fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

استخدام إسرائيل المياه كسلاح حرب في غزة: جرائم بيئيّة كارثيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبرز أثر الصراع الذي بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن تدمير مصادر المياه والبنية التحتية ليس مجرد أزمة إنسانية بل هو أيضاً فعل متعمّد ضد البيئة هدفه تدمير ما تبقى من مقومات الحياة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“مش قدرتي اشتري مياه حلوة، فش مصاري اشتري مياه حلوة”، يقول حاتم فروانة لـ”درج”. في الشمس الحارة، يمشي “مجبور”، على حد تعبيره، مسافة كيلومترين للحصول على المياه مجانياً. “مياه الشرب بـ 4 شيكلات ( 1.11 دولار أميركي) الغالون، مش ملاحق”، يضيف السبعيني وهو يفرغ غالون مياه في الخزان. 

بالنسبة الى كثر من السكان في غزة، أصبح شرب الماء من البحر ملاذاً يائساً لكنه الخيار الأخير. تسبّب الصراع الحالي في “ظلم بيئي”، إذ إن 6 في المئة فقط من سكان غزة يحصلون على مياه شرب نظيفة. 

انخفض مقدار الحصول على المياه بنسبة 95 في المئة بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وأصبحت رحلة البحث عن قطرة مياه “سياسة تجويع وعطش جماعي تدخل ضمن إطار الإبادة الجماعية”، وفق ما يقول أحمد النجار، أكاديمي وباحث في القانون الجنائي في جامعة الأزهر. فمن الاستحمام في البحر الأبيض المتوسط على بُعد خطوات من دير البلح إلى المشي لأكثر من كيلومترين وسط المياه الآسنة والنفايات من أجل كوب من الماء، تعد معاناة الحصول على مياه نظيفة واقعاً قاسياً في غزة. “نريد أن نشرب فلا نسأل ما إذا كانت المياه نظيفة وإن كانت تخضع للفحوصات كما كنا نفعل قبل الحرب”، يقول النجار لـ “درج”.

تقليل عدد مرات الاستحمام، وإعادة تدوير المياه وتخزينها… استراتيجيات ضرورية لضمان البقاء. “نخزن المياه في الطناجر والغالونات”، قالت مها البحيصلي لـ “درج”. تعيش البحيصلي في دير البلح، وسط قطاع غزة، وكانت تدفع قبل الحرب 15 شيكلاً (4.12 دولار أميركي) تكلفة 500 لتر من المياه. “ولكن الآن تكلفتها 90 شيكلاً (24.71 دولار أميركي) وجرة غاز لرفعها إلى السطح”، أضافت. 

تختلف تكلفة جرة الغاز بوزن 12 كيلوغراماً بناءً على مدى سرعة الحاجة إليها. “إذا كنت تحتاجها على الفور، فإن تكلفتها تتراوح بين 200 إلى 290 دولاراً في السوق السوداء. بدلاً من ذلك، إذا كنت تستطيع الانتظار شهرين، يمكنك شراؤها مقابل 25 دولاراً فقط”، يوضح النجار. 

المياه حق من حقوق الإنسان، وهي ضرورية لضمان حقوق أخرى، بما في ذلك الحق في الغذاء والحق في الحياة. وعلى الرغم من انهيار اتفاقيات أوسلو الأولى والثانية – وهي سلسلة من الاتفاقيات التي تناولت الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني- إلا أنها تضمنت بنوداً تهدف إلى ضمان التعاون بشأن قضايا المياه وحقوق كلَي الطرفين. ومع ذلك، يواجه سكان غزة انتهاكات لحقهم في المياه منذ ما يقارب الثلاثين عاماً. وقبل الصراع الحالي، كان معظم الفلسطينيين في غزة يحصلون على 82.7 لتر فقط من الماء يومياً، وهو أقل من الحد الأدنى الموصى به من منظمة الصحة العالمية البالغ 100 لتر يومياً.

ويبرز أثر الصراع الذي بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن تدمير مصادر المياه والبنية التحتية ليس مجرد أزمة إنسانية بل هو أيضاً فعل متعمّد ضد البيئة هدفه تدمير ما تبقى من مقومات الحياة. إذ تسبّبت الأضرار في البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء والوقود، ومنع طواقم البلديات من إجراء الصيانة الروتينية، أو عدم توافر قطع الغيار لإصلاح الشبكات، في عرقلة إمدادات المياه. وهذا خلق بيئة تسهّل تفشّي الأمراض والأوبئة، ما قد يجعل غزة غير صالحة للسكن لعقود.

التهجير القسري والحصول على المياه

“حتى عندما تتمكن البلدية من ضخ المياه، فإن الكثير من المواطنين لا يستفيدون منها بسبب أنابيب تالفة أو غير موجودة. وأُجبر آخرون على ترك منازلهم للعيش في خيم بلاستيكية، حيث لا توجد بنية تحتية لتوفير المياه”، يقول النجار.

ترك التهجير المتكرر للسكان منذ اعتداءات 7 تشرين الأول بالكاد ما يكفي لهم من الضروريات للبقاء. وتضرّرت 360,000 وحدة سكنية في غزة. وهُجّر الغزاويون قسرياً بحثاً عن المياه كما فعل الطبيب ياسر أبو سلمية الذي سكن في مزرعة أبقار في خان يونس وفقاً لما قاله لـ “درج”. 

وبفعل الدعوات الإسرائيلية الى السكان للنزوح إلى وسط القطاع وجنوبه، تواجه المناطق المزدحمة تحديات في الوصول إلى المياه بسبب زيادة الطلب والبنية التحتية المحدودة. كذلك، تواجه حالياً مدينة دير البلح، التي يبلغ عدد سكانها حوالى 700,000 نسمة من السكان والنازحين، تحديات صحية وإنسانية خطيرة. فقد توقفت فيها جميع مصادر المياه بما في ذلك 19 بئراً وخزان مياه بسبب نقص الوقود الحاد. 

في عدد من مناطق قطاع غزة، تصل المياه من البلديات كل أسبوع أو عشرة أيام إلى المنازل. ويعتمد السكان على المياه المحلاة المنقولة بالشاحنات للشرب والطهي، ما يفرض أعباء مالية ثقيلة على الأسر الفقيرة، إذ تصل الأسعار إلى 35 ضعف سعر المياه البلدية، بحسب خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر. ومع بداية النزاع، أصبح الموزعون الذين يعملون بشكل خاص المصدر الرئيسي للمياه في غزة، حيث يقدمون نحو 3300 متر مكعب يومياً من المياه للسكان. 

باستخدام الحمير والعربات، ينقل الموزعون المياه من الآبار المحلية الى السكان. وتتراوح أسعار خزانات المياه المنقولة على العربات بين 70 إلى 100 شيكل (25 إلى 30 دولاراً أميركياً). و”يواجه من لديهم القدرة على شراء خزانات المياه تحديات إضافية، إذ يجب عليهم نقلها يدوياً إلى الأسطح بسبب نقص الكهرباء اللازمة لعمليات الضخ”، قال أحمد النجار لـ “درج”.

المصدر: مواطن من غزة لـ “درج”

وسمح بعض السكان لجيرانهم بالحصول على المياه من الآبار الخاصة، سواء مجاناً أو مقابل رسوم. على سبيل المثال، قال علي أبو جياب لـ “درج”، إنه يدفع حالياً 1000 شيكل (276.65 دولار أميركي) شهرياً للحصول على المياه من بئر خاص يقع في أرض جيرانه. ومع ذلك، فإن مواطنين كثراً لا يمكنهم تحمّل الأسعار المرتفعة ويعتمدون على شاحنات مياه متنقلة تقدمها منظمات غير حكومية إقليمية ومحلية. ويتعين عليهم الانتظار في طوابير لساعات لملء 3-4 لترات من الماء، وفقاً لأحمد النجار. 

“تم استصلاح 11 بئر مياه وإنشاء 110 نقاط ثابتة من الصنابير إضافة إلى شبكات مياه مؤقتة في الشوارع لتزويد مراكز الإيواء والنازحين”، قال صائب لقان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس لـ “درج”. وأضاف أن البلدية نجحت في تشغيل محطة تحلية من خلال دعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

مياه الصرف الصحي للشرب

مع الصراع الحالي وحرمان المواطنين من كوب مياه، يقول أحد المواطنين في مخيم جباليا لـ “إندبندنت عربية“: “لقد كنت أبحث عن الماء لمدة ست ساعات، حتى أنني أفكر في الشرب من المجاري، لكنني لا أستطيع العثور على أي شيء”. ويقول مواطن آخر: “نحن ننتظر أن يرحمنا أحد المانحين ويجلب لنا الماء”. 

على مدى سنوات، اعتمدت غزة بشكل كبير على المياه الجوفية للشرب والزراعة والاستخدام المنزلي. إلا أن “النمو السكاني السريع والاستغلال المستمر للمياه الجوفية أدى إلى انخفاض مستوياتها بأكثر من 11 متراً في مناطق معينة”، يقول خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر لـ “درج”. ويضيف أن “هذا سَهَّل تسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية بعمق يتجاوز 3 كيلومترات في بعض المواقع، مما زاد من مستويات الملوحة وتركيزات المواد الكيميائية مثل البورون في المياه الجوفية بما يتجاوز المعايير المقبولة دولياً”.

وبفعل تسرّب مياه البحر إلى الآبار، تحتاج 97 في المئة من المياه في غزة إلى التحلية لجعلها صالحة للشرب. تقول الهيئة الفلسطينية للإحصاء المركزي إن كمية مياه الشرب المحلاة في قطاع غزة كانت 7.5 مليون م3 في عام 2021. في أكبر سجن مفتوح في العالم، كانت هناك ثلاث محطات تحلية مياه رئيسية تعمل قبل 7 تشرين الأول. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن اثنتين فقط من محطات التحلية تعملان حالياً بشكل متقطع، بسبب استهدافها بعمليات عسكرية. 

مع استمرار الهجمات على البنية التحتية للمياه، يتعين على المواطنين الاعتماد على مصادر مياه أقل، حتى وإن كانت ملوّثة، كما أشار أحمد النجار لـ “درج”. ولفت برنامج الأمم المتحدة للبيئة الى أنه نتيجة الأضرار التي لحقت بإحدى محطات معالجة مياه الصرف الصحي في عام 2009، تلوثت المياه الجوفية بأكثر من 100,000 م³ من مياه الصرف الصحي وبالمعادن الثقيلة الناتجة من الحمأة.

 من المحتمل أن تتركز مياه الصرف الصحي غير المعالجة حالياً في بعض مناطق جنوب غزة بسبب الكثافة السكانية، بخاصة في ظل النزوح القسري المستمر، ما سيساهم أيضاً في تلوث المياه الجوفية. 

المصدر: بلدية خان يونس لـ “درج” تجمع مياه الصرف الصحي في شوارع مدينة خان يونس نتيجة تدمير خطوط الصرف الصحي

قبل الحرب، تم استثمار مبالغ كبيرة لبناء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي بهدف  تحسين ظروف الصحة العامة والبيئة. ومع ذلك، تقول اليونيسف إنه لا توجد محطات معالجة مياه صرف صحي تعمل في المنطقة حالياً. وقد أكد تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، أنه من بين 6 محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي، 4 منها متضررة أو مدمرة. وخرجت المحطتان الباقيتان عن العمل بسبب نقص الوقود أو الإمدادات. 

يتم ضخ 130,000 م³ من مياه الصرف الصحي في غزة إلى البحر الأبيض المتوسط يومياً. يقول صائب لقان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس لـ “درج” إن البلدية “ضخت مياه الصرف الصحي للبحر، وذلك بسبب عدم توافر السولار اللازم لأعمال المعالجة الأولية لمياه الصرف الصحي”.  كان تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة في غزة سبباً خطيراً لتلوث المياه الجوفية والبحرية لسنوات عدة.

صورة توضح ضخ مياه الصرف الصحي إلى بحر خان يونس من دون معالجة

المصدر: بلدية خان يونس لـ “درج”

في كانون الثاني/ يناير 2024، أعلنت إسرائيل عبر منصة “إكس” أنها ضخت كميات كبيرة من المياه المالحة في أنفاق “حماس”. هذا يزيد من مخاطر تلوث المياه الجوفية بفعل تلوث مياه البحر بمياه الصرف الصحي. وقالت الأونروا إن مرافق البنية التحتية للصرف الصحي تعرضت لضرر شديد، ما أجبر آلاف العائلات على الاعتماد على مياه البحر للغسيل والتنظيف وحتى الشرب. وهذا يعني أن المواطنين يشربون بشكل غير مباشر من مياه الصرف الصحي غير المعالجة.

المصدر: مواطن من غزة لـ “درج”

 شكلت الدعوات المستمرة للنزوح في غزة ضغطاً كبيراً على شبكة الصرف الصحي، ما أدى إلى فيضانها في الشوارع، ما يشكل تهديداً كبيراً للخزان الجوفي. وأصبحت غزة بيئة حاضنة للأمراض والأوبئة في ظل الاعتماد على الآبار الخاصة وشاحنات نقل المياه واحتمال تلوثها. 

وهناك خطر بيئي آخر ناتج من الهجمات، وهو توقف خدمات إدارة النفايات الصلبة. فإن عصارة النفايات الناتجة من النفايات غير المعالجة، التي تراكمت في شوارع غزة على مدار التسعة أشهر الماضية، تشكل خطراً كبيراً على المياه الجوفية. ويضيف مدير الإعلام في بلدية خان يونس أن “هناك مشكلة كبيرة في التخلص من النفايات الطبية الخطرة، ومشكلة أكبر تكمن في تلوث الخزان الجوفي نتيجة عدم تصريف مخلفات الذبح بشكل صحي وسليم بعد تدمير مسلخ بلدية خان يونس، فهو الوحيد على مستوى المحافظات الجنوبية في قطاع غزة”.

تلوث محتمل للمياه الجوفية

ألقت إسرائيل ألفي رطل ( 970 كلغ) من المتفجرات على قطاع غزة بحلول تموز/ يوليو 2024. وكانت “الأورو- متوسطية للحقوق” أشارت إلى أن وزن القنابل النووية التي استخدمتها إسرائيل تجاوز وزن القنابل التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في هجماتها على هيروشيما وناكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ إن إسرائيل أسقطت أكثر من 25,000 طن من المتفجرات على قطاع غزة مع نهاية الشهر الأول من الاعتداءات، وفقاً للمنظمة.

يقترح خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر في حديثه لـ “درج”، دراسة ما إذا كان الاستخدام الواسع للقنابل والمتفجرات أثر على المياه الجوفية. “هناك قلق من أن المياه الجوفية تلوثت من بقايا المتفجرات والمعادن الدقيقة.” ويمكن أن تنتقل المعادن الثقيلة ببطء في التربة، ما يؤدي إلى تدهور جودة المياه الجوفية في النهاية. وبالعودة إلى العام 2008، أي مع نهاية عملية “الرصاص المصبوب”، أظهرت عينات من آبار المياه البلدية أنها تحتوي على آثار من الحديد والكروم والزنك، ولكن بتركيزات أقل من معايير منظمة الصحة العالمية.

 هجمات متعمّدة على البنية التحتية للمياه

مع النزاع الأخير، يحصل كل مواطن في غزة على نحو 5 لترات من المياه يومياً، بما في ذلك مياه الشرب والطهي والاحتياجات اليومية، وفقاً للسلطات المحلية. تذكر اليونيسف بأن الحد الأدنى من المياه المطلوبة في حالات الطوارئ هو 15 لتراً، بما في ذلك الماء للشرب والغسيل والطهي. قبل الحرب، كانت 97 في المئة من الأسر متصلة بخدمات المياه البلدية. ومع ذلك، كانت هذه الخدمات تعاني من تفاوتات بسبب ضعف عمليات الضخ نتيجة التسريبات أو الربط غير القانوني على شبكات المياه، وفقاً للمصدر عينه. 

لا تتوافر قائمة شاملة بالأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه، إذ إن الأرقام قابلة للتغيير أو لأن السلطات المحلية تجد صعوبة في الوصول إلى المواقع للإبلاغ عن الأضرار. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن 10-12 في المئة فقط من المياه المتاحة قبل الحرب متوافرة حالياً. “هناك حالة عطش شديدة بين المواطنين والنازحين في مراكز ومخيمات الإيواء”، يقول لقان لـ “درج”.

حاول “درج” التواصل مع أكبر 5 بلديات من أصل 20 تقع في غزة (غزة، جباليا، دير البلح، رفح، خان يونس) لكنه لم يتلقَّ رداً إلا من بلدية خان يونس حتى تاريخ النشر. ووفقاً لمعلومات نشرتها بلدية غزة، تعود أزمة المياه المستمرة في أجزاء كبيرة من المدينة إلى الأضرار التي لحقت بخطوط المياه التابعة لشركة “ميكروت” – الشركة الوطنية للمياه في إسرائيل. وكانت خطوط ميكروت توفر9 في المئة من إمدادات المياه في غزة خلال أوقات السلم. أما في تموز 2024، فقد أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن 1 من كل 3 خطوط مياه “ميكروت” قادمة من إسرائيل إلى غزة يعمل جزئياً. 

وقد دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلية نحو 40 بئراً وتعرضت 16 بئراً آخر لأضرار جزئية، بالإضافة إلى 8 خزانات ومضخات كبيرة، وفقًا لبلدية غزة. علاوة على ذلك، دُمر نحو 70,000 متر من أنابيب المياه الرئيسية والفرعية، وفقاً للمصدر عينه. ومن بين 603 منشآت مائية في غزة تم تحليلها من الـ “بي بي سي“، تبين أن 53 في المئة منها تعرضت لأضرار أو لدمار. 

جرائم بيئية

لم يتم تعريف “الجرائم البيئية” رسمياً بموجب القانون الدولي. لكن تشرح المحامية السابقة في الجنائية الدولية ديالا شحادة لـ “درج”، أن نظام روما الأساسي “لحظ الجرائم البيئية في إطار تعريفه جرائم الحرب، في المادة 8، التي ‘تعتبر شن هجوم، مع العلم أن هذا الهجوم سيسفر عن(…) إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية…’ كجرائم حرب”. ويربط المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي وخبراء آخرون في الأمم المتحدة حرمان المياه بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

وتعد حماية البيئة والبنية التحتية للمياه التزاماً لإسرائيل بموجب القانون الدولي. وفيما امتنعت عن توقيع نظام روما، وقعت فلسطين عليه رسمياً في بداية عام 2015. “هذا يؤسس لولاية المحكمة على الجرائم المرتكبة في فلسطين منذ 13 حزيران/ يونيو 2014 (وفقاً لطلب الحكومة الفلسطينية)، مع إطار زمني مفتوح منذ ذلك التاريخ”، تشرح شحادة.

وبغض النظر عن نظام روما، فإن إسرائيل ملزمة بحماية البنية التحتية للمياه بموجب القانون الدولي العرفي، وهو مجموعة من القواعد التي تنبع من الممارسات العامة. “الهجوم أو التدمير أو الإزالة أو جعلها غير قابلة للحياة للسكان المدنيين”، مثل “مياه الشرب والمنشآت والإمدادات”، محظور بموجب قواعد القانون الدولي العرفي. كما يُحظر استخدام أساليب يمكن أن تسبب أضراراً واسعة النطاق وشديدة للبيئة الطبيعية. علاوة على ذلك، ينص البروتوكول الإضافي لعام 1997 لاتفاقية جنيف، الذي صدقت عليه فلسطين في 2018، على “حماية الأشياء الضرورية لبقاء السكان المدنيين”، بما في ذلك “منشآت مياه الشرب وإمداداتها وأعمال الري”. كما أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذه القواعد في قراريه 2417/2018 و 2573/2021.

يعتبر الضرر المتعمد للبنية التحتية للمياه ومحطات معالجة مياه الصرف انتهاكاً للقوانين البيئية الدولية. ويُشكل تلوث المياه الجوفية الساحلية تهديداً كبيراً لصحة النظم البحرية والبيئية. وتعد إسرائيل واحدة من الدول التي صدقت على اتفاقية برشلونة، التي تهدف إلى حماية البحر الأبيض المتوسط من التلوث. وأوضحت المحامية ديالا شحادة لـ “درج” أن “أي أفعال تمس بسلامة مياه المتوسط تشكل انتهاكاً لهذه الاتفاقية”.

علاوة على ذلك، “يمثل الاعتداء على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي جرائم دولية من نوع جرائم الحرب، ولعلها تدخل في إطار جرائم الإبادة الجماعية إذا ثبت أنها مرتكبة بنية إضعاف الشعب الفلسطيني في غزة وإلحاق الأذى به بهدف اضمحلاله”، وفقاً للخبيرة في القانون الجنائي الدولي ديالا شحادة.

لا تؤدي النزاعات المسلحة فقط إلى أزمات إنسانية شديدة، بل تسبب أيضاً أضراراً بيئية تجعل الأرض غير صالحة للسكن لعقود. لا شك في أن إسرائيل تستخدم البيئة في غزة كسلاح حرب. وتُعتبر الاعتداءات الإسرائيلية على مرافق المياه والصرف الصحي جريمة بيئية. 

وسط الصراع المستمر والاستهداف المتعمد للبنية التحتية الحيوية للمياه، من الضروري تأكيد الحاجة الملحة الى المساءلة وحماية البيئة خلال النزاعات المسلّحة.

نجيب جورج عوض - باحث سوري | 21.03.2025

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.
07.08.2024
زمن القراءة: 11 minutes

يبرز أثر الصراع الذي بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن تدمير مصادر المياه والبنية التحتية ليس مجرد أزمة إنسانية بل هو أيضاً فعل متعمّد ضد البيئة هدفه تدمير ما تبقى من مقومات الحياة.

“مش قدرتي اشتري مياه حلوة، فش مصاري اشتري مياه حلوة”، يقول حاتم فروانة لـ”درج”. في الشمس الحارة، يمشي “مجبور”، على حد تعبيره، مسافة كيلومترين للحصول على المياه مجانياً. “مياه الشرب بـ 4 شيكلات ( 1.11 دولار أميركي) الغالون، مش ملاحق”، يضيف السبعيني وهو يفرغ غالون مياه في الخزان. 

بالنسبة الى كثر من السكان في غزة، أصبح شرب الماء من البحر ملاذاً يائساً لكنه الخيار الأخير. تسبّب الصراع الحالي في “ظلم بيئي”، إذ إن 6 في المئة فقط من سكان غزة يحصلون على مياه شرب نظيفة. 

انخفض مقدار الحصول على المياه بنسبة 95 في المئة بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وأصبحت رحلة البحث عن قطرة مياه “سياسة تجويع وعطش جماعي تدخل ضمن إطار الإبادة الجماعية”، وفق ما يقول أحمد النجار، أكاديمي وباحث في القانون الجنائي في جامعة الأزهر. فمن الاستحمام في البحر الأبيض المتوسط على بُعد خطوات من دير البلح إلى المشي لأكثر من كيلومترين وسط المياه الآسنة والنفايات من أجل كوب من الماء، تعد معاناة الحصول على مياه نظيفة واقعاً قاسياً في غزة. “نريد أن نشرب فلا نسأل ما إذا كانت المياه نظيفة وإن كانت تخضع للفحوصات كما كنا نفعل قبل الحرب”، يقول النجار لـ “درج”.

تقليل عدد مرات الاستحمام، وإعادة تدوير المياه وتخزينها… استراتيجيات ضرورية لضمان البقاء. “نخزن المياه في الطناجر والغالونات”، قالت مها البحيصلي لـ “درج”. تعيش البحيصلي في دير البلح، وسط قطاع غزة، وكانت تدفع قبل الحرب 15 شيكلاً (4.12 دولار أميركي) تكلفة 500 لتر من المياه. “ولكن الآن تكلفتها 90 شيكلاً (24.71 دولار أميركي) وجرة غاز لرفعها إلى السطح”، أضافت. 

تختلف تكلفة جرة الغاز بوزن 12 كيلوغراماً بناءً على مدى سرعة الحاجة إليها. “إذا كنت تحتاجها على الفور، فإن تكلفتها تتراوح بين 200 إلى 290 دولاراً في السوق السوداء. بدلاً من ذلك، إذا كنت تستطيع الانتظار شهرين، يمكنك شراؤها مقابل 25 دولاراً فقط”، يوضح النجار. 

المياه حق من حقوق الإنسان، وهي ضرورية لضمان حقوق أخرى، بما في ذلك الحق في الغذاء والحق في الحياة. وعلى الرغم من انهيار اتفاقيات أوسلو الأولى والثانية – وهي سلسلة من الاتفاقيات التي تناولت الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني- إلا أنها تضمنت بنوداً تهدف إلى ضمان التعاون بشأن قضايا المياه وحقوق كلَي الطرفين. ومع ذلك، يواجه سكان غزة انتهاكات لحقهم في المياه منذ ما يقارب الثلاثين عاماً. وقبل الصراع الحالي، كان معظم الفلسطينيين في غزة يحصلون على 82.7 لتر فقط من الماء يومياً، وهو أقل من الحد الأدنى الموصى به من منظمة الصحة العالمية البالغ 100 لتر يومياً.

ويبرز أثر الصراع الذي بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن تدمير مصادر المياه والبنية التحتية ليس مجرد أزمة إنسانية بل هو أيضاً فعل متعمّد ضد البيئة هدفه تدمير ما تبقى من مقومات الحياة. إذ تسبّبت الأضرار في البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء والوقود، ومنع طواقم البلديات من إجراء الصيانة الروتينية، أو عدم توافر قطع الغيار لإصلاح الشبكات، في عرقلة إمدادات المياه. وهذا خلق بيئة تسهّل تفشّي الأمراض والأوبئة، ما قد يجعل غزة غير صالحة للسكن لعقود.

التهجير القسري والحصول على المياه

“حتى عندما تتمكن البلدية من ضخ المياه، فإن الكثير من المواطنين لا يستفيدون منها بسبب أنابيب تالفة أو غير موجودة. وأُجبر آخرون على ترك منازلهم للعيش في خيم بلاستيكية، حيث لا توجد بنية تحتية لتوفير المياه”، يقول النجار.

ترك التهجير المتكرر للسكان منذ اعتداءات 7 تشرين الأول بالكاد ما يكفي لهم من الضروريات للبقاء. وتضرّرت 360,000 وحدة سكنية في غزة. وهُجّر الغزاويون قسرياً بحثاً عن المياه كما فعل الطبيب ياسر أبو سلمية الذي سكن في مزرعة أبقار في خان يونس وفقاً لما قاله لـ “درج”. 

وبفعل الدعوات الإسرائيلية الى السكان للنزوح إلى وسط القطاع وجنوبه، تواجه المناطق المزدحمة تحديات في الوصول إلى المياه بسبب زيادة الطلب والبنية التحتية المحدودة. كذلك، تواجه حالياً مدينة دير البلح، التي يبلغ عدد سكانها حوالى 700,000 نسمة من السكان والنازحين، تحديات صحية وإنسانية خطيرة. فقد توقفت فيها جميع مصادر المياه بما في ذلك 19 بئراً وخزان مياه بسبب نقص الوقود الحاد. 

في عدد من مناطق قطاع غزة، تصل المياه من البلديات كل أسبوع أو عشرة أيام إلى المنازل. ويعتمد السكان على المياه المحلاة المنقولة بالشاحنات للشرب والطهي، ما يفرض أعباء مالية ثقيلة على الأسر الفقيرة، إذ تصل الأسعار إلى 35 ضعف سعر المياه البلدية، بحسب خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر. ومع بداية النزاع، أصبح الموزعون الذين يعملون بشكل خاص المصدر الرئيسي للمياه في غزة، حيث يقدمون نحو 3300 متر مكعب يومياً من المياه للسكان. 

باستخدام الحمير والعربات، ينقل الموزعون المياه من الآبار المحلية الى السكان. وتتراوح أسعار خزانات المياه المنقولة على العربات بين 70 إلى 100 شيكل (25 إلى 30 دولاراً أميركياً). و”يواجه من لديهم القدرة على شراء خزانات المياه تحديات إضافية، إذ يجب عليهم نقلها يدوياً إلى الأسطح بسبب نقص الكهرباء اللازمة لعمليات الضخ”، قال أحمد النجار لـ “درج”.

المصدر: مواطن من غزة لـ “درج”

وسمح بعض السكان لجيرانهم بالحصول على المياه من الآبار الخاصة، سواء مجاناً أو مقابل رسوم. على سبيل المثال، قال علي أبو جياب لـ “درج”، إنه يدفع حالياً 1000 شيكل (276.65 دولار أميركي) شهرياً للحصول على المياه من بئر خاص يقع في أرض جيرانه. ومع ذلك، فإن مواطنين كثراً لا يمكنهم تحمّل الأسعار المرتفعة ويعتمدون على شاحنات مياه متنقلة تقدمها منظمات غير حكومية إقليمية ومحلية. ويتعين عليهم الانتظار في طوابير لساعات لملء 3-4 لترات من الماء، وفقاً لأحمد النجار. 

“تم استصلاح 11 بئر مياه وإنشاء 110 نقاط ثابتة من الصنابير إضافة إلى شبكات مياه مؤقتة في الشوارع لتزويد مراكز الإيواء والنازحين”، قال صائب لقان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس لـ “درج”. وأضاف أن البلدية نجحت في تشغيل محطة تحلية من خلال دعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

مياه الصرف الصحي للشرب

مع الصراع الحالي وحرمان المواطنين من كوب مياه، يقول أحد المواطنين في مخيم جباليا لـ “إندبندنت عربية“: “لقد كنت أبحث عن الماء لمدة ست ساعات، حتى أنني أفكر في الشرب من المجاري، لكنني لا أستطيع العثور على أي شيء”. ويقول مواطن آخر: “نحن ننتظر أن يرحمنا أحد المانحين ويجلب لنا الماء”. 

على مدى سنوات، اعتمدت غزة بشكل كبير على المياه الجوفية للشرب والزراعة والاستخدام المنزلي. إلا أن “النمو السكاني السريع والاستغلال المستمر للمياه الجوفية أدى إلى انخفاض مستوياتها بأكثر من 11 متراً في مناطق معينة”، يقول خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر لـ “درج”. ويضيف أن “هذا سَهَّل تسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية بعمق يتجاوز 3 كيلومترات في بعض المواقع، مما زاد من مستويات الملوحة وتركيزات المواد الكيميائية مثل البورون في المياه الجوفية بما يتجاوز المعايير المقبولة دولياً”.

وبفعل تسرّب مياه البحر إلى الآبار، تحتاج 97 في المئة من المياه في غزة إلى التحلية لجعلها صالحة للشرب. تقول الهيئة الفلسطينية للإحصاء المركزي إن كمية مياه الشرب المحلاة في قطاع غزة كانت 7.5 مليون م3 في عام 2021. في أكبر سجن مفتوح في العالم، كانت هناك ثلاث محطات تحلية مياه رئيسية تعمل قبل 7 تشرين الأول. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن اثنتين فقط من محطات التحلية تعملان حالياً بشكل متقطع، بسبب استهدافها بعمليات عسكرية. 

مع استمرار الهجمات على البنية التحتية للمياه، يتعين على المواطنين الاعتماد على مصادر مياه أقل، حتى وإن كانت ملوّثة، كما أشار أحمد النجار لـ “درج”. ولفت برنامج الأمم المتحدة للبيئة الى أنه نتيجة الأضرار التي لحقت بإحدى محطات معالجة مياه الصرف الصحي في عام 2009، تلوثت المياه الجوفية بأكثر من 100,000 م³ من مياه الصرف الصحي وبالمعادن الثقيلة الناتجة من الحمأة.

 من المحتمل أن تتركز مياه الصرف الصحي غير المعالجة حالياً في بعض مناطق جنوب غزة بسبب الكثافة السكانية، بخاصة في ظل النزوح القسري المستمر، ما سيساهم أيضاً في تلوث المياه الجوفية. 

المصدر: بلدية خان يونس لـ “درج” تجمع مياه الصرف الصحي في شوارع مدينة خان يونس نتيجة تدمير خطوط الصرف الصحي

قبل الحرب، تم استثمار مبالغ كبيرة لبناء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي بهدف  تحسين ظروف الصحة العامة والبيئة. ومع ذلك، تقول اليونيسف إنه لا توجد محطات معالجة مياه صرف صحي تعمل في المنطقة حالياً. وقد أكد تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، أنه من بين 6 محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي، 4 منها متضررة أو مدمرة. وخرجت المحطتان الباقيتان عن العمل بسبب نقص الوقود أو الإمدادات. 

يتم ضخ 130,000 م³ من مياه الصرف الصحي في غزة إلى البحر الأبيض المتوسط يومياً. يقول صائب لقان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس لـ “درج” إن البلدية “ضخت مياه الصرف الصحي للبحر، وذلك بسبب عدم توافر السولار اللازم لأعمال المعالجة الأولية لمياه الصرف الصحي”.  كان تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة في غزة سبباً خطيراً لتلوث المياه الجوفية والبحرية لسنوات عدة.

صورة توضح ضخ مياه الصرف الصحي إلى بحر خان يونس من دون معالجة

المصدر: بلدية خان يونس لـ “درج”

في كانون الثاني/ يناير 2024، أعلنت إسرائيل عبر منصة “إكس” أنها ضخت كميات كبيرة من المياه المالحة في أنفاق “حماس”. هذا يزيد من مخاطر تلوث المياه الجوفية بفعل تلوث مياه البحر بمياه الصرف الصحي. وقالت الأونروا إن مرافق البنية التحتية للصرف الصحي تعرضت لضرر شديد، ما أجبر آلاف العائلات على الاعتماد على مياه البحر للغسيل والتنظيف وحتى الشرب. وهذا يعني أن المواطنين يشربون بشكل غير مباشر من مياه الصرف الصحي غير المعالجة.

المصدر: مواطن من غزة لـ “درج”

 شكلت الدعوات المستمرة للنزوح في غزة ضغطاً كبيراً على شبكة الصرف الصحي، ما أدى إلى فيضانها في الشوارع، ما يشكل تهديداً كبيراً للخزان الجوفي. وأصبحت غزة بيئة حاضنة للأمراض والأوبئة في ظل الاعتماد على الآبار الخاصة وشاحنات نقل المياه واحتمال تلوثها. 

وهناك خطر بيئي آخر ناتج من الهجمات، وهو توقف خدمات إدارة النفايات الصلبة. فإن عصارة النفايات الناتجة من النفايات غير المعالجة، التي تراكمت في شوارع غزة على مدار التسعة أشهر الماضية، تشكل خطراً كبيراً على المياه الجوفية. ويضيف مدير الإعلام في بلدية خان يونس أن “هناك مشكلة كبيرة في التخلص من النفايات الطبية الخطرة، ومشكلة أكبر تكمن في تلوث الخزان الجوفي نتيجة عدم تصريف مخلفات الذبح بشكل صحي وسليم بعد تدمير مسلخ بلدية خان يونس، فهو الوحيد على مستوى المحافظات الجنوبية في قطاع غزة”.

تلوث محتمل للمياه الجوفية

ألقت إسرائيل ألفي رطل ( 970 كلغ) من المتفجرات على قطاع غزة بحلول تموز/ يوليو 2024. وكانت “الأورو- متوسطية للحقوق” أشارت إلى أن وزن القنابل النووية التي استخدمتها إسرائيل تجاوز وزن القنابل التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في هجماتها على هيروشيما وناكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ إن إسرائيل أسقطت أكثر من 25,000 طن من المتفجرات على قطاع غزة مع نهاية الشهر الأول من الاعتداءات، وفقاً للمنظمة.

يقترح خلدون الحن، المدير السابق لمعهد المياه والبيئة في جامعة الأزهر في حديثه لـ “درج”، دراسة ما إذا كان الاستخدام الواسع للقنابل والمتفجرات أثر على المياه الجوفية. “هناك قلق من أن المياه الجوفية تلوثت من بقايا المتفجرات والمعادن الدقيقة.” ويمكن أن تنتقل المعادن الثقيلة ببطء في التربة، ما يؤدي إلى تدهور جودة المياه الجوفية في النهاية. وبالعودة إلى العام 2008، أي مع نهاية عملية “الرصاص المصبوب”، أظهرت عينات من آبار المياه البلدية أنها تحتوي على آثار من الحديد والكروم والزنك، ولكن بتركيزات أقل من معايير منظمة الصحة العالمية.

 هجمات متعمّدة على البنية التحتية للمياه

مع النزاع الأخير، يحصل كل مواطن في غزة على نحو 5 لترات من المياه يومياً، بما في ذلك مياه الشرب والطهي والاحتياجات اليومية، وفقاً للسلطات المحلية. تذكر اليونيسف بأن الحد الأدنى من المياه المطلوبة في حالات الطوارئ هو 15 لتراً، بما في ذلك الماء للشرب والغسيل والطهي. قبل الحرب، كانت 97 في المئة من الأسر متصلة بخدمات المياه البلدية. ومع ذلك، كانت هذه الخدمات تعاني من تفاوتات بسبب ضعف عمليات الضخ نتيجة التسريبات أو الربط غير القانوني على شبكات المياه، وفقاً للمصدر عينه. 

لا تتوافر قائمة شاملة بالأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه، إذ إن الأرقام قابلة للتغيير أو لأن السلطات المحلية تجد صعوبة في الوصول إلى المواقع للإبلاغ عن الأضرار. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن 10-12 في المئة فقط من المياه المتاحة قبل الحرب متوافرة حالياً. “هناك حالة عطش شديدة بين المواطنين والنازحين في مراكز ومخيمات الإيواء”، يقول لقان لـ “درج”.

حاول “درج” التواصل مع أكبر 5 بلديات من أصل 20 تقع في غزة (غزة، جباليا، دير البلح، رفح، خان يونس) لكنه لم يتلقَّ رداً إلا من بلدية خان يونس حتى تاريخ النشر. ووفقاً لمعلومات نشرتها بلدية غزة، تعود أزمة المياه المستمرة في أجزاء كبيرة من المدينة إلى الأضرار التي لحقت بخطوط المياه التابعة لشركة “ميكروت” – الشركة الوطنية للمياه في إسرائيل. وكانت خطوط ميكروت توفر9 في المئة من إمدادات المياه في غزة خلال أوقات السلم. أما في تموز 2024، فقد أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأن 1 من كل 3 خطوط مياه “ميكروت” قادمة من إسرائيل إلى غزة يعمل جزئياً. 

وقد دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلية نحو 40 بئراً وتعرضت 16 بئراً آخر لأضرار جزئية، بالإضافة إلى 8 خزانات ومضخات كبيرة، وفقًا لبلدية غزة. علاوة على ذلك، دُمر نحو 70,000 متر من أنابيب المياه الرئيسية والفرعية، وفقاً للمصدر عينه. ومن بين 603 منشآت مائية في غزة تم تحليلها من الـ “بي بي سي“، تبين أن 53 في المئة منها تعرضت لأضرار أو لدمار. 

جرائم بيئية

لم يتم تعريف “الجرائم البيئية” رسمياً بموجب القانون الدولي. لكن تشرح المحامية السابقة في الجنائية الدولية ديالا شحادة لـ “درج”، أن نظام روما الأساسي “لحظ الجرائم البيئية في إطار تعريفه جرائم الحرب، في المادة 8، التي ‘تعتبر شن هجوم، مع العلم أن هذا الهجوم سيسفر عن(…) إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية…’ كجرائم حرب”. ويربط المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي وخبراء آخرون في الأمم المتحدة حرمان المياه بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

وتعد حماية البيئة والبنية التحتية للمياه التزاماً لإسرائيل بموجب القانون الدولي. وفيما امتنعت عن توقيع نظام روما، وقعت فلسطين عليه رسمياً في بداية عام 2015. “هذا يؤسس لولاية المحكمة على الجرائم المرتكبة في فلسطين منذ 13 حزيران/ يونيو 2014 (وفقاً لطلب الحكومة الفلسطينية)، مع إطار زمني مفتوح منذ ذلك التاريخ”، تشرح شحادة.

وبغض النظر عن نظام روما، فإن إسرائيل ملزمة بحماية البنية التحتية للمياه بموجب القانون الدولي العرفي، وهو مجموعة من القواعد التي تنبع من الممارسات العامة. “الهجوم أو التدمير أو الإزالة أو جعلها غير قابلة للحياة للسكان المدنيين”، مثل “مياه الشرب والمنشآت والإمدادات”، محظور بموجب قواعد القانون الدولي العرفي. كما يُحظر استخدام أساليب يمكن أن تسبب أضراراً واسعة النطاق وشديدة للبيئة الطبيعية. علاوة على ذلك، ينص البروتوكول الإضافي لعام 1997 لاتفاقية جنيف، الذي صدقت عليه فلسطين في 2018، على “حماية الأشياء الضرورية لبقاء السكان المدنيين”، بما في ذلك “منشآت مياه الشرب وإمداداتها وأعمال الري”. كما أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذه القواعد في قراريه 2417/2018 و 2573/2021.

يعتبر الضرر المتعمد للبنية التحتية للمياه ومحطات معالجة مياه الصرف انتهاكاً للقوانين البيئية الدولية. ويُشكل تلوث المياه الجوفية الساحلية تهديداً كبيراً لصحة النظم البحرية والبيئية. وتعد إسرائيل واحدة من الدول التي صدقت على اتفاقية برشلونة، التي تهدف إلى حماية البحر الأبيض المتوسط من التلوث. وأوضحت المحامية ديالا شحادة لـ “درج” أن “أي أفعال تمس بسلامة مياه المتوسط تشكل انتهاكاً لهذه الاتفاقية”.

علاوة على ذلك، “يمثل الاعتداء على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي جرائم دولية من نوع جرائم الحرب، ولعلها تدخل في إطار جرائم الإبادة الجماعية إذا ثبت أنها مرتكبة بنية إضعاف الشعب الفلسطيني في غزة وإلحاق الأذى به بهدف اضمحلاله”، وفقاً للخبيرة في القانون الجنائي الدولي ديالا شحادة.

لا تؤدي النزاعات المسلحة فقط إلى أزمات إنسانية شديدة، بل تسبب أيضاً أضراراً بيئية تجعل الأرض غير صالحة للسكن لعقود. لا شك في أن إسرائيل تستخدم البيئة في غزة كسلاح حرب. وتُعتبر الاعتداءات الإسرائيلية على مرافق المياه والصرف الصحي جريمة بيئية. 

وسط الصراع المستمر والاستهداف المتعمد للبنية التحتية الحيوية للمياه، من الضروري تأكيد الحاجة الملحة الى المساءلة وحماية البيئة خلال النزاعات المسلّحة.