الصورة الوحيدة التي لا تُمحى من ذاكرتي، يوم دخول فصيل “أحرار الشام” قريتنا، هي ضربي أمام عائلتي ووصفي بكلام قبيح والتطاول على ديني ونعتي بالكافر، وكل ذلك من أجل سلب منزلي في قرية اليعقوبية غربي محافظة إدلب.
يقول الياس، ويده تقلب صور منزله، وعيناه تبحران في كل تفصيل في تلك الصور وفي ما تحويه من ذكريات، لمنزل عائلته الكبير في القرية التي تضم كنيسة شاهقة وسط بساتين الزيتون شمال مدينة جسر الشغور، والتي كانت شاهدة على تعايش السوريين، حتى دخول الفصائل الإسلامية وطرد الكثير من المسيحيين وإحلال عائلات مختلفة الجنسيات مكانهم.
الياس وأكثر من 650 عائلة مسيحية، تركت قريتي اليعقوبية والقنية غربي إدلب في العام 2013، بعد دخول فصيل “أحرار الشام” إلى القرية، وفرض ممارسات حدت حينها من حرية السكان الدينية والاجتماعية، بالتزامن مع احتلال عناصرها منازل ضمن القريتين اللتين يشكل المسيحيين غالبية سكانهما.
خلافات على منازل مستولى عليها
مضى 11 عاماً على تهجير معظم العائلات المسيحية من القنية واليعقوبية، واحتلال أراضيهم من قبل الفصائل الراديكالية، لتعلن حكومة الإنقاذ الجناح الإداري ل”هيئة تحرير الشام” في 18 تموز/ يوليو الماضي، عودة 30 عائلة مسيحية إلى محافظة إدلب قادمة من مناطق سورية، عن طريق ما يعرف بمديرية شؤون الطوائف في الحكومة، من دون تفاصيل تُذكر عن إلى أين عادت العائلات ومن أي مناطق تنحدر، وادعت المديرية أنها تتواصل باستمرار مع المسيحيين الموجودين في مناطق شمال غرب سوريا، وهناك جلسات دورية لنقل معاناتهم وهمومهم ومشاكلهم إلى الجهات المعنية، والتنسيق مع عائلات مسيحية تسكن في مناطق النظام من أجل عودتهم إلى بلداتهم.
يقول الياس الذي فضل عدم الكشف عن هويته الكاملة؛ لما يخشاه من تأثير على قريبه في قرية اليعقوبية، لم أترك القرية بإرادتي ولا طمعاً بالسفر خارج سوريا، إذ كنا نملك أكثر من 60 دونماً مزروعة بأشجار الزيتون والخوخ وحياتنا المادية مستقرة، بيد أن التضييق الذي مارسته عناصر فصيل “أحرار الشام” أجبرني على ترك أرضي، التي استولى عليها في البدء “أحرار الشام”، مروراً ب”أنصار التوحيد”، وصولاً إلى “الحزب الإسلامي التركستاني” اليوم، ولا أعلم عنها سوى أخبار قليلة من قريبي السبعيني الذي بقي في القرية.
ويضيف خلال اتصال مع “درج”: “في شهر كانون الثاني من العام 2013 اقتحم منزلنا 14 عنصراً مدججاً بالسلاح، أجبروني أنا وأخي على الجلوس القرفصاء، وفتشوا الغرف من دون مراعاة وجود أمي وأخواتي، وقام أحد العناصر على برفع الصليب المعلق على الحائط وكسره، وآخر وضع في جيبه تمثالاً صغيراً من الرخام للسيدة مريم؛ لا أعلم لماذا، لكن ربما ظناً منه أن التمثال ذهبي ويستطيع بيعه، هذا كله قبل أن ينهال علينا عنصران بالضرب واتهامنا بالكفر ويخرج الجميع بعدها، ودموع القهر تنهمر من عيني والدتي.
6 أشهر هي الفترة التي بقينا فيها في المنزل بعد تلك الحادثة، احتل العناصر منزل أحد جيراننا، كما احتلوا الكنيسة ومنعونا من الصلاة فيها وقرع الأجراس، ويوماً بعد آخر، صار يسكن منازل القرية عائلات لا أعرف سوى أنها مرتبطة بالعناصر، وأمام ذلك الضغط قررت وأهلي الخروج باتجاه مدينة حلب، وترك منزلنا هناك، وفي العام 2016 وصلت إلى السويد، ولا أملك من قريتي سوى صور يرسلها إلي قريبي، ولا أعتقد أنني أو أي واحد من أهلي سيعود ما لم يخرج الغرباء من منازلنا .
خلال السنوات الماضية، يكاد لا يمر شهر من دون أن تندلع مشاكل تستعمل فيها الأسلحة الفردية، جراء خلافات على المنازل التي تركها أهلها في قريتي القنية واليعقوبية، بين عائلات في “الحزب التركستاني” من جهة، وعائلات سورية من جهة أخرى، بحسب الناشط الحقوقي عامر الجسري، إذ تمركزت عشرات العائلات منذ العام 2014 في قريتي القنية واليعقوبية، بعضها قدم من قرى جسر الشغور، وبعضها من “فصيل التركستان” (الإيغور) وبعضها من محافظات أخرى ومرتبطة عسكريا ب”هيئة تحرير الشام”، بيد أن تلك الخلافات تراجعت منذ حوالي العام، بعد تسلم الهيئة عن طريق جهازها الأمني ملف المنازل، وفرض أجور شهرية على السكان المتمركزين فيها، تذهب لخزينة تحرير الشام”.
خلال السنوات الـ 11 الماضية وما رافقها من تبدل بهوية السكان، الذين استولوا على منازل قريتي القنية واليعقوبية، من الممكن القول إن القريتين تعرضتا لعملية تغيير ديموغرافي، من خلال إحلال عائلات مسلمة مكان العائلات المسيحية، وطمس هويتهما الدينية وإضاعة تراثهما التاريخي البعيد، بحسب ما جاء على لسان عامر.
لم تكن قريتي اليعقوبية والقنية الوحيدتين في إدلب اللتين تحملان الهوية المسيحية، إذ تقع على بعد 26 كلم منهما إلى الجنوب الغربي بلدة الغسانية وقريتا حلوز والبرج ، التي تعيش فيها عائلات ذات جنسيات مختلفة، بعد تهجير أهلها الأصليين منها، وبسبب ذلك، لا تزال تتعرض منذ العام 2015 لقصف من الطائرات الروسية، مما أسفر عن تدمير المنازل السكنية والبنى التحتية فيها.
حتى الزيتون…
لم تكتف الفصائل المسلحة المسيطرة على شمال غرب سورياK وفي مقدمها “هيئة تحرير الشام” و”الحزب التركستاني”، بالسيطرة على منازل تعود لمسيحيين فحسب، بل طالت السيطرة الأراضي الزراعية في ريف جسر الشغور، التي تقدر بحسب المهندس الزراعي موسى الكحال بـأكثر من 2055 هكتاراً مشجرة بالزيتون والجنارك، ومنها أراضي سليخ ممتدة في خراجات القنية واليعقوبية والغسانية وحلوز.
تمتد أراضي القرى المذكورة باتجاه جبال اللاذقية الغنية بالأمطار والتربة الخصبة، التي كانت تعود على أصحابها سابقاً بمردود جيد، وتحولت اليوم إلى حساب فصيل “الحزب التركستاني” الذي تفرد بالسيطرة الاقتصادية على الأراضي، بحسب شهادة الأستاذ جرجس السرور المنحدر من بلدة الغسانية والقاطن في مدينة حلب.
ويعمد “الحزب التركستاني” إلى جني محصول الزيتون سنوياً من أراضي المسيحيين في منطقة جسر الشغور، لا سيما اليعقوبية والغسانية والقنية بواسطة عمال محليين، يدفع لهم أجور مياومة لا تتعدى 2.5دولار أميركي، ليذهب المحصول خلال السنوات الماضية إلى معاصر المنطقة من دون أن يدفع الحزب رسوم ما يسمى زكاة الزروع ل”هيئة تحرير الشام”، فيما يدفع باقي المزارعين من السكان المحليين رسوم زكاة الزيتون التي تقدر بـ5% من نتاج المحصول لهيئة الزكاة العامة التابعة ل”هيئة تحرر الشام”، بعد عصر زيتونهم، في حين تدفع العائلات المسيحية المتبقية رسوماً تصل إلى 35% على محاصيلهم.
عاماً بعد آخر تتدهور حال أشجار الزيتون الواقعة تحت سيطرة “الحزب التركستاني” والعائدة إلى أصحابها المسيحيين، بسبب عدم الاهتمام بها وتقليمها ورشها بالمخصبات والمبيدات، مما ينذر بمستقبل سيئ لها، إذا ما استمر الحال كما هو عليه، بحسب المهندس الزراعي موسى الكحال.
لتلميع الصورة
تفرض “هيئة تحرير الشام” قيوداً تمييزية على من تبقى من سكان اليعقوبية والقنية، الذين لا يتعدون 240 شخصاً، من بينهم رجال الدين وخدام الكنائس بحسب الأستاذ جرجس السمرة، كما أن أغلب السكان من كبار السن محرومين من الصلاة الأسبوعية في الكنائس وقرع أجراسها، فيما كُشطت الصلبان التي كانت على جدران الكنائس، بالتزامن مع إلزام النساء بوضع الحجاب وعدم إقامة حفلات خاصة.
في العام 2021 تداول نشطاء صوراً لاحتفالات بعيد الميلاد في كنيسة اليعقوبية، فعلقت عليها حسابات موالية ل”تحرير الشام” بأنها من احتفالات للمسيحيين بأعيادهم في مناطق حكومة الإنقاذ، وفسرها مراقبون أن الهيئة ذاتها وراء تسريب الصورة، لتعويم نفسها بأنها تحافظ على التعدد الديني في مناطقها، في الوقت الذي تسيطر فيه عناصرها الأجنبية على منازل المسيحيين والدروز، وتُسمي نفسها بالمشروع السني الوحيد، ضاربة بعرض الحائط تنوع السوريين على مر العصور.
بثت وكالة “أمجاد” الذراع الإعلامية ل”تحرير الشام في الشهر تموز/ يوليو من العام 2022، صوراً للجولاني يتوسط عدداً من الشخصيات، قالت إنها من زيارته إلى قرى اليعقوبية والقنية والجديدة في ريف جسر الشغور، ولقائه بوجهائها، من دون إعطاء أي تفاصيل إضافية حول المواضيع التي تم التطرق إليها خلال اللقاء.
سبق لقاء الجولاني بالمسيحيين لقاء مماثل مع وجهاء قرى جبل السماق ذات الأغلبية الدرزية، بعد تسجيل مئات الانتهاكات من فصائل “تحرير الشام” ومثيلاتها بحق السكان، سواء المسيحيين منهم أم الدروز، منها مجزرة قلب لوزة في العام 2015، التي راح ضحيتها 24 شخصاً من الموحدين الدروز بنيران “جبهة النصرة” بزعامة القيادي سفينة التونسي.
إقرأوا أيضاً: