناة المريرة مع حالة الفلتان الأمني، وانتشار السلاح وعصابات التهريب والخطف، وتجارة المخدرات شبه العلنية، وهذه الحال فضلاً عن تهديدها المباشر لحياة الناس وأرواحهم، تعتبر خرقاً لأعراف وعادات اجتماعية، طالما شدد أهل المحافظة على تمسكهم بها، ونبذوا الخارجين عنها.
ضمن سياق الحرب في سوريا، يأتي اشتعال المظاهرات في السويداء، ليفتح الباب على التساؤلات، التي لا يتردد بعضهم بإضفاء “سحرية فاقعة” عليها، حين يربطونها “بالدروز” -وهم غالبية سكان المحافظة- وألوان رايتهم ولباس مشايخهم أو غموض معتقداتهم.
بيد أن الالتفات إلى وقائع المجتمعات الفلاحية السورية، منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ومتابعة تطوراتها وتقلبات دهرها المتشابهة، من سهول الجزيرة شمالاً، إلى سهل حوران وجبله جنوباً، ومعاناتها مع عسف السلطة وفسادها، وموجات الجفاف، وتمزق نسيجها الاجتماعي، أو صعود بعض أبنائها على أكتاف التعليم أو الحزب القائد، وارتباطهم بوظائف الدولة الوطنية وأجهزتها ومؤسساتها، وهجرتهم إلى المدن الكبرى، وتمدين أريافهم بالخدمات التعليمية والصحية والبنى التحتية، قد يزيل بعضاً من هالات الغموض والسحر، ويساعد على فهم الواقع بشروطه، وعدم الاكتفاء بالتفسيرات الهوياتية والطائفية، التي طغى استسهال استعمالها المُجرّد عن البنى والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، على أي مقاربة عقلانية ممكنة في السياق السوري.
ماذا عن “الرابطة الدرزية”؟
أبدت المتظاهرات والمتظاهرون غضباً وحماسةً، بعدما بلغ القهر منهم مبلغاً، دفعهم إلى حرق المراكب، كما أشارت واحدة من اللافتات التي حملتها سيدة في ساحة التظاهر في مدينة السويداء. يشعر هؤلاء حقاً أنه لم يعد هناك شيءٌ يخسرونه، فالواقع الاقتصادي يشير إلى أن غالبية الموظفين، لا تكفي رواتبهم للمواصلات التي توصلهم إلى أعمالهم، ما اضطر كثيرين منهم للاستقالة، والبحث عن سبل عيش أخرى غير الوظيفة.
في المقابل فإن الشبان والشابات لا طريق أمامهم إلا الهجرة إن أتيحت، وهذه صدّعت جزءاً هاماً من البنى الاجتماعية، وعرفت مظاهر لن تمرّ دون أثر على مجتمع متماسك ومحدود العدد، يضاف إلى ما سبق أن حالة الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، جعلت المحافظة الممتدة على 5500 كم مربع، عبارة عن سجن موسّع لكثير من أبنائها المتخلفين عن الخدمة الإلزامية، أو الفارّين منها والذين لا يستطيعون التحرك خارج حدودها.
احتجاجات السويداء هي مجازفة الرمق الأخير، قبل بلوغ الهاوية، والهاوية هنا ليست مجازاً، بل هي المجاعة التي يخيّم شبحها على عموم سوريا، ولا يبدو أنها سوف تستثني أحداً، مجاعة قد لا تبقي مجالاً للتنابز الشعبوي حول ثورات الجياع وثورات الكرامة.
ما يميز هذه الاحتجاجات اليوم توسعها العرضاني، فبينما كانت تقتصر سابقاً على مدينة السويداء، وبعض البلدات الكبيرة أو ذات الرمزية مثل شهبا وصلخد والقريّا، من الواضح اليوم أن الاحتجاجات تمتد في مختلف قرى وبلدات المحافظة الصغيرة منها والمتوسطة، يضاف إليها تلك القطيعة الواضحة مع السلطة، متمثلة بإزالة صور رموزها، عن الفرق الحزبية التي أغلق المحتجون مقراتها، وعن المدارس التي قرر بعض الأهالي أن أبناءهم لن يرددوا فيها شعارات حزب البعث في عامهم الدراسي الجديد، كما أعلن أهالي قرى وبلدات عدة في بيانات مصورة أو مكتوبة.
علاوة على ما سبق، يأتي وقوف مشيخة العقل متمثلة بالشيخ حكمت الهجري والشيخ حمود الحناوي ومساندتهما الواضحة للحراك، لتعطي “حصانة دينية واجتماعية” للمحتجات والمحتجين، وهذا ما لم يكن متوفراً لهم في السابق، فإذا كانت بعض الاحتجاجات أو المظاهر المسلحة قد نهضت على أكتاف بعض المشايخ مثل حركة رجال الكرامة، إلا أن هذه الحال لم تكن تحظى بمباركة مشيخة العقل، لا بل حاولت المشيخة التصدي لصعود الشيخ وحيد البلعوس، قبل أن يتم اغتياله في أيلول/ سبتمبر 2015.
يبقى السؤال هنا، والذي يخطر على بال كثيرين، كيف ستؤثر امتدادات الدروز في المنطقة على التحركات القائمة في المحافظة، وهل سيدعمونها؟ من الملاحظ أن ردّات الفعل من المجتمعات الدرزية المتوزعة في بلاد الشام، لم تأت بالمستوى الذي توقعه بعضهم، إذ غابت أشكال التضامن، إلا عن وقفة شهدتها أراضي عام 1948، وأخرى في مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، لكن وقبل الحديث عن دروز خارج الحدود السورية، يجدر الانتباه لغياب التضامن أيضاً عن دروز داخل سوريا، وربما هذا ما دفع المحتجين للهتاف وإرسال التحيات المعاتبة إلى أبناء طائفتهم، الموزعين في مدن وبلدات ريف دمشق مثل جرمانا وصحنايا والأشرفية وبعض بلدات جبل الشيخ.
هنا يمكن نزع الطابع السحري عن مجتمع درزي شديد الصلابة والتجانس يتخيله كثيرون، والحديث عن ظروف نضجت بهدوء في السويداء، ولم تنضج حتى في بلدات ريف دمشق القريبة وذات الحضور الدرزي، التي لها خصوصيتها وتخوفاتها وأنماط ارتباطها بالسلطة، والاستفادة منها ومن قربها الجغرافي لمراكز القرار أو الفساد، أما الحديث عن تضامن درزي عابر للحدود فهو وإن كان متوقعاً، إلا أنه مبالغ فيه حالياً على الأقل، فقد لا يتجاوز الوقفات التضامنية، وإرسال بعض المعونات المالية والعينية للأقارب، خاصة إذا لم تدفع السلطة نحو التصعيد وعمليات القمع المعروفة عنها.
ماذا بعد المظاهرة والغضب؟
رفع المحتجون في ساحات السويداء سقف مطالبهم، في لحظة كان مسار إعادة العلاقات العربية والدولية مع النظام السوري يسير ولو ببطء، هكذا بدا وكأن السويداء تفاجئ الجميع بعلو نبرتها ووضوحها، إلا أن تردي الأحوال الاقتصادية، ووقوع أهالي المحافظة تحت سلطة العصابات، فضلاً عن انعدام الخدمات، كانت ظروفاً كفيلة، بانزياح كتلة وازنة من الناس إلى الحركة الاحتجاجية، والتي سرعان ما تصاعدت مطالبها من الاقتصادي والخدمي، إلى السياسي، ذاك أن تراكم الأوضاع لم يعد خاف على أحد، في محافظة وإن سكت الناس فيها عن ممارسات السلطة، إلا أنها لم تكتسب لديهم يوماً عميق احترام أو مكانة، ولم يكن من النادر أن يجري الاعتزاز بالرموز المحلية، بينما تُغيّب رموز السلطة إلى درجة ثانية، أو يجري التذمر والسخرية منها ومن فرضها على الفضاء العام.
وفي هذا السياق، يجب التذكير أن إزالة الصور والتماثيل بدأت في السويداء على مراحل، فتمثال الأسد الأب تمت إزالته من الساحة التي يتظاهر فيها الناس اليوم، منذ عام 2015 إثر اغتيال الشيخ وحيد البلعوس، أما صور الأسد الابن فتمت إزالتها عن مبنى المحافظة في موجة احتجاجات سابقة، ومن المهم التذكير بهذه الوقائع اليوم، كي لا تبدو الاحتجاجات وكأنها قفزة من الصفر، أو أنها منفصلة عن الوقائع السورية المريرة.
هنا يأتي السؤال ما الذي ينتظر السويداء، وهل تستطيع أن تذهب إلى القطيعة التامة مع السلطة؟، هذا السؤال يطرحه كثيرون، لكن الواضح أن المحتجين وإن قطعوا مع النظام وعسفه ورموزه، لكنهم لا يريدون-حتى الآن- القطيعة التامة مع المؤسسات العامة، والسردية الوطنية المتعارف عليها، ومع امتدادهم السوري في المدن التي يهتفون لها يومياً، ولم يحيدوا عن مطلب التغيير والانتقال السلمي للسلطة ضمن إطار القرار الدولي 2254، وارتفاع صور من يعتبرهم السوريون رموز الاستقلال، أو حتى اللافتات الناقدة لأطراف المعارضة، لا تخلو من دلالة، خاصة بعدما طالت مرحلة دفع أثمان الحرب وانسداد الأفق السياسي، لدرجة أنها دفعت رجالا ونساء تجاوزوا السبعين إلى ساحات التظاهر، هؤلاء بالحرف لا يجدون لا أبناء ولا أحفاد يرافقونهم إلى طبيب، أو يؤنسون وحشتهم في ليالٍ لا كهرباء فيها ولا ماء ولا وقود للطبخ أو التدفئة.
ارتفاع سقف المطالب ووضوح إشارتها السياسية، وما يثيره هذا من حيرة وتساؤلات، لا يعني أبداً أن لدى المتظاهرين ضمانة للمستقبل بدعم تقدمه جهة ما دولية أو إقليمية، على ما يحلو للبعض التخيّل، كما لا يعني ضمانهم لعدم رد النظام العنيف عليهم، سواءً بشكل مباشر، أو من خلال استخدام من ما زالوا يوالونه وينتفعون من سلطته داخل السويداء، بل إنها بالفعل مجازفة الرمق الأخير، قبل بلوغ الهاوية، والهاوية هنا ليست مجازاً، بل هي المجاعة التي يخيّم شبحها على عموم سوريا، ولا يبدو أنها سوف تستثني أحداً، مجاعة قد لا تبقي مجالاً للتنابز الشعبوي حول ثورات الجياع وثورات الكرامة.
لا ينتظر السويداء، إلا ما ينتظر سوريا وأهلها، ولم تطالب احتجاجات السويداء اليوم، سوى ألّا تُتركَ وحدها، فهذه الضمانة الوحيدة، كي لا تنتهي الاحتجاجات بقيمة صفرية، أو بتسوية محلية رخيصة، تشبه غيرها من التسويات التي شهدتها مناطق سورية أخرى، أو ربما بقيام سلطة محلية ليس من الضروري أن تكون ضامناً للحريات وحقوق الناس، على غرار غيرها من سلطات الأمر الواقع القائمة في المناطق السورية.
إقرأوا أيضاً: