“عائلتنا تُدفن في المقابر دي، ليه ندفنه في مقابر اليهود، هو غير مشغول بقصة اليهودي ، قصة ألبير قصة مواطن مصري تمسك بالبقاء في بلده رغم كل الضغوط التي فاقت الاحتمال. دي رسالته اللي كان حابب توصل للأجيال الجديدة”.
هكذا اختصر سامي سيرة حياة والده، ألبير آرييه، أقدم يهود مصر الذي رحل الآن. عائلة آرييه قررت دفنه في مقابر المسلمين، وليس في مقابر اليهود.
أمام شرفة منزله الذي لم يبدله لعقود في شارع البستان عَبرت مصر أمام ألبير آرييه وهي تتأرجح بين أكثر من هوية، هوية الأجانب متعددي الثقافات الذين امتلأت بهم الشوارع وغرف الصناعة والتجارة والتعليم، وهوية “التعريب” التي قادها بقسوة جمال عبد الناصر ، وهوية تيارات إسلامية جديدة في حقبة الانفتاح الساداتية، ثم مصر بعد ثورة يناير.
سيرة يهود مصر
“الجيل بتاعنا كانت السياسة في دمه، لما اتسجنت كانوا مستغلين موضوع الدين في السجن، كنا في ليمان طرة وكنا كذا سجين يهودي، قلنا لازم يجيلنا أكل مخصوص بتاع اليهود في الصيام وأننا مناكلش عيش، لكن الضباط كانوا ناقص يموتونا”.
جلس ألبير آرييه في مقهى “جروبي” عام 2003 يحكي للكاتب والمؤرخ المصري محمد أبو الغار تجربته كيهودي مصري اضطر لتغيير هويته الدينية لأسباب عدة، أهمها الرغبة في الاندماج والعيش بسلام وتقريب الطريق بينه وبين حبيبته المسلمة، وقبل كل هذا، كواليس الأحداث الدرامية التي التهمت عقداً من حياته داخل المعتقلات.
عام 1953 وفي ذروة صعود خطاب القومية العربية في عهد جمال عبدالناصر، اعتقل البير مع كثيرين غيره من نشطاء ومنتسبين إلى الحركات الشيوعية. وفي المعتقل غاب لعقد كامل وخرج ليجد حالة عداء كامل تجاه اليهود المصريين في ظل تصاعد الخطاب التعبوي والحربي ضد إسرائيل مع خطاب سياسي تعبوي يخلط بشكل كامل بين إسرائيل واليهود.
حكايته… حكاية البلاد
“داخل المدرسة لم نلاحظ أي فروق اجتماعية بين الطلبة على رغم انتماء بعضهم لعائلات أرستقراطية، حتى إننا لم نعرف ديانات البعض، أو نلحظها، وهذا بسبب السياسة العلمانية للمدرسة، على رغم وجودي في مدرسة فرنسية، إلا أن والدي أراد أن يزرع فيّ حب اللغة العربية، فأحضر شيخاً أزهرياً ليعطيني دروساً فيها”.
كتب ألبير آرييه هذه السطور في مذكراته قبل أيام من رحيله الخميس 15 نيسان/ أبريل 2021، كان سيصعب تجنب الحسرة لو مات آلبير من دون توثيق حياته التي هي بالتأكيد توثيق مهم لمراحل فاصلة في التاريخ المصري. فالشخصي في حياة ألبير عام أيضاً، بخاصة أنه تشبث بالعيش في مصر في أكثر لحظاتها حرجاً وتوتراً، ورفض المساومة في التخلي عن جنسيته المصرية للخروج بلا عودة، وذلك في ذروة الضغط على اليهود المصريين لترك بلدهم في الستينات.
إقرأوا أيضاً:
القاهرة تبدل هويتها أمام ألبير
ولد ألبير أرييه في القاهرة لأسرة مصرية يهودية، عام 1930. ومنذ الأربعينات نشط في الحركة الشيوعية. عاش الحرب العالمية الثانية وهو مراهق يرصد مع عائلته في وسط القاهرة التغيرات العنيفة التي عاشتها مصر، كانت منطقة وسط المدينة البؤرة الأبرز لإظهار هذه التحولات بدقة، أهمها حريق القاهرة! الحريق الذي التهم المطاعم والمسارح والمحلات منها محلات عائلته “لندن هاوس للأدوات الرياضية” فى ميدان مصطفى كامل.
الشاب الذي اعتاد التحدث بالفرنسية، شاهد استبدال لافتات المحلات لتحل محلها أسماء باللغة العربية، مارس عمله السياسي ضمن الجماعات الشيوعية اليسارية، وعايش القاهرة إبان تنوعها الثقافي، قبل أن ينتظره حكم السجن بالأشغال الشاقة لـ11 عاماً، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم.
لم تنته أزمة ألبير كمعارض سياسي فقد تم التضييق عليه بطريقة لا تُحتمل قبل أن يتخلى عن هويته اليهودية ويعتنق الإسلام.
مواطنة مشروطة
بعد نكبة فلسطين ونشوء إسرائيل عام 1948، ومع تصاعد مشاعر الغضب والاستنكار في المنطقة العربية وخصوصاً في مصر، أصبحت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة إلى اليهود في عموم الدول العربية. في مصر تعرض اليهود المصريون لاعتداءات عنيفة، أودت بحياة كثر منهم، فبدأت الموجة الأولى من الهجرة نحو إسرائيل.
أما الموجة الثانية فحصلت عقب أزمة السويس عام 1956، وأدت مرة أخرى إلى العنف ضد المواطنين اليهود في البلاد. وبعد حرب الأيام الستة عام 1967، قرر معظم اليهود المتبقين مغادرة البلاد باتجاه إسرائيل. خلال الحرب، اعتقلت قوات الأمن المصرية كثراً منهم وخيّرتهم بين الهجرة مع أسرهم أو احتجازهم داخل معسكرات تم إنشاؤها خصيصاً لذلك.
في المحصلة، خسرت مصر بين عامي 1956 و1960 آلاف اليهود المصريين الذين قدر عددهم آنذاك بنحو 80 ألفاً. واستقبلت فرنسا العدد الأكبر منهم.
حينها، رفضت حكومة عبد الناصر السماح باسترجاع اليهود المصريين الذين تركوا البلاد وممتلكاتهم، بمن فيهم الحاصلون على الجنسية البريطانية أو الفرنسية. بحسب كتاب “يهود مصر” للكاتب المصري محمد أبو الغار، فإن الدعاية الناصرية ضد اليهود كانت شملت ضمنياً يهود مصر، كما أن قانون العمل أفقد الكثير من اليهود، ومنهم حاصلون على الجنسية المصرية، وظائفهم وألزم قانون العمل العاملين باستخراج بطاقات عمل، تلحظ ديانة الشخص، ما قلل فرص العمل بالنسبة إلى اليهود.
بسبب هذا الواقع اكتسب بقاء شخصية مثل البير آرييه في مصر معنى خاصاً، فهو على رغم ملاحقته وسجنه تمسك بمصريته.
يقول سامي إبراهيم، نجل ألبير آرييه لـ”درج”: “والدي كان علمانياً، واليهودية بالنسبة إليه هوية وليست ديانة، بعد تأميم ممتلكات اليهود، واعتقال كثيرين منهم، كان على أي يهودي قرر السفر خارج مصر أن يوقعه ورقة بالتنازل عن الجنسية المصرية، كانت رحلة أي يهودي خارج مصر في الستينات هي رحلة بلا عودة، رفض والدي السفر لسنوات، كي لا يُحرَم الجنسية، تحدى مَن رغبوا في إزاحته خارج بلاده مثل عبد الناصر”.
لم تنته أزمة ألبير آرييه بتغيير ديانته للإسلام كي يتمكن من العيش بسلام، يقول نجله “بعد إسلامه أصدر وزير الداخلية المصري وقتها قراراً ينص على أن أي يهودي بدل دينه للإسلام بعد عام 1948 لا يعتد بإسلامه.كان والدي يعامل معاملة غير المصريين، حتى بعد تجنبه السفر كي لا يفقد الجنسية المصرية، كان مضطراً لاستخراج تصريح من وزارة الداخلية للسفر، لم تتحسن أوضاعه إلا بعد زيارة مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي مصر عام 1979 على أثر إتفاقية “كامب ديفيد” للسلام بين مصر وإسرائيل، و تيسر له السفر من دون الخوف من فقد الجنسية المصرية، أو استخراج تصريح أمني”.
حب تحت أعين المراقبة
تعرف ألبير آرييه إلى زوجته الصحافية سهير شفيق في حفلة زفاف أصدقاء مشتركين، و يقول سامي إبراهيم،“والدتي لاحظت دخول شاب وسيم و بعد دخوله الصالة بفترة اتي مخبر يبحث عنه لكي يوقع له علي دفتر المراقبة”. سألت عنه وعلمت أنه يهودي شيوعي مصري، سُجِن مع أعضاء الحركات الشيوعية المصرية، سعت للتعرف إليه، كان تعارفهما مصحوباً بالمخبر. ولد حبهما تحت أعين المراقبة، وقررا الزواج وغير والدي ديانته إلى الإسلام”.
عملية “سوزانا” ذريعة إجبار اليهود على الرحيل
أعطت المخابرات الحربية الإسرائيلية أوامرها عام 1958، بتكوين خلية من اليهود المصريين، وطُلب منهم في ما بعد أن يقوموا بتفجير مقر الحافلة الرئيسية في الإسكندرية، والمركز الثقافي والمكتبة الأميركية ومحطة باب الحديد بالقاهرة إضافة إلى دور السينما في القاهرة والإسكندرية، لم يتعامل الإعلام وقتها مع الحادث باعتباره عملية إرهابية بقدر ما اعتبرتها عناوين الصحف خيانة من اليهود المصريين، وعلى رغم أن المحكمة العسكرية قضت بإعدام موسى لتو مرزوق، وسامي عازر، إلا أن الهاجس الأمني شيطن اليهود المصريين واعتبرهم طابوراً خامساً ضد المصالح المصرية.
كان ألبير آرييه في المعتقل وقت اندلاع صراع التخوين ضد اليهود المصريين بعد عملية “سوزانا”، كان يُعاقب بتهمة النشاط السياسي المعارض وأصبح بعد خروجه يعاقب كمعارض يهودي في فضاء لم يمنح اليهود المصريين الغفران، حتى بعد محاولات صحف اليهود المصريين الدفاع عن انتمائهم إلى مصر، مثل صحيفة “الشمس” وصحيفة “الكليم”. حاول الصحافي المصري اليهودي موريس شماس مواجهة الموج، لكنه لم يفلح واضطر إلى ترك مصر ليكتب “الشيخ شابتاي وحكايات من حارة اليهود”، موثقاً ما تمنعت الصحف المصرية عن توثيقه، وما ساهم به اليهود المصريون في ازدهار الصناعة والتجارة والزراعة.
ليلى مراد وموجات أسلمه اليهود المصريين
في الثلاثينات والأربعينات ذاع صيت عدد من نجوم تلك الحقبة ممن كانوا من أصول يهودية كالممثلة راقية ابراهيم والمطربة ليلى مراد. لكن مع صعود المشاعر الغاضبة في الخمسينات والستينات، كان على كثيرين من اليهود حماية أنفسهم.
“في مقهى لانسيانو تجمع الزبائن حول الصحافي ألبرت مزراحي، يناقشون شائعة تقول إن ليلى مراد اعتنقت الإسلام.
غضب زبائن يهود في المقهى عندما علموا أن الشائعة صحيحة، وكان أكثرهم انزعاجاً لانسيانو صاحب المقهى، وقام بغلق المذياع عندما أعلن المذيع تقديم أغنية لليلى مراد، كما أمر بإزالة صورتها من على حائط المقهى. كان هذا أقرب مشهد قدمه الكاتب جوئل بنين في كتابه “شتات اليهود المصريين” عن انسحاب اليهود المصريين من هويتهم اليهودية إلى الاسلامية، في محاولة أخيرة للاندماج، وكانت صدمة اليهود في إسلام ليليان زكي موردخاي أو “ليلى مراد” كبيرة، لأنها رسالة مبطنة أن يهود مصر لن يتمكنوا من الاندماج مجدداً سوى بتغيير الديانة، ولا يخفى ما تعرضت له ليلى مراد من تعسف بعد أحداث 1967، ومنعها غير الرسمي من التمثيل والغناء، وما كشفه الكاتب أشرف غريب أن ليلى مراد “أُجبرت على الاعتزال” حتى بعد زيارتها الرئيس عبد الناصر تطلب منه العودة إلى عملها الفني.
يؤرخ محمد أبو الغار لهذه الفترة في كتابه “يهود مصر” قائلاً: “كان هناك نوع من سوء المعاملة في ذلك الوقت، يقول درويش إن أحد أقربائه- اسمه توفيق عبد الواحد- قال له أنا مسافر غداً، لأنهم استدعوني في قسم البوليس وضربوني على وجهي قلمين”.
على رغم كل ما كُتب عن أوضاع “يهود مصر” في الستينات، لكن يبدو أن كتابة “ألبير آرييه” للأحداث ستكون ضرورية في هذا السياق. قبل 10 أشهر تعرض ألبير آرييه لكسر في المفصل، وخضع لعملية جراحية، فترة نقاهة حرمته من الخروج اليومي ومن روتينه الذي اعتاد عليه لسنوات، يقول نجله: “خلال شهوره الأخيرة أنجز كتابة مذكراته، اتفقنا على عنونتها بـ(اخترت البقاء)، يرصد فيها ألبير كل التحولات التي عاشها في القاهرة سياسياً واجتماعياً. سيرته هي سيرة مصر في أكثر من حقبة تاريخية، ولحسن الحظ أنجزت المخرجة هالة جلال فيلماً عن حياته، وصورت آخر مشهد فيه قبل اسبوعين من رحيله”.
إقرأوا أيضاً: