fbpx

“ارتكاب أمر موحش”… قانون من زمن البايات لإسكات منتقدي قيس سعيّد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

باتت تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الجمهورية” أو الفصل 67 من المجلة الجزائية، جاهزة ضد كل التونسيين؛ لا سيما الشباب، الذين يتجرأون على انتقاد سعيد وسياساته وقراراته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في ساعة مبكرة من صباح 21 أيلول/ سبتمبر الماضي، أوقف الطالب ضياء حمدي في محافظة صفاقس، على خلفية نشاطه الداعم للقضية الفلسطينية وكتابته عبارة “قاطع، لا تموّل الإبادة” على لافتات إشهارية. اقتيد حمدي إلى أحد مراكز الشرطة، حيث تم التحقيق معه من دون حضور محامٍ، وتم تفتيش هاتفه الشخصي الذي ظل لدى أعوان الأمن، بحجة مواصلة الأبحاث والتحقق من الوثائق والصور الموجودة، فضلاً عن تفتيش غرفته. 

وبعد الانتهاء من الاختبار الفني للهاتف عثروا على صورة لجدارية الفنان السجين رشاد طنبورة، الذي انتقد فيها سياسة الرئيس التونسي قيس سعيد المتعلقة بالمهاجرين وأدت إلى سجنه. حينها تلقى ضياء استدعاء آخر في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي للمثول مرة أخرى أمام التحقيق، ووُجهت له تهمة “ارتكاب أمر موحش تجاه رئيس الجمهورية”، وهو في حالة سراح. ليمثل في 31 من الشهر نفسه، أمام المحكمة الابتدائية حيث تم التأجيل بطلب من هيئة الدفاع. علماً أن الأمر نفسه حدث مع صديقه آدم حمدي.

قيس سعيد لا يُسقط حقه!

باتت تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الجمهورية” أو الفصل 67 من المجلة الجزائية، جاهزة ضد كل التونسيين؛ لا سيما الشباب، الذين يتجرأون على انتقاد سعيد وسياساته وقراراته. وقد أُحيل الكثير (صحافيون وناشطون وسياسيون ومواطنون عاديون) على القضاء بسبب هذه التهمة، بعضهم تعرض لأحكام سجنية طويلة وصادمة. 

المرة الأولى التي استُخدم فيها هذا القانون، كانت بعد تولي قيس سعيد الرئاسة في أيار/ مايو 2020، عندما تم إيقاف الشاب لسعد بن صويعي في محافظة مدنين، بعد انتشار مقطع فيديو توجه فيه بعبارات اعتُبرت مسيئة للرئيس سعيد، على خلفية احتجاجات التونسيين العالقين في ليبيا، الذين تعطل عبورهم إلى تونس على مستوى معبر رأس الجدير بسبب تقاعس السلطات. 

وتم توجيه تهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة” له، وأُسيئت معاملته، وتم تداول صورة له وهو مكبّل وطريح الأرض حينها، وتحدث محاميه عن تعرضه للتعذيب في مركز الشرطة وداخل السجن. 

وأثارت الحادثة انتقادات حقوقية واسعة وانتشرت الدعوات للرئيس ليسقط حقه في التتبع أو الأمر بوقف مقاضاته، لكن سعيد تجاهل الأمر، فأصبح منطلقاً لتتبعات أخرى طاولت الكثيرين وتفاقمت في السنتين الأخيرتين.

تجدر الإشارة إلى أن الرئيس سعيد ظل يكرر في مناسبات عدة، استنكاره عدم تحرك القضاء لمحاسبة “المتطاولين” على رموز الدولة، واعتباره أن “التطاول على الدولة وعلى رموزها ليس من قبيل حرية التعبير، بل يرتقي إلى مستوى المس بأمنها وضرب وحدتها”. ويبدو أن القضاء الذي بات خاضعاً لسلطته، قد استجاب لتنديد الرئيس، وأصبح يحاكم ويلاحق كل منتقدي الرئيس، رغم وعي السلطة القضائية بأن تلك التتبعات تتعارض مع حرية التعبير في انتقاد الشخصيات السياسية، التي تتحمل مسؤولية عامة، كرئيس الدول وغيره. 

قانون من زمن البايات!

منذ إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد الدخول في حالة الاستثناء وتعليق أعمال البرلمان، واحتكار مؤسسة رئاسة الجمهورية جميع السلطات داخل الدولة، تتالت الملاحقات الأمنية والقضائية ضد التونسيين، بخاصة الشباب، بسبب آرائهم المنتقدة للسلطة. 

وقد استعانت السلطة في ذلك، بمجموعة من القوانين بعضها قديم وبعضها صدر في شكل مراسيم رئاسية، تحولت إلى قيود مجحفة بحق حرية التعبير. ومن بين هذه القوانين الفصل 67 من المجلة الجزائية، الذي يوجّه تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الدولة”، لكل من ينتقده أو يُبدي رأيه في أدائه وتعاطيه مع القضايا الراهنة في تونس. ويعاقَب المحال على معنى هذا الفصل، بالسجن مدة ثلاث سنوات، ودفع مبلغ مالي قدره 240 ديناراً، أو بإحداهما.

علماً أن نص الفصل 67 من المجلة الجزائية الصادرة في 1913، وُضع بالأساس لحماية العائلات الحاكمة زمن البايات، وقد حافظ الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عليه، مـع تنقيح طفيف تم فـي 31 أيار/ مايو 1956.

نص الفصل الأصلي قبل تنقيحه على أنه “يعاقب مرتكبه بالسجن ثلاثة أعوام وبخطية قدرها ألف فرنك، كل من يرتكب أمراً موحشاً ضد الأمير أو أعضاء عائلته”، وبعد تنقيحه في زمن بورقيبة أصبح “يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها 240 ديناراً تونسياً (77 دولاراً أميركياً) أو بإحدى العقوبتين كل من يرتكب أمراً موحشاً ضد رئيس الدولة”.

ورغم قِدم هذا النص القانوني وصدوره في ظرف زمني يتجاوز النصف قرن، إلا أن النظام التونسي لا يجد حرجاً من استدعائه لملاحقة كل من ينتقد رئيس الجمهورية، في الفضاءات العامة أو وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قضائياً، رغم أن هذا القانون لم يطبّق حتى في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وتمت مقاضاة عدد من التونسيين على معنى هذا القانون منذ 25 تموز/ يوليو 2021، ولكن تبقى الأحكام التي صدرت بحق رشاد طنبورة وحسن العبيدي هي الأشد حتى الآن. 

ورشاد طنبورة شاب عمره 27 سنة، من محافظة المنستير، معروف في محيطه بشغفه بالفنون البصرية. في تموز/ يوليو 2023، قرر الاحتجاج بطريقته على الخطابات والسياسات الرسمية في التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية، والاتفاقيات الأمنية مع الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية، ورسم غرافيتي على أحد جدران مدينته، تضمن وجه الرئيس قيس سعيد وعلى يمينه خارطة إفريقيا، وعلى يساره كلمات باللغة الإنكليزية من بينها racist وfascist (عنصري وفاشي). 

ويبدو أن السلطة لم تتقبّل هذه الطريقة في نقدها، ليتم في 17 تموز/ يوليو 2023 توقيفه، بينما كان في طريقه إلى العمل على متن سيارة تاكسي، واقتيد طنبورة إلى أحد مراكز التوقيف، ولم تتمكن عائلته من معرفة مكانه إلا بعد مرور أربعة أيام.

وفي الأثناء توجهت قوات الأمن إلى منزله وصادرت معداته التي يستخدمها في رسم الغرافيتي. وفي 19 تموز/ يوليو 2023، أُودع السجن، وظل لأكثر من أربعة أشهر من دون محاكمة.

وفي 4 كانون الأول/ ديسمبر، صدر حكم قضائي ابتدائي قضى بسجن رشاد طنبورة سنتين بتهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية”، بموجب الفصل 67 من المجلة الجزائية، و”إنتاج وترويج أخبار كاذبة، بهدف الاعتداء على حقوق الغير، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بث الرعب بين السكان”، بموجب الفصل 24 من المرسوم عدد 54.

لم يصدّق طنبورة ولا عائلته، أنه سيواجه هذا الحكم الجائر لمجرد تعبيره عن رأيه، فخاض إضراب جوع عنيفاً، وقام بخياطة فمه احتجاجاً على الظلم الذي وقع عليه، ورغم أن الآمال كانت معلقة على محكمة الاستئناف، لعلها تخفف الحكم أو تلغيه، إلا أنها خيبت كل التوقعات وقضت في 31 كانون الثاني/ يناير بتأييد الحكم الابتدائي وتثبيت سجنه سنتين.

كان تثبيت الحكم مخيباً للشاب الذي كتب رسالة من داخل زنزانته قال فيها “كل ما قمت به هو تعبير عن رأيي، أمام اضطهاد كنت شاهداً عليه. قمت بذلك لأنني أحب بلادي، ولأنني مؤمن بالقيم الإنسانية وحقوق الإنسان”. ولكن كان إيمان رشاد طنبورة ببلاده وبمجموعة من القيم الإنسانية باهظ الكلفة، سنتان من عمره بصدد الذهاب سدى، فقط لأن صوته طاول الرئيس الذي ظل يقول “الدستور هو ما يخطه الشباب على الجدران”، ولكن بمجرد أن خط الشباب مضموناً ينتقده، سقط هذا الشعار وأصبح ما يخطه الشباب على الجدران مفتاحاً للزنزانة. 

أما حسن العبيدي (47 سنة) وهو حارس مدرسة ابتدائية في مدينة تاجروين من محافظة الكاف (شمال غربي) فقد تم الحكم عليه بثمانية أشهر سجن مع النفاذ العاجل، بتهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية، بسبب مشاركته على صفحته الخاصة فيديو كاريكاتور لرئيس الدولة قيس سعيد.

وتعود الحادثة إلى 5 أيار/ مايو 2023، عندما داهمت قوات كبيرة من الشرطة بزي مدني، منزل حسن العبيدي واقتادته أمام عائلته وأطفاله، إلى مركز الأمن في معتمدية تاجروين، من دون تقديم أي تفسير يُذكر. 

وعُرف في ما بعد، أنه موقوف بسبب مشاركته مقطع فيديو تم تداوله على صفحات “فايسبوك”، حوى صوراً هزلية للممثل عادل إمام مرفقة بصورة للرئيس قيس سعيد، بطريقة ساخرة تنتقد نظام ما بعد 25 تموز/ يوليو وسعيد. وبعد التحقيق معه ظل ثلاثة أيام في حالة توقيف. وفي التاسع من الشهر نفسه قضت المحكمة الابتدائية بسجن العبيدي ثمانية أشهر، بتهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، بحسب مقتضيات الفصل 67 من المجلة الجزائية. وفي 16 حزيران/ يونيو أبقت محكمة الاستئناف على الحكم ورفضت طلب التخفيف، ولم تبالِ المحكمة بأن العبيدي سيفقد عمله إذا ما تجاوز غيابه الثلاثة أشهر، كما ينص قانون الوظيفة العمومية، ولم تكترث لكونه العائل الوحيد لأسرته وأسرة شقيقه المريض، وهو ما تم فعلاً، إذ طُرد العبيدي من عمله جراء هذه العقوبة السجنية.

سياسة تكميم الأفواه… والأيدي

هناك عدد كبير ممن تمت ملاحقتهم أو محاكمتهم بتهمة إتيان أمر موحش ضد رئيس الدولة (السياسيون والنقابيون والإعلاميون والناشطون وعموم المواطنين) ولكن ليس هناك إحصائية دقيقة لعددهم، بسبب رفض الكثيرين التوجه للإعلام أو للمنظمات للحديث عما حدث، غالباً بسبب الخوف من تجدد التتبعات، كما تؤكد جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات”، وهو الهدف الذي تتطلع إليه السلطة في تونس اليوم، ما خلق حالة من الخوف لدى عموم التونسيين من أجل ضمان عدم إعلاء الصوت في وجهها أو انتقادها، لا سيما وأن أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم في ظل عدم وجود مؤشرات الى تحسن الوضع أو وجود حلول في الأفق. يحصل ذلك في إطار خطة السلطة للتضييق على التونسيين، سواء في الشارع أو في وسائل الإعلام أو في وسائل التواصل الاجتماعي.

وأدانت المنظمات والجمعيات الحقوقية في تونس الاستخدام المفرط لهذا القانون، وحذرت من مغبة تحوله لضرب للحقوق والحريات عامة، منها حرية الرأي والتعبير. إذ حذرت جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات” من “تتالي هذه الانتهاكات التي تؤكد مواصلة نظام قيس سعيد انتهاج سياسات تكميم الأفواه والأيدي، من خلال منع  المواطنين عموماً من حقهم في حرية التعبير والرأي، وجر تونس إلى مربع الاستبداد الذي ناضل الشعب التونسي من أجل القطع معه”.

بدوره، يقول بسام الطريفي نائب رئيس “الرابطة التونسية” للدفاع عن حقوق الإنسان، لـ”درج”، إن “المواطن في تونس أصبح يعيش حالة من الخوف، ولم يعد قادراً على التعبير عن رأيه بحرية، السياسيون والناشطون والمحامون والصحافيون أصبحوا غير قادرين على التعبير عن آرائهم أيضاً. بات أكيداً أن هناك نية لاستهداف كل رأي مخالف وكل رأي ناقد عن طريق الهرسلة القضائية، حتى أمسى الجميع يتجنب التعبير عن رأيه والخوض في الشأن العام وفي قرارات السلطة وتوجهاتها. هذه السياسة القمعية غالباً ما تصدر عندما تكون السلطة في مواجهة أزمة لا تجد حلولاً لها، ولهذا تلجأ إلى المحاكمات لإخماد صوت المعارضين والمدونين والصحافيين وغيرهم، وهو ما يحدث في تونس اليوم”.

ودأب الشباب التونسي منذ ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، على انتقاد رؤساء البلاد وكل الماسكين بالحكم قبل تولي قيس سعيد الحكم، من دون أن يجدوا أنفسهم عرضة لملاحقات قضائية كالتي تحصل اليوم. إذ حاول كل من الرئيسين السابقين محمد المنصف المرزوقي والراحل الباجي قائد السبسي، تجنّب إثارة قضايا على خلفية الانتقادات التي تطاولهما قولاً أو رسماً، والتي كانت في الكثير من الأحيان تدخل في خانة الثلب والشتم. وإن استدعى السبسي هذا القانون في أكثر من مناسبة، إلا أنه قد قضي فيها بعدم سماع الدعوى، ولم يتم سجن المتهمين ولا التنكيل بهم، وهي خطوة أقدم عليها كلا الرجلين عمداً، في إطار فتح المجال للتعود على مناخ الحرية واستيعابه تدريجياً بعد سنوات من القمع، التي يبدو أن التونسيين بصدد العودة إليها. ويبدو أن قيس سعيد الساعي للتضييق على حرية التعبير تحت مسميات كثيرة، غير مستعد للمضي على خطى الرئيسين السابقين، هو الذي لا يتردد دائماً في كيل الانتقادات الحادة لعشرية الحكم التي سبقت وصوله إلى الرئاسة. 

ويُعد استمرار الفصل 67 وغيره من القوانين القديمة، بخاصة تلك التابعة للمجلة الجزائية ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، من الأخطاء التي ارتكبها الساسة في تونس بعد ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011. ففيما ظلت الأحزاب الحاكمة تفخر بنشأة ديمقراطية في تونس، لم تقم بالخطوات اللازمة لتحصين هذه الديمقراطية، ولم تقم بالقطع مع القوانين البالية والمتروكة، التي كان يستخدمها حكام دكتاتوريون، وتعويضها بأخرى أكثر انسجاماً مع النظام الديمقراطي، وتركوها سارية لتكون كأدوات يعتمدها النظام الحالي، لترصّد وملاحقة كل من ينتقد السلطة أو يمارس حقه في التعبير، من دون الاضطرار إلى سن قوانين جديدة مشابهة، كانت ستضعه في حرج داخلياً وخارجياً.

28.11.2024
زمن القراءة: 8 minutes

باتت تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الجمهورية” أو الفصل 67 من المجلة الجزائية، جاهزة ضد كل التونسيين؛ لا سيما الشباب، الذين يتجرأون على انتقاد سعيد وسياساته وقراراته.


في ساعة مبكرة من صباح 21 أيلول/ سبتمبر الماضي، أوقف الطالب ضياء حمدي في محافظة صفاقس، على خلفية نشاطه الداعم للقضية الفلسطينية وكتابته عبارة “قاطع، لا تموّل الإبادة” على لافتات إشهارية. اقتيد حمدي إلى أحد مراكز الشرطة، حيث تم التحقيق معه من دون حضور محامٍ، وتم تفتيش هاتفه الشخصي الذي ظل لدى أعوان الأمن، بحجة مواصلة الأبحاث والتحقق من الوثائق والصور الموجودة، فضلاً عن تفتيش غرفته. 

وبعد الانتهاء من الاختبار الفني للهاتف عثروا على صورة لجدارية الفنان السجين رشاد طنبورة، الذي انتقد فيها سياسة الرئيس التونسي قيس سعيد المتعلقة بالمهاجرين وأدت إلى سجنه. حينها تلقى ضياء استدعاء آخر في 16 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي للمثول مرة أخرى أمام التحقيق، ووُجهت له تهمة “ارتكاب أمر موحش تجاه رئيس الجمهورية”، وهو في حالة سراح. ليمثل في 31 من الشهر نفسه، أمام المحكمة الابتدائية حيث تم التأجيل بطلب من هيئة الدفاع. علماً أن الأمر نفسه حدث مع صديقه آدم حمدي.

قيس سعيد لا يُسقط حقه!

باتت تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الجمهورية” أو الفصل 67 من المجلة الجزائية، جاهزة ضد كل التونسيين؛ لا سيما الشباب، الذين يتجرأون على انتقاد سعيد وسياساته وقراراته. وقد أُحيل الكثير (صحافيون وناشطون وسياسيون ومواطنون عاديون) على القضاء بسبب هذه التهمة، بعضهم تعرض لأحكام سجنية طويلة وصادمة. 

المرة الأولى التي استُخدم فيها هذا القانون، كانت بعد تولي قيس سعيد الرئاسة في أيار/ مايو 2020، عندما تم إيقاف الشاب لسعد بن صويعي في محافظة مدنين، بعد انتشار مقطع فيديو توجه فيه بعبارات اعتُبرت مسيئة للرئيس سعيد، على خلفية احتجاجات التونسيين العالقين في ليبيا، الذين تعطل عبورهم إلى تونس على مستوى معبر رأس الجدير بسبب تقاعس السلطات. 

وتم توجيه تهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة” له، وأُسيئت معاملته، وتم تداول صورة له وهو مكبّل وطريح الأرض حينها، وتحدث محاميه عن تعرضه للتعذيب في مركز الشرطة وداخل السجن. 

وأثارت الحادثة انتقادات حقوقية واسعة وانتشرت الدعوات للرئيس ليسقط حقه في التتبع أو الأمر بوقف مقاضاته، لكن سعيد تجاهل الأمر، فأصبح منطلقاً لتتبعات أخرى طاولت الكثيرين وتفاقمت في السنتين الأخيرتين.

تجدر الإشارة إلى أن الرئيس سعيد ظل يكرر في مناسبات عدة، استنكاره عدم تحرك القضاء لمحاسبة “المتطاولين” على رموز الدولة، واعتباره أن “التطاول على الدولة وعلى رموزها ليس من قبيل حرية التعبير، بل يرتقي إلى مستوى المس بأمنها وضرب وحدتها”. ويبدو أن القضاء الذي بات خاضعاً لسلطته، قد استجاب لتنديد الرئيس، وأصبح يحاكم ويلاحق كل منتقدي الرئيس، رغم وعي السلطة القضائية بأن تلك التتبعات تتعارض مع حرية التعبير في انتقاد الشخصيات السياسية، التي تتحمل مسؤولية عامة، كرئيس الدول وغيره. 

قانون من زمن البايات!

منذ إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد الدخول في حالة الاستثناء وتعليق أعمال البرلمان، واحتكار مؤسسة رئاسة الجمهورية جميع السلطات داخل الدولة، تتالت الملاحقات الأمنية والقضائية ضد التونسيين، بخاصة الشباب، بسبب آرائهم المنتقدة للسلطة. 

وقد استعانت السلطة في ذلك، بمجموعة من القوانين بعضها قديم وبعضها صدر في شكل مراسيم رئاسية، تحولت إلى قيود مجحفة بحق حرية التعبير. ومن بين هذه القوانين الفصل 67 من المجلة الجزائية، الذي يوجّه تهمة “ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الدولة”، لكل من ينتقده أو يُبدي رأيه في أدائه وتعاطيه مع القضايا الراهنة في تونس. ويعاقَب المحال على معنى هذا الفصل، بالسجن مدة ثلاث سنوات، ودفع مبلغ مالي قدره 240 ديناراً، أو بإحداهما.

علماً أن نص الفصل 67 من المجلة الجزائية الصادرة في 1913، وُضع بالأساس لحماية العائلات الحاكمة زمن البايات، وقد حافظ الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عليه، مـع تنقيح طفيف تم فـي 31 أيار/ مايو 1956.

نص الفصل الأصلي قبل تنقيحه على أنه “يعاقب مرتكبه بالسجن ثلاثة أعوام وبخطية قدرها ألف فرنك، كل من يرتكب أمراً موحشاً ضد الأمير أو أعضاء عائلته”، وبعد تنقيحه في زمن بورقيبة أصبح “يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها 240 ديناراً تونسياً (77 دولاراً أميركياً) أو بإحدى العقوبتين كل من يرتكب أمراً موحشاً ضد رئيس الدولة”.

ورغم قِدم هذا النص القانوني وصدوره في ظرف زمني يتجاوز النصف قرن، إلا أن النظام التونسي لا يجد حرجاً من استدعائه لملاحقة كل من ينتقد رئيس الجمهورية، في الفضاءات العامة أو وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قضائياً، رغم أن هذا القانون لم يطبّق حتى في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وتمت مقاضاة عدد من التونسيين على معنى هذا القانون منذ 25 تموز/ يوليو 2021، ولكن تبقى الأحكام التي صدرت بحق رشاد طنبورة وحسن العبيدي هي الأشد حتى الآن. 

ورشاد طنبورة شاب عمره 27 سنة، من محافظة المنستير، معروف في محيطه بشغفه بالفنون البصرية. في تموز/ يوليو 2023، قرر الاحتجاج بطريقته على الخطابات والسياسات الرسمية في التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية، والاتفاقيات الأمنية مع الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية، ورسم غرافيتي على أحد جدران مدينته، تضمن وجه الرئيس قيس سعيد وعلى يمينه خارطة إفريقيا، وعلى يساره كلمات باللغة الإنكليزية من بينها racist وfascist (عنصري وفاشي). 

ويبدو أن السلطة لم تتقبّل هذه الطريقة في نقدها، ليتم في 17 تموز/ يوليو 2023 توقيفه، بينما كان في طريقه إلى العمل على متن سيارة تاكسي، واقتيد طنبورة إلى أحد مراكز التوقيف، ولم تتمكن عائلته من معرفة مكانه إلا بعد مرور أربعة أيام.

وفي الأثناء توجهت قوات الأمن إلى منزله وصادرت معداته التي يستخدمها في رسم الغرافيتي. وفي 19 تموز/ يوليو 2023، أُودع السجن، وظل لأكثر من أربعة أشهر من دون محاكمة.

وفي 4 كانون الأول/ ديسمبر، صدر حكم قضائي ابتدائي قضى بسجن رشاد طنبورة سنتين بتهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية”، بموجب الفصل 67 من المجلة الجزائية، و”إنتاج وترويج أخبار كاذبة، بهدف الاعتداء على حقوق الغير، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بث الرعب بين السكان”، بموجب الفصل 24 من المرسوم عدد 54.

لم يصدّق طنبورة ولا عائلته، أنه سيواجه هذا الحكم الجائر لمجرد تعبيره عن رأيه، فخاض إضراب جوع عنيفاً، وقام بخياطة فمه احتجاجاً على الظلم الذي وقع عليه، ورغم أن الآمال كانت معلقة على محكمة الاستئناف، لعلها تخفف الحكم أو تلغيه، إلا أنها خيبت كل التوقعات وقضت في 31 كانون الثاني/ يناير بتأييد الحكم الابتدائي وتثبيت سجنه سنتين.

كان تثبيت الحكم مخيباً للشاب الذي كتب رسالة من داخل زنزانته قال فيها “كل ما قمت به هو تعبير عن رأيي، أمام اضطهاد كنت شاهداً عليه. قمت بذلك لأنني أحب بلادي، ولأنني مؤمن بالقيم الإنسانية وحقوق الإنسان”. ولكن كان إيمان رشاد طنبورة ببلاده وبمجموعة من القيم الإنسانية باهظ الكلفة، سنتان من عمره بصدد الذهاب سدى، فقط لأن صوته طاول الرئيس الذي ظل يقول “الدستور هو ما يخطه الشباب على الجدران”، ولكن بمجرد أن خط الشباب مضموناً ينتقده، سقط هذا الشعار وأصبح ما يخطه الشباب على الجدران مفتاحاً للزنزانة. 

أما حسن العبيدي (47 سنة) وهو حارس مدرسة ابتدائية في مدينة تاجروين من محافظة الكاف (شمال غربي) فقد تم الحكم عليه بثمانية أشهر سجن مع النفاذ العاجل، بتهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية، بسبب مشاركته على صفحته الخاصة فيديو كاريكاتور لرئيس الدولة قيس سعيد.

وتعود الحادثة إلى 5 أيار/ مايو 2023، عندما داهمت قوات كبيرة من الشرطة بزي مدني، منزل حسن العبيدي واقتادته أمام عائلته وأطفاله، إلى مركز الأمن في معتمدية تاجروين، من دون تقديم أي تفسير يُذكر. 

وعُرف في ما بعد، أنه موقوف بسبب مشاركته مقطع فيديو تم تداوله على صفحات “فايسبوك”، حوى صوراً هزلية للممثل عادل إمام مرفقة بصورة للرئيس قيس سعيد، بطريقة ساخرة تنتقد نظام ما بعد 25 تموز/ يوليو وسعيد. وبعد التحقيق معه ظل ثلاثة أيام في حالة توقيف. وفي التاسع من الشهر نفسه قضت المحكمة الابتدائية بسجن العبيدي ثمانية أشهر، بتهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، بحسب مقتضيات الفصل 67 من المجلة الجزائية. وفي 16 حزيران/ يونيو أبقت محكمة الاستئناف على الحكم ورفضت طلب التخفيف، ولم تبالِ المحكمة بأن العبيدي سيفقد عمله إذا ما تجاوز غيابه الثلاثة أشهر، كما ينص قانون الوظيفة العمومية، ولم تكترث لكونه العائل الوحيد لأسرته وأسرة شقيقه المريض، وهو ما تم فعلاً، إذ طُرد العبيدي من عمله جراء هذه العقوبة السجنية.

سياسة تكميم الأفواه… والأيدي

هناك عدد كبير ممن تمت ملاحقتهم أو محاكمتهم بتهمة إتيان أمر موحش ضد رئيس الدولة (السياسيون والنقابيون والإعلاميون والناشطون وعموم المواطنين) ولكن ليس هناك إحصائية دقيقة لعددهم، بسبب رفض الكثيرين التوجه للإعلام أو للمنظمات للحديث عما حدث، غالباً بسبب الخوف من تجدد التتبعات، كما تؤكد جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات”، وهو الهدف الذي تتطلع إليه السلطة في تونس اليوم، ما خلق حالة من الخوف لدى عموم التونسيين من أجل ضمان عدم إعلاء الصوت في وجهها أو انتقادها، لا سيما وأن أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم في ظل عدم وجود مؤشرات الى تحسن الوضع أو وجود حلول في الأفق. يحصل ذلك في إطار خطة السلطة للتضييق على التونسيين، سواء في الشارع أو في وسائل الإعلام أو في وسائل التواصل الاجتماعي.

وأدانت المنظمات والجمعيات الحقوقية في تونس الاستخدام المفرط لهذا القانون، وحذرت من مغبة تحوله لضرب للحقوق والحريات عامة، منها حرية الرأي والتعبير. إذ حذرت جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات” من “تتالي هذه الانتهاكات التي تؤكد مواصلة نظام قيس سعيد انتهاج سياسات تكميم الأفواه والأيدي، من خلال منع  المواطنين عموماً من حقهم في حرية التعبير والرأي، وجر تونس إلى مربع الاستبداد الذي ناضل الشعب التونسي من أجل القطع معه”.

بدوره، يقول بسام الطريفي نائب رئيس “الرابطة التونسية” للدفاع عن حقوق الإنسان، لـ”درج”، إن “المواطن في تونس أصبح يعيش حالة من الخوف، ولم يعد قادراً على التعبير عن رأيه بحرية، السياسيون والناشطون والمحامون والصحافيون أصبحوا غير قادرين على التعبير عن آرائهم أيضاً. بات أكيداً أن هناك نية لاستهداف كل رأي مخالف وكل رأي ناقد عن طريق الهرسلة القضائية، حتى أمسى الجميع يتجنب التعبير عن رأيه والخوض في الشأن العام وفي قرارات السلطة وتوجهاتها. هذه السياسة القمعية غالباً ما تصدر عندما تكون السلطة في مواجهة أزمة لا تجد حلولاً لها، ولهذا تلجأ إلى المحاكمات لإخماد صوت المعارضين والمدونين والصحافيين وغيرهم، وهو ما يحدث في تونس اليوم”.

ودأب الشباب التونسي منذ ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، على انتقاد رؤساء البلاد وكل الماسكين بالحكم قبل تولي قيس سعيد الحكم، من دون أن يجدوا أنفسهم عرضة لملاحقات قضائية كالتي تحصل اليوم. إذ حاول كل من الرئيسين السابقين محمد المنصف المرزوقي والراحل الباجي قائد السبسي، تجنّب إثارة قضايا على خلفية الانتقادات التي تطاولهما قولاً أو رسماً، والتي كانت في الكثير من الأحيان تدخل في خانة الثلب والشتم. وإن استدعى السبسي هذا القانون في أكثر من مناسبة، إلا أنه قد قضي فيها بعدم سماع الدعوى، ولم يتم سجن المتهمين ولا التنكيل بهم، وهي خطوة أقدم عليها كلا الرجلين عمداً، في إطار فتح المجال للتعود على مناخ الحرية واستيعابه تدريجياً بعد سنوات من القمع، التي يبدو أن التونسيين بصدد العودة إليها. ويبدو أن قيس سعيد الساعي للتضييق على حرية التعبير تحت مسميات كثيرة، غير مستعد للمضي على خطى الرئيسين السابقين، هو الذي لا يتردد دائماً في كيل الانتقادات الحادة لعشرية الحكم التي سبقت وصوله إلى الرئاسة. 

ويُعد استمرار الفصل 67 وغيره من القوانين القديمة، بخاصة تلك التابعة للمجلة الجزائية ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، من الأخطاء التي ارتكبها الساسة في تونس بعد ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011. ففيما ظلت الأحزاب الحاكمة تفخر بنشأة ديمقراطية في تونس، لم تقم بالخطوات اللازمة لتحصين هذه الديمقراطية، ولم تقم بالقطع مع القوانين البالية والمتروكة، التي كان يستخدمها حكام دكتاتوريون، وتعويضها بأخرى أكثر انسجاماً مع النظام الديمقراطي، وتركوها سارية لتكون كأدوات يعتمدها النظام الحالي، لترصّد وملاحقة كل من ينتقد السلطة أو يمارس حقه في التعبير، من دون الاضطرار إلى سن قوانين جديدة مشابهة، كانت ستضعه في حرج داخلياً وخارجياً.