ليست معاناة طلاب الجامعات في قطاع غزة أقل من غيرهم ممن استهدفهم العدوان الإسرائيلي منذ بداية الحرب الطاحنة على القطاع، فها هي الحرب قد تجاوزت الـتسعة أشهر، وما زال مصير التعليم مجهولاً وموضع تساؤلات كثيرة، لأنه لم يكن يوماً بالنسبة الى الفلسطينيين أمراً ثانوياً، بل شكّل على مدى سنوات طوال حلقة أساسية في حياتهم وآمالهم.
كان استهداف الجامعات منذ اليوم الأول، بمثابة التدمير الحقيقي لحياة جيل بكامله، فلم يعش الشباب معاناة الفقد والخوف من الموت فقط، إنما تعدّاها إلى التفكير في المجهول، وما وراء هذه الحرب، وما هو مصير التعليم في الجامعات، وكيف سيتم إحياء العملية التعليمية بأقل الإمكانات المتوفرة؟!
يبلغ عدد مؤسسات التعليم العالي في قطاع غزة 17 مؤسسة، بالإضافة إلى جامعة للتعليم المفتوح لها فروع في الضفة الغربية أيضاً، ويلتحق بها قرابة 87 ألف طالب وطالبة، وتخرج فيها في العام الدراسي 2020/2021 نحو 14 ألف خريج وخريجة، وتضررت منها 12 مؤسسة بشكل جزئي أو كامل، ما أدى إلى انقطاع تام عن التعليم الجامعي، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني.
استئناف التعليم
خلال الشهر الماضي، أعلنت جامعة الأقصى والجامعة الإسلامية استئناف العملية التعليمة لطلابهما إلكترونياً، على أن يتم تدريس المساقات النظرية بشكل مكثف ولمدة 7 أسابيع فقط، وتؤجل المساقات العملية إلى وقت لاحق، وذلك من خلال استخدام منصة خاصة في الجامعة، يتم خلالها حضور المحاضرات وتقديم الامتحانات والتكليفات، التي سيتم تضمينها بالأرقام ضمن المعدل التراكمي للطالب، مع إعطاء العذر لمن سجل المساق ولم يستطع استكماله لأي ظرف وعدم سحبه منه.
“لا ظل ولا مدارس ولا جامعات ولا مؤسسات صحية ولا إدارية ولا حاجة، بلادنا في أصعب حالاتها، إلي بختار يرجع غزة بعد الحرب فهو بختار يضيع سنين من عمره في اللاشيء”، هذا ما يقوله هادي، وهو طالب في جامعة الأقصى، خرج من غزة برفقة أهله، وبرأيه أن غزة “لم تعد مكاناً للأحلام ولا للطموح، إضافة إلى غلاء الأسعار الفاحش والحياة التي يحفّها الموت من كل صوب”. ويوضح لـ”درج” أنه “من المفروض أن تكون هذه السنة الرابعة في الجامعة”، إلا أنه “وبسبب الحرب، ستكون هذه السنة الدراسية الثالثة”.
يضيف هادي: “قرار الرجوع إلى التعليم الإلكتروني هو قرار فيه ميزات وعيوب، ميزاته أن الطالب الذي تتوافر عنده إمكانات المتابعة، يستطيع أن ينجز المساقات ويستغل وقته نوعاً ما، ولكن سلبياته أكبر، فحتى اللحظة “السيستم” فيه مشاكل كثيرة، والظروف في غزة تتغير في كل لحظة، ومن الممكن أن تتوقف العملية التعليمية فجأة”.
يدرس هادي التصميم الداخلي، وبالتالي فإن تخصّصه عملي أكثر من نظري، وبحاجة إلى متابعة وزيارات ميدانية مستمرة من دكتور المساق، وهو شيء صعب في إطار التعليم الإلكتروني.
حاول هادي بعد خروجه إلى مصر التسجيل في جامعة مصرية، ولكن واجهته مشكلة معادلة المساقات التي ستؤدي، وبسبب اختلاف منهاج التدريس والخطة التعليمية، الى خسارته الكثير مما درسه من ساعات، خصوصاً أنها كلها مواد تخصص، “فلقيت أني هعيد من الأول، أو ممكن نعتبرها من الصفر، فالموضوع كان متعب نفسياً ومشتت كتير”.
أما وردة الأعرج فوافقت هادي في كل ما قاله، إلا أن ظروفها أشدّ صعوبة، فقد خرجت منذ أشهر إلى مصر برفقة والدتها المريضة للعلاج، وبسبب إغلاق المعبر، لم يعد بإمكانها الرجوع في الفترة الحالية، وهي تتحمل عناء إعالة أمها المريضة وحدها، بوجود أهلها بالكامل في غزة.
تقول الأعرج لـ”درج”، “إن قرار الرجوع إلى التعليم الإلكتروني سيئ جداً وليس لصالح الطلاب… إحنا دخلنا الجامعة والتخصص إلي بدنا ياه، مشان نبدع فيه ونعمل إلنا مشروع نستفيد منه، والرجوع إلى التعليم في ظل هذه الظروف، سيكون عبئاً نفسياً مضاعفاً، فنفسية الطلاب وعقولهم مشتتة، بين التفكير في أهلهم الذين يجهلون مصيرهم، وبين الموت أو النزوح المتكرر”.
تشتكي الأعرج من صعوبة الظروف التي تعيشها مع والدتها في المستشفى التي تعجّ بالمرضى وأبنائهم وأصواتهم التي لا تهدأ في الليل والنهار، وعدم وجود أي جو يسمح لها بالدراسة والتركيز: “بحاول أدرس مش قادرة والله”.
تتابع الأعرج دروسها الآن مع جامعة النجاح في رام الله، التي أتاحت لطلاب قطاع غزة أن يكملوا فيها دراسة المواد المشتركة، وأن تحتسب لهم في جامعاتهم بمعدل 12 ساعة. وعلى رغم هذه الفرصة، فهي غير قادرة على فهم الدروس بشكل كامل، بسبب عدم وجود تواصل مباشر مع أساتذة المواد.
وتختم: “لا يمكن أن أكمل قدراً كبيراً من دراسة تخصصي بشكل إلكتروني، فالمواد تطبيقية وبحاجة إلى أجهزة بمواصفات معينة حتى تتحمل برامج الهندسة الثقيلة للتطبيق عليها، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير الإنترنت بشكل مستمر، فكل شيء غالٍ والمساعدات قليلة جداً”.
إقرأوا أيضاً:
هل القرار صائب؟
عقد مجلس رؤساء الجامعات الفلسطينية اجتماعه في مقر وزارة التربية والتعليم العالي، عبر تقنية الاتصال المرئي مع قطاع غزة، لبحث جهود الاستمرار في إغاثة التعليم العالي في القطاع. وبحسب الوزارة، يأتي ذلك في إطار خطة إسعافية لإنقاذ العملية التعليمية في مؤسسات التعليم العالي في القطاع، بما في ذلك استئناف طلاب القطاع تعليمهم في المؤسسات التعليمية في الضفة الغربية، وفي بعض الدول الشقيقة والصديقة كطلاب زائرين، وكذلك التركيز على تأمين التدريب العملي للطلاب في المساقات التي تتطلب ذلك، وتوفير عدد من المنح الدراسية لطلاب غزة.
وأكد وزير التعليم العالي الدكتور أمجد برهم، أنَّ “الوزارة تبذل كل جهد ممكن لتأمين الدعم لمؤسسات التعليم العالي في القطاع، وهي تجري مشاورات ومباحثات ومتابعات لضمان استئناف العملية التعليمية في ظل تواصل عدوان الاحتلال، وتقديم الدعم للجامعات والكليات في القطاع لتمكينها من مواصلة العملية التعليمية والإيفاء بالالتزامات تجاه موظفيها، ومنح طلاب غزة حق الالتحاق بجامعات الضفة الغربية وكلياتها”.
أما الدكتور ماجد تربان، أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال في جامعة الأقصى في غزة، فيقول لـ”درج”: “إن عودة الجامعات إلى التعليم الإلكتروني على رغم الحرب واستهداف الأساتذة والطلاب، ما هو إلا مواجهة لجميع التحديات ورسالة صمود الشعب الفلسطيني في غزة. فعلى الرغم من أن 90 في المئة من الجامعات دُمرت بالكامل، تم اتخاذ قرار التعليم الإلكتروني للمساقات النظرية، مع تأجيل العملية والتطبيقية إلى ما بعد الحرب، في خطوة لإنهاء الفصل الدراسي الأخير للطلاب الذين على وشك التخرج، وعدم الوقوف أمام مستقبلهم ولا تأخيره حتى”.
ويوضح تربان أن “القدرة على قياس جدوى هذه الخطوة لا تتم الآن، فالأمر يقع في حيز التجربة في ظل الوضع الراهن، والتي يسعى من خلالها المدرس والطالب الىى البحث عن أهم متطلبات الحياة”، إلا أن الكثير من الطلاب برأيه “متلهفون لإكمال تعليمهم على رغم الحرب. نعم، الآن الأوضاع صعبة، المنازل مدمرة، لا توجد لدى الطلاب أجهزة، ولكن قرارات الجامعة كما أعتقد، تأتي في إطار التحديات، وفي إطار الرواية الفينيقية أن الفلسطيني كطائر العنقاء ينهض من تحت الرماد ثم ينتصر”.
“طريقة التدريس هي نفسها المتبعة عبر نموذج الجامعة أو المنصة الرقمية التي تتبع لكل جامعة، وستكون من خلال الإنترنت وتكليف الطلاب ببعض الأعمال حسب ظروفهم، ما يعني أنه ستكون هناك مراعاة مع تفهّم للواقع الذي يعيشه الطلاب. لكنْ، هناك نوعان من الصعوبات، الصعوبة الأولى هي ما يتعلق بتحصيل الإنترنت للزملاء المقيمين في غزة والموجودين على أرضها كونه غير متاح دائماً وضعيفاً في أحيان أخرى، إضافة إلى غياب الكهرباء منذ ثمانية أشهر، واعتماد الناس بالتالي على الطاقة البديلة لتوفير الكهرباء وشحن الهواتف وأجهزة الكمبيوتر”، يقول تربان.
أما الدكتور رامي مرجان، أستاذ الكيمياء العضوية في قسم الكيمياء في الجامعة الإسلامية في غزة ونائب عميد كلية العلوم، فيؤكد لـ”درج” أن “قرار الجامعة باستئناف الدراسة بعد هذا الوقت الطويل من الحرب المستمرة، والمحرقة التي طاولت الأخضر واليابس، يحمل رسائل عدة، أهمها: رسالة البقاء على هذه الأرض، الذي يتمثل بالعمل على رغم الإمكانات المعدومة، لتنشئة جيل واع ومتعلم قادر على المساهمة في عملية البناء والتقدم. ولهذا بدأت الجامعة بالتعليم الإلكتروني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العملية التعليمية التي طاولتها حرب الإبادة، على أمل بأن نستطيع إنقاذ مستقبل طلابنا”.
ويوضح أن صعوبة الوضع تفوق الوصف، “نحن في نهاية الأمر بشر عاديون، ولسنا خارقين للعادة كما يحاول أن يصورنا البعض!!! نحن نتعرض فعلياً إلى أقذر حرب شهدها التاريخ المعاصر، مع هذا نحاول تجربة التعليم. وصدقاً لا نستطيع معرفة الجدوى إلا إذا خضنا التجربة، وفعلياً بدأنا بمتطلبات الجامعة كمرحلة أولية حتى تستطيع تقييم العملية واستخلاص العبر من التجربة بهدف تجويدها، أو لا سمح الله إيقاف التعليم، فذلك كله سيظهر بعد التجربة الجارية حالياً”.
يختم مرجان، “لا شك في أن الصعوبات كبيرة وكثيرة، ولعل أهمها الجانب النفسي للمدرس والطلاب، في كل لحظة هناك احتمال لسقوط صواريخ الموت، وهذا شيء لا يمكن وصف صعوبته وتأثيره القاسي على نفسيتنا كبشر قبل أن نكون مدرسين، وبالطبع ينطبق هذا الخطر على جميع الطلاب في القطاع، كما أن هذا الجو النفسي المرعب لا بد سيؤثر على عطاء المدرس وتحصيل الطلاب في آن. من ناحية أخرى، كلنا نعاني من انقطاع الكهرباء، ونعتمد على شحن أجهزة الهاتف النقالة عبر الطاقة الشمسية، إضافة إلى بطء شبكة الإنترنت وعدم استقرارها، ذلك كله يشكل معوقات تؤثر بشكل سلبي على العملية التعليمية برمّتها”.
إقرأوا أيضاً: