fbpx

استدعاء صحفيين والتضييق على المحامين: السلطة تنقض على الحريات في لبنان 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من تكميم الأفواه المعارضة، إلى المحاولات المتكررة لتطويع القضاء بالكامل، إلى تغليب المنطق الأبوي في التعاطي مع قضايا العنف الأسري، تؤكد السلطة الحاكمة بكل أدواتها، أن جنونها بلغ أوجه، وعوضاً عن الإقرار بفشلها والعمل على انتشال البلاد من الانهيار غير المسبوق، قررت القضاء على الأصوات التي تفضح فشلها وتضعها أمام مسؤولياتها تجاه الرأي العام والعودة إلى زمن الوصاية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل هي مصادفة أنه فيما تنشط منصات إعلامية وحقوقية في كشف ملفات متعلقة بالفساد، والجرائم الأمنية والاقتصادية والمالية المرتكبة بحق اللبنانيين، ترتفع في المقابل وتيرة الملاحقات الأمنية والقضائية بحق صحافيين وناشطين؟

السؤال مشروع في ظل تصاعد سعي السلطة الى قمع الأصوات التي تكشف للرأي العام حقيقة ما يُرتكب في بلد يعيش يوميات انهيار اقتصادي وفساد بات يهدد بشكل عميق مستقبل أجيال بأكملها في لبنان.

“نموذج فاقع ومؤسف عن قمع حرية التعبير المتواصل في لبنان دون مبرر”، كتب المحامي نزار صاغية في تغريدة على “تويتر” كاشفاً فيها أن نقيب المحامين (ناضر كسبار)، أو رقيب المحامين كما أسماه، تدخل لإلغاء مشاركته في أحد البرامج في إذاعة “صوت الشعب” بحجة أنه لم يستأذنه لإجرائها.

الحادثة حصلت بعد أيام من استدعاء صاغية، وهو المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية”، إلى جلسة استماع من مجلس النقابة، دون تحديد السبب.

في حديث لـ”درج”، يقول صاغية: “ما حصل دليل واضح على أن نقيب المحامين تحول إلى رقيب عليهم، وبات يمارس ضغوطاً على الإعلام ليفرض دوره الجديد، ودليل أيضاً على الهرمية التي يلجأ لاعتمادها لضبط ممارسة المهنة وقمع حرية الرأي والتعبير”.

ويشير صاغية إلى أن إدارة الإذاعة اتصلت به، وأكدت تضامنها مع قضية المحامين، وعرضت لتصحيح الخطأ الناجم عن تدخل النقيب عبر منحه مساحة للحديث عن قضية قمع المحامين.

مؤخراً، تشهد الصحافة المستقلة وكذلك الساحة الحقوقية والأكاديمية، حملة ممنهجة تقودها السلطة لقمع آخر ما تبقى من حريات في البلاد. الحملة بدأت مع استدعاء المدير التنفيذي لمنصة “ميغافون” جان قصير بعد ادعاء النائب العام التمييزي غسّان عويدات على المنصة بعد ورود اسمه في منشور بعنوان “لبنان يحكمه فارون من العدالة”، ورئيسة تحرير موقع “مصدر عام” لارا بيطار من “مصدر عام” على خلفية تحقيق في شكوى مقدّمة من القوّات اللبنانية بسبب تناول قضية النفايات السامة. مخالفات بالجملة تشوب الاستدعائين من حيث طريقة التبليغ والجهات غير المخولة بالتحقيق مع صحفيين.

“نحن منلاحقكم مش أنتو بتلاحقونا” و “فارون من العدالة يلاحقون الصحافيين”، شعارات رُفعت أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في وقفة تضامنية مع بيطار. تُترجم الشعارات ردود الأفعال الغاضبة والرافضة لانتهاكات بالجملة تتعرض لها حرية التعبير والصحافة في لبنان.

وعلى المنوال القمعي نفسه، تلقت الزميلة الصحفية في موقع “درج” هلا نصرالدين انذاراً من الوزير السابق ورئيس مجلس إدارة بنك الموارد مروان خيرالدين، على خلفية تحقيق نُشر في “درج” في سياق مشروع وثائق “باندورا” الاستقصائي الذي كشف تورطه في شبهات فساد.

حصل كل ذلك في إشارة واضحة لسعي سلطوي حثيث لكم الأفواه التي لا تزال تواجه الزمرة الحاكمة التي تتضافر جهود كل أقطابها لتطويع القضاء بالكامل لضمان عرقلة مسار العدالة في عدد من الملفات الأساسية ومنع محاسبة المتورطين فيها، وأبرزها التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020.

“نموذج فاقع ومؤسف عن قمع حرية التعبير المتواصل في لبنان دون مبرر”

نقيب المحامين يكمم الأفواه 

“المسألة ليست شخصية بل مبدئية. إجراءات النقابة بتقييد حريات المحامين لا تستهدفني فقط، لكن تستهدف مهنة المحاماة وأجيالاً من المحامين يراد تدجينهم بهدف إبقاء المجتمع رهينة ظلم نظام لا يُعاقب”، يقول صاغية تعليقاً على استدعائه الذي جاء بعد قرار مجلس نقابة المحامين في الثالث من شهر آذار/ مارس الماضي، برئاسة النقيب ناضر كسبار تعديل بعض مواد نظام آداب المهنة ومناقبيتها وارتباطها بوسائل الإعلام، وذلك للسيطرة على “الفوضى السائدة” كما أسماها كسبار. 

استدعاء صاغية سبقه استدعاء المحامي ميشال نعمة من قبل مفوض قصر العدل وتوجيه الأسئلة له على خلفية رفضه للتعديلات ومطالبة أعضاء المجلس بتعديلها وإلا الاستقالة.

يقضي القرار بمنع المحامين من الظهور الإعلامي أو المشاركة في مقابلة أو ندوة أو الرد على أسئلة توجه من المحاور أو الجمهور في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الالكترونية، وإصدار مجلة أو تنظيم صفحة إلكترونية أو على مواقع التواصل الاجتماعي دون الاستحصال مسبقاً على إذن من النقيب، وأكد المجلس على وجوب استئذان نقيب المحامين أيضاً للتداول في الملفات القضائية الكبرى، على أن يمنع تداول المحامين بالقضايا التي لا تعتبر كذلك.

احتجاجاً على القرار، قال “ائتلاف استقلال القضاء” إن “ممارسة هذه الرقابة تتم بصورة استنسابية بدليل أنّ المجلس لم يضع أي آليات أو معايير أو مهل لها، إنّما ترك للنقيب سلطة مطلقة في تحديد شروطها في غياب أي رقابة قضائية فعليّة عليه”، وحذّر من أنّ “من شأن هذه القرارات أن تحوّل هذه الحرية إلى امتياز لمحامين مُرضى عليهم وأن تمنح في المقابل سلاحًا للنقيب لإسكات المحامين الذين يعبّرون عن وجهات نظر وآراء يودّ حجبها أو لا يحبّذ نشرها ومنها أي رأي ينتقد النقابة أو النقيب نفسه”، أي أن حرية المحامين تصبح برمّتها وقفًا على ما يحبّه النقيب الرقيب أو يكرهه، أو أيضًا (وهذا هو الأخطر) وقفًا على أيّ قوّة تنجح في إحكام نفوذها عليه.

وشبه الائتلاف قرار النقابة بانقلاب عويدات على مساعي المحقق العدلي طارق بيطار لإعادة تحقيق المرفأ إلى السكة بعد تجميد سنة وشهر، ولانقلاب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على مبدأ فصل السلطات في أول مسعى قضائي لرفع السرية المصرفية. 

طعون قانونية واعتراضات واسعة 

رفضاً لقرار مجلس النقابة الذي تسبب بموجة اعتراض واسعة، تقدّم 15 محاميًا بطعون بالقرار أمام محكمة الاستئناف المدني الناظرة في القضايا النقابيّة. تقول المحامية ديالا شحادة، وهي أحد المحامين المتقدمين بالطعن، لـ”درج”: “التعديلات التي أجراها مجلس النقابة غير دستورية، فهي تنتهك الحق الدستوري في التعبير عن الرأي، وهو حق مكفول أيضاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.

تعتبر شحادة أن النقابة تتعامل النقابة مع المحامين بأسلوب أبوي، وتفرض عليهم رقابة مسبقة، وكأن النقابة تشكك في مناقبية المحامين/ات وسلوكياتهم وتوحي بأنهم يحتاجون لإذن مسبق أو صك براءة من النقيب يؤكد مناقبيتهم قبل الظهور الإعلامي.

“كان الأجدى أن يفعل مجلس النقابة آلية محاسبة من يخالف آداب المهنة من المحامين، بدلاً من فرض رقابة مسبقة على جميع المحامين”، تقول شحادة. “الفوضى التي تحدث عنها النقيب سببها غياب الملاحقات المسلكية الجدية، فنرى مثلاً المحامي محمد زعيتر، وهو نجل الوزير السابق غازي زعيتر يشتم نقيب المحامين السابق ملحم خلف على “تويتر” دون أي محاسبة”.

ونظراً لكون مجلس النقابة يتألف من أعضاء منتخبين يمثلون الأحزاب السياسية، ويمكن لهؤلاء أن يستفيدوا من الغطاء الحزبي المؤمن لهم للتهرب من أي محاسبة مسلكية، أو للحصول بسهولة على أذونات مسبقة للظهور الإعلامي على حساب المحامين المستقلين الذين سيتضررون بشكل أكبر من قرارات مماثلة.

وتؤكد شحادة أن خطورة القرار تكمن بأنه جاء في وقت تنشط فيه وسائل الإعلام المستقلة والحقوقيين لفضح الملفات المتعلقة بالفساد، والجرائم الأمنية والاقتصادية والمالية المرتكبة بحق الشعب اللبناني، لذلك لا يمكن أن يُدرج القرار إلّا في إطار السعي لقمع هذا النشاط.

بحسب المفكرة القانونية، يفسّر المعترضون القرار على أنه محاولة لتقييد دور المحامين الناشطين في القضايا الاجتماعيّة، فخلال السنوات الأخيرة، دور المحامين في تلك القضايا من خلال دفاعهم عن المتظاهرين الموقوفين تعسفياً على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات الشعبية، ولجأ المحامون إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتقريب القانون والحقوق إلى المجتمع في تناولهم لقضايا حساسة لا تزال تحاول السلطة السياسية اغفالها، كالتحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت والأزمات الاقتصادية والمالية، وحق المودعين بالادعاء ضدّ المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لاسترجاع ودائعهم المحتجزة منذ العام 2019.

يؤكد دور المحامين في هذا الإطار، أنه لا يمكن استرجاع الحقوق المسلوبة إلا من خلال “سلسلة مترابطة لا يُمكن هدم أي من أركانها تتمثل في الإعلام والمحامين والناس، فمن الصعب على أي صحافي أن يتطرّق إلى موضوع يجمع بين الشأن العام والقضاء والقانون من دون الاعتماد على المُحامين والمحاميات بشكل كبير لإنتاج المعلومة الدقيقة”.

طعن آخر بقرار النقابة قدمه صاغية برّره بأنّه أتى “من باب الواجب في الدفاع عن حقوق الدفاع ومصالح المجتمع في أحلك الظروف التي يمّر بها”، ولفت إلى أن “دور المحامين أسهم في تعزيز مشروعية فئات واسعة من القوى المتضررة في مواجهة نظام يتجه إلى طمس القانون والعدالة ومبدأ فصل السلطات”. 

وأشار إلى أنّ “التعديل الذي أجراه مجلس النقابة نسي هذا الدور الذي يقوم به المحامي أو تخلى عنه، فبدلًا من محاسبة من ارتكب المخالفات ذهب إلى إلغاء مبدأ الحرية وتجريد المحامين كافة منها في اتجاه فرض وصاية ورقابة عليهم”. 

وبذلك، تتحول الحرية من حرية مضمونة بالدستور والمواثيق الدولية إلى مجرد حرية ممكنة يتولى نقيب المحامين مهمة منحها أو حجبها وفق ما يراه مناسبا بمعزل عن أي ضوابط أو معايير.

تعميم نهج الإفلات من العقاب

نهج قمع حرية التعبير عن الرأي ومواجهة السلطة، وتسهيل الإفلات من العقاب الذي كرسته قرارات النقابة الأخيرة انسحب أيضاً على موقف النقيب من قضايا التعنيف الأسري، فخلال ندوة نظمتها لجنة تحديث الأحوال الشخصية في نقابة المحامين، شكك كسبار في شهادات الناجيات من العنف متبنياً الخطاب الأبوي الذي يكذب الضحية ويلومها ويحمي المعتدي، “تأتينا الشكاوى بأن الأب تحرش بابنته. كل ذلك بقصد الأذى والاستفادة من هذه الادعاءات الكاذبة، لتنال المرأة مكاسب ومبالغ لم تكن لتنالها لو اكتفت بعرض وقائع علاقة عادية مع زوجها”، يقول كسبار. 

ويتسائل: “ماذا يمنع أحد الأفراد من التسلبط على الآخر عن طريق الادعاء بأنه تعرض للضرب أو للركل أو للدفش؟”

تزامناً مع هذا الموقف الصادر عن أحد أبرز المسؤولين في الجسم الحقوقي الذي من المفترض أن تلجأ إليه الضحايا لانتزاع حقوقها ومحاسبة منتهكيها، شهد لبنان جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها زينب زعيتر بعشر رصاصات أطلقها نحوها زوجها أمام أطفالها، وبدلاً من الاقتصاص من القاتل، شاهدنا حفلة مباركة جماعية ما كانت لتكون ممكنة لولا تعميم ثقافة الإفلات من العقاب.

تقول المحامية ليال صقر، وهي المديرة التنفيذية لمنظمة “نواة للمبادرات القانونية”، لـ”درج”: “نستغرب كيف لجأ النقيب لتعميم استثناء يتم فيه أحياناً التعسف في استخدام بعض القوانين، لتناول موضوع حساس وخطير كالتعنيف الأسري. قوانين حماية النساء والأفراد من التعنيف الأسري قوانين ضرورية لا يجب تهديدها في بلد ترتفع فيه معدلات العنف والجرائم بشكل مطرد. حماية النساء من العنف يجب أن تكون في أساس الخطاب الحقوقي”. 

الحريات: المعركة الأخيرة

رغم المشهد القاتم، اللافت كان التضامن الواسع مع الصحفيين المستدعين من قبل صحفيين ونواب مستقلين، ومنظمات حقوقية وتنظيم وقفات احتجاجية بدعوة من “تجمع نقابة الصحافة البديلة” لمنع الاستفراد بالصحفيين، ورفض إخضاعهم لتحقيقات أمنية غير قانونية، وفي ذلك تأكيد على أن الحريات هي الحصن الأخير للأصوات المستقلة في لبنان، ولأجلها يجب خوض المعركة الأهم.

“تحالف حرية الرأي والتعبير” قال في بيان، إنه يتخوف من المنحى الذي تتخذه نقابة المحامين مؤخراً، ومن الاستدعاءات التي طالت الصحافيين/ات، كونها تضع مزيداً من القيود على حرية التعبير والإعلام، وسط استخدام متزايد لمواد القدح والذم المدرجة في قانون العقوبات بما لا يتماشى مع المعايير الدولية، وطالبت السلطة باحترام حريات الصحافة والمحاماة.

وكان تدخل وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري لدى عويدات ومطالبته بسحب الاستدعاء بحق قصير، دليل واضح على قدرة الضغط وحملات التضامن على ردع المنظومة.

من تكميم الأفواه المعارضة، إلى المحاولات المتكررة لتطويع القضاء بالكامل، إلى تغليب المنطق الأبوي في التعاطي مع قضايا العنف الأسري، تؤكد السلطة الحاكمة بكل أدواتها، أن جنونها بلغ أوجه، وعوضاً عن الإقرار بفشلها والعمل على انتشال البلاد من الانهيار غير المسبوق، قررت القضاء على الأصوات التي تفضح فشلها وتضعها أمام مسؤولياتها تجاه الرأي العام والعودة إلى زمن الوصاية، في مسار خطير يقود البلاد نحو القمع والعسكرة الشاملين.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.

من تكميم الأفواه المعارضة، إلى المحاولات المتكررة لتطويع القضاء بالكامل، إلى تغليب المنطق الأبوي في التعاطي مع قضايا العنف الأسري، تؤكد السلطة الحاكمة بكل أدواتها، أن جنونها بلغ أوجه، وعوضاً عن الإقرار بفشلها والعمل على انتشال البلاد من الانهيار غير المسبوق، قررت القضاء على الأصوات التي تفضح فشلها وتضعها أمام مسؤولياتها تجاه الرأي العام والعودة إلى زمن الوصاية.

هل هي مصادفة أنه فيما تنشط منصات إعلامية وحقوقية في كشف ملفات متعلقة بالفساد، والجرائم الأمنية والاقتصادية والمالية المرتكبة بحق اللبنانيين، ترتفع في المقابل وتيرة الملاحقات الأمنية والقضائية بحق صحافيين وناشطين؟

السؤال مشروع في ظل تصاعد سعي السلطة الى قمع الأصوات التي تكشف للرأي العام حقيقة ما يُرتكب في بلد يعيش يوميات انهيار اقتصادي وفساد بات يهدد بشكل عميق مستقبل أجيال بأكملها في لبنان.

“نموذج فاقع ومؤسف عن قمع حرية التعبير المتواصل في لبنان دون مبرر”، كتب المحامي نزار صاغية في تغريدة على “تويتر” كاشفاً فيها أن نقيب المحامين (ناضر كسبار)، أو رقيب المحامين كما أسماه، تدخل لإلغاء مشاركته في أحد البرامج في إذاعة “صوت الشعب” بحجة أنه لم يستأذنه لإجرائها.

الحادثة حصلت بعد أيام من استدعاء صاغية، وهو المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية”، إلى جلسة استماع من مجلس النقابة، دون تحديد السبب.

في حديث لـ”درج”، يقول صاغية: “ما حصل دليل واضح على أن نقيب المحامين تحول إلى رقيب عليهم، وبات يمارس ضغوطاً على الإعلام ليفرض دوره الجديد، ودليل أيضاً على الهرمية التي يلجأ لاعتمادها لضبط ممارسة المهنة وقمع حرية الرأي والتعبير”.

ويشير صاغية إلى أن إدارة الإذاعة اتصلت به، وأكدت تضامنها مع قضية المحامين، وعرضت لتصحيح الخطأ الناجم عن تدخل النقيب عبر منحه مساحة للحديث عن قضية قمع المحامين.

مؤخراً، تشهد الصحافة المستقلة وكذلك الساحة الحقوقية والأكاديمية، حملة ممنهجة تقودها السلطة لقمع آخر ما تبقى من حريات في البلاد. الحملة بدأت مع استدعاء المدير التنفيذي لمنصة “ميغافون” جان قصير بعد ادعاء النائب العام التمييزي غسّان عويدات على المنصة بعد ورود اسمه في منشور بعنوان “لبنان يحكمه فارون من العدالة”، ورئيسة تحرير موقع “مصدر عام” لارا بيطار من “مصدر عام” على خلفية تحقيق في شكوى مقدّمة من القوّات اللبنانية بسبب تناول قضية النفايات السامة. مخالفات بالجملة تشوب الاستدعائين من حيث طريقة التبليغ والجهات غير المخولة بالتحقيق مع صحفيين.

“نحن منلاحقكم مش أنتو بتلاحقونا” و “فارون من العدالة يلاحقون الصحافيين”، شعارات رُفعت أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في وقفة تضامنية مع بيطار. تُترجم الشعارات ردود الأفعال الغاضبة والرافضة لانتهاكات بالجملة تتعرض لها حرية التعبير والصحافة في لبنان.

وعلى المنوال القمعي نفسه، تلقت الزميلة الصحفية في موقع “درج” هلا نصرالدين انذاراً من الوزير السابق ورئيس مجلس إدارة بنك الموارد مروان خيرالدين، على خلفية تحقيق نُشر في “درج” في سياق مشروع وثائق “باندورا” الاستقصائي الذي كشف تورطه في شبهات فساد.

حصل كل ذلك في إشارة واضحة لسعي سلطوي حثيث لكم الأفواه التي لا تزال تواجه الزمرة الحاكمة التي تتضافر جهود كل أقطابها لتطويع القضاء بالكامل لضمان عرقلة مسار العدالة في عدد من الملفات الأساسية ومنع محاسبة المتورطين فيها، وأبرزها التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020.

“نموذج فاقع ومؤسف عن قمع حرية التعبير المتواصل في لبنان دون مبرر”

نقيب المحامين يكمم الأفواه 

“المسألة ليست شخصية بل مبدئية. إجراءات النقابة بتقييد حريات المحامين لا تستهدفني فقط، لكن تستهدف مهنة المحاماة وأجيالاً من المحامين يراد تدجينهم بهدف إبقاء المجتمع رهينة ظلم نظام لا يُعاقب”، يقول صاغية تعليقاً على استدعائه الذي جاء بعد قرار مجلس نقابة المحامين في الثالث من شهر آذار/ مارس الماضي، برئاسة النقيب ناضر كسبار تعديل بعض مواد نظام آداب المهنة ومناقبيتها وارتباطها بوسائل الإعلام، وذلك للسيطرة على “الفوضى السائدة” كما أسماها كسبار. 

استدعاء صاغية سبقه استدعاء المحامي ميشال نعمة من قبل مفوض قصر العدل وتوجيه الأسئلة له على خلفية رفضه للتعديلات ومطالبة أعضاء المجلس بتعديلها وإلا الاستقالة.

يقضي القرار بمنع المحامين من الظهور الإعلامي أو المشاركة في مقابلة أو ندوة أو الرد على أسئلة توجه من المحاور أو الجمهور في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الالكترونية، وإصدار مجلة أو تنظيم صفحة إلكترونية أو على مواقع التواصل الاجتماعي دون الاستحصال مسبقاً على إذن من النقيب، وأكد المجلس على وجوب استئذان نقيب المحامين أيضاً للتداول في الملفات القضائية الكبرى، على أن يمنع تداول المحامين بالقضايا التي لا تعتبر كذلك.

احتجاجاً على القرار، قال “ائتلاف استقلال القضاء” إن “ممارسة هذه الرقابة تتم بصورة استنسابية بدليل أنّ المجلس لم يضع أي آليات أو معايير أو مهل لها، إنّما ترك للنقيب سلطة مطلقة في تحديد شروطها في غياب أي رقابة قضائية فعليّة عليه”، وحذّر من أنّ “من شأن هذه القرارات أن تحوّل هذه الحرية إلى امتياز لمحامين مُرضى عليهم وأن تمنح في المقابل سلاحًا للنقيب لإسكات المحامين الذين يعبّرون عن وجهات نظر وآراء يودّ حجبها أو لا يحبّذ نشرها ومنها أي رأي ينتقد النقابة أو النقيب نفسه”، أي أن حرية المحامين تصبح برمّتها وقفًا على ما يحبّه النقيب الرقيب أو يكرهه، أو أيضًا (وهذا هو الأخطر) وقفًا على أيّ قوّة تنجح في إحكام نفوذها عليه.

وشبه الائتلاف قرار النقابة بانقلاب عويدات على مساعي المحقق العدلي طارق بيطار لإعادة تحقيق المرفأ إلى السكة بعد تجميد سنة وشهر، ولانقلاب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على مبدأ فصل السلطات في أول مسعى قضائي لرفع السرية المصرفية. 

طعون قانونية واعتراضات واسعة 

رفضاً لقرار مجلس النقابة الذي تسبب بموجة اعتراض واسعة، تقدّم 15 محاميًا بطعون بالقرار أمام محكمة الاستئناف المدني الناظرة في القضايا النقابيّة. تقول المحامية ديالا شحادة، وهي أحد المحامين المتقدمين بالطعن، لـ”درج”: “التعديلات التي أجراها مجلس النقابة غير دستورية، فهي تنتهك الحق الدستوري في التعبير عن الرأي، وهو حق مكفول أيضاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.

تعتبر شحادة أن النقابة تتعامل النقابة مع المحامين بأسلوب أبوي، وتفرض عليهم رقابة مسبقة، وكأن النقابة تشكك في مناقبية المحامين/ات وسلوكياتهم وتوحي بأنهم يحتاجون لإذن مسبق أو صك براءة من النقيب يؤكد مناقبيتهم قبل الظهور الإعلامي.

“كان الأجدى أن يفعل مجلس النقابة آلية محاسبة من يخالف آداب المهنة من المحامين، بدلاً من فرض رقابة مسبقة على جميع المحامين”، تقول شحادة. “الفوضى التي تحدث عنها النقيب سببها غياب الملاحقات المسلكية الجدية، فنرى مثلاً المحامي محمد زعيتر، وهو نجل الوزير السابق غازي زعيتر يشتم نقيب المحامين السابق ملحم خلف على “تويتر” دون أي محاسبة”.

ونظراً لكون مجلس النقابة يتألف من أعضاء منتخبين يمثلون الأحزاب السياسية، ويمكن لهؤلاء أن يستفيدوا من الغطاء الحزبي المؤمن لهم للتهرب من أي محاسبة مسلكية، أو للحصول بسهولة على أذونات مسبقة للظهور الإعلامي على حساب المحامين المستقلين الذين سيتضررون بشكل أكبر من قرارات مماثلة.

وتؤكد شحادة أن خطورة القرار تكمن بأنه جاء في وقت تنشط فيه وسائل الإعلام المستقلة والحقوقيين لفضح الملفات المتعلقة بالفساد، والجرائم الأمنية والاقتصادية والمالية المرتكبة بحق الشعب اللبناني، لذلك لا يمكن أن يُدرج القرار إلّا في إطار السعي لقمع هذا النشاط.

بحسب المفكرة القانونية، يفسّر المعترضون القرار على أنه محاولة لتقييد دور المحامين الناشطين في القضايا الاجتماعيّة، فخلال السنوات الأخيرة، دور المحامين في تلك القضايا من خلال دفاعهم عن المتظاهرين الموقوفين تعسفياً على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات الشعبية، ولجأ المحامون إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتقريب القانون والحقوق إلى المجتمع في تناولهم لقضايا حساسة لا تزال تحاول السلطة السياسية اغفالها، كالتحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت والأزمات الاقتصادية والمالية، وحق المودعين بالادعاء ضدّ المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لاسترجاع ودائعهم المحتجزة منذ العام 2019.

يؤكد دور المحامين في هذا الإطار، أنه لا يمكن استرجاع الحقوق المسلوبة إلا من خلال “سلسلة مترابطة لا يُمكن هدم أي من أركانها تتمثل في الإعلام والمحامين والناس، فمن الصعب على أي صحافي أن يتطرّق إلى موضوع يجمع بين الشأن العام والقضاء والقانون من دون الاعتماد على المُحامين والمحاميات بشكل كبير لإنتاج المعلومة الدقيقة”.

طعن آخر بقرار النقابة قدمه صاغية برّره بأنّه أتى “من باب الواجب في الدفاع عن حقوق الدفاع ومصالح المجتمع في أحلك الظروف التي يمّر بها”، ولفت إلى أن “دور المحامين أسهم في تعزيز مشروعية فئات واسعة من القوى المتضررة في مواجهة نظام يتجه إلى طمس القانون والعدالة ومبدأ فصل السلطات”. 

وأشار إلى أنّ “التعديل الذي أجراه مجلس النقابة نسي هذا الدور الذي يقوم به المحامي أو تخلى عنه، فبدلًا من محاسبة من ارتكب المخالفات ذهب إلى إلغاء مبدأ الحرية وتجريد المحامين كافة منها في اتجاه فرض وصاية ورقابة عليهم”. 

وبذلك، تتحول الحرية من حرية مضمونة بالدستور والمواثيق الدولية إلى مجرد حرية ممكنة يتولى نقيب المحامين مهمة منحها أو حجبها وفق ما يراه مناسبا بمعزل عن أي ضوابط أو معايير.

تعميم نهج الإفلات من العقاب

نهج قمع حرية التعبير عن الرأي ومواجهة السلطة، وتسهيل الإفلات من العقاب الذي كرسته قرارات النقابة الأخيرة انسحب أيضاً على موقف النقيب من قضايا التعنيف الأسري، فخلال ندوة نظمتها لجنة تحديث الأحوال الشخصية في نقابة المحامين، شكك كسبار في شهادات الناجيات من العنف متبنياً الخطاب الأبوي الذي يكذب الضحية ويلومها ويحمي المعتدي، “تأتينا الشكاوى بأن الأب تحرش بابنته. كل ذلك بقصد الأذى والاستفادة من هذه الادعاءات الكاذبة، لتنال المرأة مكاسب ومبالغ لم تكن لتنالها لو اكتفت بعرض وقائع علاقة عادية مع زوجها”، يقول كسبار. 

ويتسائل: “ماذا يمنع أحد الأفراد من التسلبط على الآخر عن طريق الادعاء بأنه تعرض للضرب أو للركل أو للدفش؟”

تزامناً مع هذا الموقف الصادر عن أحد أبرز المسؤولين في الجسم الحقوقي الذي من المفترض أن تلجأ إليه الضحايا لانتزاع حقوقها ومحاسبة منتهكيها، شهد لبنان جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها زينب زعيتر بعشر رصاصات أطلقها نحوها زوجها أمام أطفالها، وبدلاً من الاقتصاص من القاتل، شاهدنا حفلة مباركة جماعية ما كانت لتكون ممكنة لولا تعميم ثقافة الإفلات من العقاب.

تقول المحامية ليال صقر، وهي المديرة التنفيذية لمنظمة “نواة للمبادرات القانونية”، لـ”درج”: “نستغرب كيف لجأ النقيب لتعميم استثناء يتم فيه أحياناً التعسف في استخدام بعض القوانين، لتناول موضوع حساس وخطير كالتعنيف الأسري. قوانين حماية النساء والأفراد من التعنيف الأسري قوانين ضرورية لا يجب تهديدها في بلد ترتفع فيه معدلات العنف والجرائم بشكل مطرد. حماية النساء من العنف يجب أن تكون في أساس الخطاب الحقوقي”. 

الحريات: المعركة الأخيرة

رغم المشهد القاتم، اللافت كان التضامن الواسع مع الصحفيين المستدعين من قبل صحفيين ونواب مستقلين، ومنظمات حقوقية وتنظيم وقفات احتجاجية بدعوة من “تجمع نقابة الصحافة البديلة” لمنع الاستفراد بالصحفيين، ورفض إخضاعهم لتحقيقات أمنية غير قانونية، وفي ذلك تأكيد على أن الحريات هي الحصن الأخير للأصوات المستقلة في لبنان، ولأجلها يجب خوض المعركة الأهم.

“تحالف حرية الرأي والتعبير” قال في بيان، إنه يتخوف من المنحى الذي تتخذه نقابة المحامين مؤخراً، ومن الاستدعاءات التي طالت الصحافيين/ات، كونها تضع مزيداً من القيود على حرية التعبير والإعلام، وسط استخدام متزايد لمواد القدح والذم المدرجة في قانون العقوبات بما لا يتماشى مع المعايير الدولية، وطالبت السلطة باحترام حريات الصحافة والمحاماة.

وكان تدخل وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري لدى عويدات ومطالبته بسحب الاستدعاء بحق قصير، دليل واضح على قدرة الضغط وحملات التضامن على ردع المنظومة.

من تكميم الأفواه المعارضة، إلى المحاولات المتكررة لتطويع القضاء بالكامل، إلى تغليب المنطق الأبوي في التعاطي مع قضايا العنف الأسري، تؤكد السلطة الحاكمة بكل أدواتها، أن جنونها بلغ أوجه، وعوضاً عن الإقرار بفشلها والعمل على انتشال البلاد من الانهيار غير المسبوق، قررت القضاء على الأصوات التي تفضح فشلها وتضعها أمام مسؤولياتها تجاه الرأي العام والعودة إلى زمن الوصاية، في مسار خطير يقود البلاد نحو القمع والعسكرة الشاملين.