في يوم ما من حكم الأسد الأب تحوّل احتفال الكرد في سوريا بعيد نوروزهم إلى إمكانية صراع واستباحة، كما حُرموا من لغتهم في الفضاء العام، وفي بعض الأزمان من تسمية أبنائهم بأسماء كردية. قلّة يعرفون أن العلويين مُنعوا كذلك من الاحتفال العام بنوروزهم، وكذلك بما يسمى عيد الرابع أو الزهورية. طمس الخصوصيات الثقافية للمجموعات السورية المختلفة قلب الظاهر باطناً، بمعنى أن ما كان يعتمل تحت السطح “الوحدوي” هو تشظٍّ “لانتماء وطني”، تحويل الديناميكية الثقافية التطوّرية إلى ستاتيكية متحجّرة، بما أن حماية الخصوصية الثقافية تحمل في طياتها حماية للذات الجمعية.
ربما هو واحد من الأسباب الكثيرة التي أدّت إلى تشظٍّ عام بما يخصّ فكرة الوطنية السورية. الذاكرة الجمعية، واحدة من أهم مؤسسات الخصوصية الثقافية، تنبني وتتطوّر عبر الحكايات والرموز والطقوس وفي إطار مرجعي داخل الجماعات يتعلّق بالشعور والانتماء والهويّة، وبالاستعارة من موريس هالبڤاكس، فإن الذاكرة لا تتعلّق بتراكمات فردية مستقلة بل هي جمعية بطبيعتها، تتبادلان التأثير والتأثّر. في سوريا الأسد مُسخت الخصوصيات الثقافية المختلفة، من عادات وتقاليد واحتفالات وأعياد وموسيقى ورقص ولباس وطعام ولغة ولهجة وحكايات شعبية وفنون، وتحوّلت إلى يونيفورم بعثي وحدويّ، وفي بعض حالاتها إلى صورة عن القبح الأمني. بعد سقوط نظام الأسد استمرت الممارسات الإقصائية ذاتها وبأشكال أخرى، ليتحوّل اليونيفورم القومي البعثي إلى ديني عصبوي وأمني.
في مفارقة تاريخية عاشها الكثيرون في المشهد السوري، شارك نظام البعث مع معارضته السياسية في محاولات طمس الاختلافات الثقافية وتحييدها وخنقها، على عكس ما قد يبدو الأمر عليه. في يوم ما كان إجهار الانتماء إلى طائفة أو مجموعة بشرية في سوريا أشبه بإشهار العار، لأن مجرد التأكيد على انتماء آخر رديف للانتماء إلى بلد عروبي قومياً يحكمه حزب البعث سياسياً بالحديد والنار، كان إشهاراً بتعدّدية أشبه بالكفر في زمن الطغيان، كما كان التأكيد على انتماء طائفي مغاير أو أيديولوجي سياسي مختلف أشبه بوصمة عار لدى قطاع من المعارضة.
انتقلت حالة اللون الواحد مع الزمن إلى صفوف المعارضة أو إلى “شارع الثورة”، فكان الضغط المباشر أو غير المباشر، الرمزي في كثير من الأحيان، للمعارضين من الأقليات أو المجموعات البشرية التي لا تنتمي الى الغالبية العربية السنية للتبرؤ من انتماءاتهم (الأخرى)، طريقاً إجبارياً للحصول على صكوك براءة “ثورية”.
إقرأوا أيضاً:
الكليشيهات المهيمنة التي استخدمها نظام البعث منذ وصوله إلى الحكم في البلاد كانت الوحدة والحرية والاشتراكية، بغض النظر عن الشعارين الملتبسين والمفرّغين من المعنى بشكل كاريكاتوري لكل من الحرية والاشتراكية، كان شعار الوحدة أشدّها هيمنة وتأثيراً. فمفهوم الوحدة الشمولي، تماماً كما كان النظام شمولياً، إدارة مهيمنة صلدة لتحويل كل فرد في البلاد إلى عبد لها، بمعنى تحويل مفهوم الوحدة لأن يكون طمساً ممنهجاً للتباينات والخصوصيات الثقافية للمجموعات السورية، سواء أكانت دينية أو طائفية أو اثنية أو اجتماعية، العنف المهيمن لمفهوم الوحدة تبدّى في فرض لون واحد على المستويات كافة جعل من الجميع كتائب عسكرية منظمّة أفقدت التنوعات السورية وجودها في اختصارات مبتسرة فرضتها الشمولية، اختصار الهويات في انتماء واحد يسجن البشر في مواقف متحيّزة ومتعصّبة ومتشدّدة ومهيمنة، وقد يكون انتحارياً حين يحوّلهم إلى قتلة أو أتباع قتلة.
الغياب الكامل لمفهوم المواطنة عمل على بناء جدران مصمتة إسمنتية، لا مرئية، بين المجموعات الثقافية السورية، تجهّل الناس ببعضها فيحلّ الخوف بدل العيش المشترك، وتنتفي حالة القبول الإيجابي والفهم، فالتضامن والتعاون يعنيان قوة مجتمعية مخيفة. مفهوم الوحدة الشمولية قوّضت فكرة أساسية قد تتسم بها الخصوصيات الثقافية للجماعات المختلفة في سوريا على المستوى الفكري والقيمي، أولها حالة التفرّد التي قد يشعر بها المنتمي إليها، التي لا ينبغي أن تتعارض رمزياً مع شعوره بالانتماء إلى الوطن، وثانيها إمكانية الانفتاح على الثقافات الأخرى التي تتشارك الوطن معها، التأثر الإيجابي بها والتأثير عليها.
اندلاع الثورة السورية كان صرخة تمرّد بعد عقود من الصمت، سمع السوريون/ات صوتهم وصداه، لكن يبدو أن الزمن توقف عند اللحظة تلك، لم يتمكّن السوريون/ات مع مرور الزمن والعنف والتشظّي من تحويل تلك الصرخة إلى خطاب مغاير، فكرة جامعة تكثّف ما انتفضوا من أجله. حالة التفريغ التي عاشوا في عدميّتها لعقود لم تنتج قيماً مقابلة أو مغايرة يمكنها ملء الفراغات الممعنة في الفراغ. وبالاستعارة من فوكو فإن الغرب لم يعرف الثورة الديمقراطية إلا حين قام بثورة ثقافية حقيقية مثّلت قطيعة مع النظام المعرفي السابق.
الثورة السورية لم تتمكّن لأسباب عدة من القيام بتلك القطيعة، الأمر الذي تبدّى بأبشع صوره بعد هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، فاستمرت الحرب على الخصوصيات الثقافية المتنوعة بمقابل اللون الواحد وبأشكال متباينة. السوريون/ات بمعظمهم أعادوا إنتاج الخطاب ذاته، فالحرية التي طالبوا بها لا يمكن أن تُختصر بالممارسة (المنتفية أصلاً) وإنما هي منهج تفكير، كما الديمقراطية ليست سلوكاً فحسب، تسيطر الغالبية فيها على صناديق الاقتراع، بل أيديولوجيا وقيم ومفاهيم تنبني لقبول المختلف/ الآخر.
الخطر هنا باعتقادي لا يأتي من الطغيان الديني أو الطائفي السياسي الذي قد تأتي به هذه الحكومة المؤقتة أو الحكومات المقبلة فحسب، بل طغيان فكر الأكثرية التي ترى أن البلاد ملكها، وهي أم العروس وأبوها، ومن حقها قمع حقوق الأقليات أو الأفراد المختلفين عن سياقاتها، طغيان الغالبية الفارضة إرادتها، ما قد يسمى الاستبداد الجماهيري، أو الطغيان الديمقراطي (Tyranny of the Majority).
مع مرور الزمن والمجازر وتراكم المظلوميات لم يولد فرد سوري جديد كما كنّا نأمل. الإنسان ككينونة، الاكتشاف الأهم للثورات الثقافية، لم يستطع خلق مجاله الخاص المميّز في علاقته مع الآخر، فسؤال “من تكون؟”، كما تراه النسوية الإيطالية أدريانا كافاريرو، يتّصل بإمكانية الغيرية، نحن مخلوقات مكشوفة بالضرورة لبعضنا البعض، حالتنا السياسية تتكون جزئياً من فهمنا للكيفية التي نتعامل بها مع هذا الانكشاف: أنا لست ذاتاً داخلية مغلقة على نفسي، أطرح أسئلة تتعلّق بنفسي فقط، أنا موجودة بمعنى مهم بالنسبة لكَ، وبفضل وجودكَ. إذا خسرت شروط المخاطبة، إذا لم يكن لدي “أنت” أخاطبه، إذن فقد خسرت “نفسي”. ليس بإمكان المرء أن يسرد سيرته الذاتية إلا لشخص آخر، والإحالة على “أنا” إلا في علاقة مع” أنت”: دونما أنت تصبح قصتي مستحيلة. هل أضحت قصتنا كسوريين/ات اليوم مستحيلة؟
لا تُبنى الأوطان بغير التعدّد الثقافي، ولو أن السؤال الجوهري اليوم هو حول تعريف الوطن والانتماء إليه، وقد راحت الأصوات الداعية إلى تشظية هذا “الوطن” جغرافياً، والقطيعة مع مشاعر “الوطنية” تزداد باطراد. التعدّد الثقافي ليس مشكلة علينا حلّها، كما تدّعي اليوم قوى الأمر الواقع ومؤيدوها، فرض لون واحد على مجتمع ملوّن ومتعدّد كسوريا هو عتبة أخرى إلى شكل شمولي جديد وديكتاتوريات ومظلوميات جديدة واحتمالات خطيرة لانفجارات عدة. التعددية الثقافية في المجتمعات غنى معرفي وثقافي، اعتراف بالاختلاف المتساوي، بحقوق مواطنين/ات وواجباتهم، أشبه بفلسفة أخلاقية اجتماعية وسياسية ممكن عبرها أن نبني بلداناً أكثر عدلاً وتسامحاً، وهوية وطنية جامعة وقوية، تعمل على تعزيز (الوحدة) وتنظيفها من سمعتها القديمة ككليشيه فارغة من مضمونها. يمكنني أن أحافظ على هويتي الثقافية المختلفة كما أحترم وأقدّر الهويات الثقافية الأخرى، الاختلافات الثقافية بين المجموعات داخل الوطن هي التي تبنيه وليس العكس. وهي لا تعني أبداً الابتعاد عن الهوية الوطنية بل على العكس، هي (اندماج) أكثر صحة وإنسانية في المجتمع الوطني.
من هنا، اللون الواحد لن يمحي الصراعات، بل سيجعلها تختمر كحمم بركانية تحت السطح لا تلبث أن تنفجر في لحظة ما، التهميش والأحكام المسبقة ضد الخصوصيات الثقافية ستجعلها تنغلق على نفسها أكثر وتشعر بالخطر والتهديد، وتفسح المجال لأصوات مبتعدة أكثر وأكثر عن “الوطنية” السورية. هنا يبدو العمل على قطبين متعادلين ومتقابلين، الأول هو النقد الداخلي للثقافة المهيمنة، وهي بالتأكيد ليست كتلة واحدة كما هي المجموعات الثقافية الأخرى ليست كتلة واحدة، كما النقد الداخلي للأخيرة، وأقصد المجموعات الثقافية الأخرى، بما يعنيه من خلق استراتيجيات نقدية لنفسها وتاريخها وسرديتها وتعاملها مع الآخر.
هناك شرط أساسي لفهمنا الحياة السياسية، التي لم يعرفها السوريون طيلة عقود، هو تعريفنا لها باعتبارها تعدّدية، على هذا فما زلت أتبنى وجهة نظر حنه آرندت بأن قناعة جزء من السكان بأن الأرض ملك له لا مجتمع أو دولة، فسيعني ذلك الدخول في سياسة الإبادة الجماعية. يعني ذلك أن القرب غير الإرادي والتعايش غير الاختياري، هما شرطان مسبقان للحياة السياسية، يشيران ضمناً الى الالتزام بالعيش في الأرض في كيان سياسي يؤسس أنماطاً للمساواة لمجموعة سكانية متعددة بالضرورة. بالإضافة إلى الاستثمار في مؤسسات تحمل المطلب الأخلاقي: لنجعل كل الحيوات ممكنة العيش بالقدر نفسه.
وهكذا فإن أرندت تستقي من فكرة التعايش غير الاختياري مفاهيم العالمية والمساواة التي تلزمنا بمؤسسات تسعى الى حفظ الحياة الإنسانية من دون اعتبار جزء من المجموعة السكانية بالأساس كمجموعة لا يمكن الحفاظ عليهم، ميتين اجتماعياً، زائدين عن الحاجة، أو جوهرياً غير مستحقين للحياة والحماية. الفكرة التي عملت عليها مؤخراً وكثيراً جوديث بتلر.
أتينا من بلدان ديكتاتورية، شعارها لون سياسي واحد، من مجتمعات بطريركية ومن ثقافات متجاورة تعاني في قبول بعضها البعض، شعارها لا للاختلافات الإثنية والعرقية والطائفية، عملت طويلاً على تخريب مفهوم المواطنة. لم نكن نعرف بعضنا البعض في بلد شديد الموزاييكية كسوريا، جزر منعزلة تجهل بعضها إلى حدّ بعيد، وتملك فيضاً من أحكام القيمة الغريبة، والغبية أحياناً، تجاه بعضها. يحكمنا الخوف ثم الخوف ثم الخوف. لقد ناضلنا من أجل الديمقراطية، ثرنا من أجلها، بذلنا الكثير الكثير من أجلها، لكن هل يدرك معظمنا معناها العميق؟!
إقرأوا أيضاً:











