“بعد الحرب، لن يتذكّر أحد أنهم كانوا بشراً”.
قلعة هاول المتحرّكة
“في هذه الأيام، هناك أشباح غاضبة تحيط بنا من كل جانب — ماتوا في الحروب، أو من المرض، أو الجوع — ولا أحد يهتم. تقول إنك ملعون؟ ومن ليس كذلك؟ العالم بأسره ملعون”.
الأميرة مونونوكي
“نحن لا نملك بيتاً… لقد احترق”.
قبر اليراعات
هذه العبارات الواردة في أفلام هاياو ميازاكي وروائع ستوديو “جيبلي”، تختصر موقفاً صارخاً من الحرب ونتائجها. عالم ميازاكي لا يحتفي بالدم، بل ينحاز الى الطفولة المسلوبة، البيوت المحترقة، والكائنات التي فقدت إنسانيتها تحت وطأة النار.
في زمنٍ تُقصف فيه البيوت وتُهجّر فيه العائلات، اختارت إسرائيل أن تواكب “الترند”. أربع صور نُشرت على حساب جيش الاحتلال على منصة X، تظهر جنوداً إسرائيليين بأسلوب رسوم “ستوديو جيبلي”، أحد أكثر الأساليب البصرية المرتبطة بالسلم، الطبيعة، والطفولة والبراءة. لكن خلف هذه الصور المصممة بالذكاء الاصطناعي، تُرتكب مجازر موثّقة بحق المدنيين في غزة. فما الذي يعنيه أن تُستخدم أعمال هاياو ميازاكي لتلميع آلة حرب؟ وما خطورة هذا “الترند” على الفن والحقيقة؟
فن ميازاكي: قصيدة مصوّرة للطبيعة واللاعنف
هاياو ميازاكي، المؤسس المشارك لستوديو “جيبلي”، ليس مجرد صانع أفلام. هو شاعر بصري كتب أفلامه بالألوان، وبنى عوالمه بأدق تفاصيل الطبيعة اليابانية، حيث تمتزج الروحانيات الشرقية كالبوذية مثلاً مع قصص الأطفال والحكايات الشعبية. أفلامه ليست رسائل وعظيّة، بل تجارب حسّية وعاطفية تنمو تدريجياً في وجدان المشاهد.
من “الأميرة مونونوكي”، التي تستعرض صراع الإنسان مع الطبيعة والآلهة الغاضبة، إلى “الريح تهب”، السيرة الذاتية التي تطرح أسئلة أخلاقية حول التكنولوجيا والحرب، مروراً بـ”الجار توتورو” و”المخطوفة” (Spirited Away) اللذين يستكشفان البراءة، الخوف، والقدرة على التحول والنضج، تأتي أعماله كرحلات داخلية تتحدى الواقع وتعيد بناءه من منظور إنساني شديد الحساسية.
القيمة الجوهرية في أفلام ميازاكي تكمن في رفضها الثنائيات البسيطة: لا وجود لشر مطلق، ولا لبطل خارق. شخصياته نساء قويات، أطفال يكتشفون العالم، وكائنات غامضة ليست طيبة أو شريرة بل معقّدة، كما الحياة. تترك أفلامه أثراً لا برسائل مباشرة، بل بأسئلة مفتوحة، ومشاهد صامتة أحياناً.
ميازاكي، المعارض الصريح للنزعة العسكرية، رفض حضور الأوسكار عام 2003 احتجاجاً على غزو العراق. وفي مقابلاته، عبّر مراراً عن رفضه استخدام التكنولوجيا في الفن من دون روح، واعتبر الذكاء الاصطناعي “إهانة للحياة نفسها”، مؤكداً أن الفن الحقيقي ينبع من اللمسة البشرية، من التعب والانفعال.
“ترند جيبلي”: الإشكاليات والمخاطر
بدأ “ترند جيبلي” مع إطلاق أداة جديدة لتوليد الصور من OpenAI، حيث حوّل المستخدمون صورهم الشخصية إلى مشاهد بأسلوب جيبلي. وسرعان ما تحول هذا الحنين البصري إلى أداة لإعادة تصوير الأحداث التاريخية وحتى الجرائم بطريقة “لطيفة”.
خلف هذا الترند مخاطر أكبر تتعلق بالخصوصية والملكية الفكرية. استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور بأسلوب فني معيّن يعني عملياً تدريب هذه النماذج على أعمال فنانين من دون إذن منهم، ما يُعدّ انتهاكاً واضحاً لحقوق الملكية. أسلوب “جيبلي” لم يُرخص لأحد، ومع ذلك أصبح متاحاً للجميع بضغطة زر.
وعلى صعيد الخصوصية، فإن ملايين الصور التي يرفعها المستخدمون إلى هذه المنصات تُخزّن وتُستخدم لتحسين أداء النماذج، ما يطرح أسئلة خطيرة حول من يمتلك هذه البيانات، وكيف يمكن استخدامها لاحقاً، سواء في أغراض تجارية أو أمنية أو سياسية.
ما بدأ كلعبة بصرية جذابة، تحوّل بسرعة إلى سلاح ناعم لتزوير الواقع، ومصدر قلق قانوني وأخلاقي لا يمكن تجاهله.
القيمة الجوهرية في أفلام ميازاكي تكمن في رفضها الثنائيات البسيطة: لا وجود لشر مطلق، ولا لبطل خارق. شخصياته نساء قويات، أطفال يكتشفون العالم، وكائنات غامضة ليست طيبة أو شريرة بل معقّدة، كما الحياة.
التزيين أو الغسيل الفني: حين تُغسل الجرائم باللوحات
“التزيين” أو “الغسيل الفني” أو Artwashing، هو استخدام الأنشطة الثقافية والفنية لتلميع صورة دول أو مؤسسات متورطة في انتهاكات حقوقية، عبر ربطها بالحداثة، الإبداع، والانفتاح، على رغم سجلها الأسود في القمع والعنف. ظهر المفهوم أولاً في لوس أنجلوس، وتحديداً في حي بويل هايتس ذي الغالبية اللاتينية، حين استُخدمت مشاريع فنية في “إعادة تأهيل” الحي، ما مهّد لطرد السكان الأصليين لمصلحة مشاريع التطوير العقاري. الفن هنا لم يكن مجرد وسيلة للتجميل، بل أداة لاستعمار حضري ناعم.
مع مرور الوقت، تطوّر المصطلح ليشمل استخدام الفن لتبييض جرائم شركات ضخمة، مثل شركات النفط Shell & BP، التي موّلت معارض ومتاحف كبرى في لندن وباريس، ما دفع بحملات بيئية مثل Just Stop Oil إلى تنفيذ احتجاجات مباشرة داخل المتاحف.
لكن الأخطر هو انتقال “الغسيل الفني” من القطاع الخاص إلى الأنظمة السياسية، خصوصاً الأنظمة الاستبدادية.
في الفيليبين، موّل نظام فرديناند ماركوس في الثمانينات مهرجانات ومؤسسات سينمائية مثل “السينما التجريبية” و”مركز مانيلا السينمائي” تحت إدارة ابنته إيمي ماركوس، للترويج لوجه حضاري وسط موجات القمع والفساد، فيما كانت البلاد تغرق في الديون وانتهاكات حقوق الإنسان.
في السعودية، برز مشروع رؤية 2030 كواجهة تحديث اقتصادي وثقافي، لكن خلف المعارض الحديثة، لا تزال السجون تضم ناشطات، وتُفرض رقابة صارمة على الكتب والأعمال الفنية.
أما في الإمارات، فقد استُخدم افتتاح متاحف مثل اللوفر أبوظبي وغوغنهايم أبوظبي كدليل على التسامح، على رغم تقارير المنظمات الدولية عن قمع الحريات، واحتجاز في ظروف لا إنسانية. وعلى رغم الشراكات مع “اليونسكو” في مجال التعليم الفني، يُمنع عرض أعمال فنية تتناول مواضيع الجنس، الدين، أو السياسة.
كل هذه الأمثلة تشير إلى ما يمكن تسميته بالهندسة الثقافية للسمعة، حيث تُستخدم الفنون كسلاح ناعم لتعطيل المحاسبة، وتلميع صورة أنظمة أو شركات لا تختلف في ممارساتها عن أعداء الفن الحقيقيين.
إسرائيل وتبييض الجرائم عبر الفن: آلة دعاية بثوب ثقافي
منذ انطلاق حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) عام 2005، كثّفت إسرائيل جهودها لتوظيف الفن كأداة دبلوماسية ناعمة لتلميع صورتها عالمياً، على رغم استمرار احتلالها الأراضي الفلسطينية وارتكابها انتهاكات ممنهجة للقانون الدولي. هذا التوجّه لم يكن عفوياً، بل ممنهجاً ومدعوماً من الدولة، إذ كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في تقرير نشر عام 2009 عن وثيقة داخلية لوزارة الخارجية، تنص على أن الهدف من تمويل مشاركة الفنانين هو تحسين صورة إسرائيل وخدمة مصالحها السياسية من خلال الثقافة والفن، في إطار مشروع دعائي يحمل اسم Brand Israel. وتضمنت الوثيقة تصريحات لمسؤولين قالوا: “سنرسل كتّاباً ومسرحيين وفنانين إلى الخارج ليظهروا الوجه الجميل لإسرائيل حتى لا يُنظر إلينا فقط من زاوية الحرب”.
كما كشفت The Electronic Intifada لاحقاً، أن بعض الفنانين الذين دُعيوا بتمويل حكومي طُلِب منهم ضمنياً أو صراحةً عدم انتقاد السياسات الإسرائيلية خلال مشاركتهم في الفعاليات الثقافية الدولية، ما يوضح كيف تحوّلت الثقافة إلى أداة لتلميع الاستعمار وتكميم الأفواه في آنٍ واحد.
إسرائيل وجيبلي: تبييض بمرجعية مضادة للحرب
فيما يخص تراند جيبلي، ما فعلته إسرائيل يتجاوز تبييض الجرائم، إلى قرصنة رمزية لفن لطالما عارض العسكرة. فميازاكي لا يُنتج فناً تجميلياً، بل فناً يحمل موقفاً أخلاقياً واضحاً من الحرب. سرقة أسلوبه فيما تُرتكب جرائم بحق الأطفال، تهجير قسري، وخرق للقوانين الدولية، هي استخدام ساخر للرمزية ذاتها التي تعارض ذلك كله.
تحوّل الجندي القاتل إلى شخصية “أنيمي” لطيفة، وكأن المجازر لوحة مائية بريئة. هذا التحوّل البصري ليس بريئاً، بل يُستخدم لتغيير السرد، لتسويق وهم إنساني في زمن تطمس فيه الجثث تحت الركام.
لا يقتصر الأمر على الجانب البصري، بل هو محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية. فبدلاً من صور القتلى، يُراد لنا أن نتذكر صوراً “ناعمة” لجنود بأسلوب أنيمي. إنها محاولة لتطبيع الجريمة من خلال الجمال.
مواجهة “تبييض الفن” لا تقع فقط على عاتق الفنانين، بل أيضاً على الجمهور والإعلام. ما فعله روّاد منصات التواصل، حين فضحوا استغلال إسرائيل ترند جيبلي، هو عمل مقاومة رمزية بحد ذاته. كذلك دور النقاد، والمؤسسات الثقافية، في رفض التطبيع البصري مع الجريمة.
الفن ليس أداة منفصلة عن سياقها، ومن يستخدمه في زمن الإبادة، مسؤول عن الرسائل التي يبثّها.
الفن ليس للقتلة
أفلام ميازاكي علمتنا كيف نحزن على غابة مقطوعة، كيف نخاف من الحرب، وكيف نحلم بعالم أفضل. حين تُستخدم هذه اللغة الفنية في خدمة الآلة العسكرية، يصبح من واجبنا أن نُسمي الأشياء بأسمائها: هذه ليست مشاركة في ترند، بل توظيفٌ للفن في تزييف الحقيقة.
إقرأوا أيضاً: