حدثٌ جلل شهده لبنان هذه الأيام. وزير الإعلام جورج قرداحي قدّم استقالته! يا لهول الخطوة، فهي على رغم ما يحيطها من هراء، جاءت كتتويج لجهود شارك فيها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، واستُشير فيها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، وجرت بموازاة التقارب بين طهران وأبو ظبي، والأهم من هذا، أن الخطوة مثلت “نجاحاً استثنائياً” لرئيس الحكومة “المبدع” نجيب ميقاتي، وآخر إبداعات هذا الأخير تمثلت بقوله إن الحكومة تعمل، وأن مجلس الوزراء وحده معطل بفعل مقاطعة الثنائي الشيعي جلساته بانتظار الإطاحة بالمحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار. علماً أن حقيقة تعطيل مجلس الوزراء يجب أن لا تنسينا الانفراج الذي ستخلفه خطوة استقالة قرداحي. وفي هذا السياق ربما علينا الإشارة إلى أن خطوة وزير الإعلام جاءت أيضاً منسجمة مع الحملة التي نظمتها ناشرة جريدة النهار نايلة تويني تحت عنوان: “أعطوا لبنان فرصة”، وها هو القرداحي يستجيب، وعلى حفيدة غسان تويني أن تتأمل خيراً.
مفاعيل الاستقالة لن تزيد عن مفاعيل “أعطوا لبنان فرصة”. فمجلس الوزراء لن ينعقد طالما أن حزب الله لم ينجح بالإطاحة ببيطار، والسعودية لن تهب لنجدة لبنان، والأرجح أنها لن تعيد سفيرها إلى بيروت، والوزير الإعلامي “النجم” سيستأنف المشاركة بإعلانات ترويجية للمصارف طالما أنه تقاعد في مجال البرامج الترفيهية، وقدم نفسه كبش فداء في ملحمة العلاقات بين لبنان والخليج.
ماكرون لا يدرك وظيفة هلال النفوذ الإيراني، أو هو يدركه ويكتفي بحصة منه توازي “وزن” جورج قرداحي!
الاستعصاء سيتواصل على رغم الاختراق الكبير الذي حققه ميقاتي، والدولار سيواصل صعوده على رغم تعثره عند حافة الـ25 ألف. كل هذا ليس مهماً طالما أن استجابة لحملة “أعطوا لبنان فرصة” قد لاحت، ويمكننا أن نصرف منها في موسم الأعياد. الكآبة التي تظلل أيامنا، وشجرات الميلاد المطفأة والتي تقتصر زينتها على كرات حمراء صماء، وأعداد المتسولين الهائلة في شوارع العاصمة، جميعها كانت تنتظر استقالة قرداحي وابتسامة ميقاتي، مثلما انتظرت لحظات الصمت الرهيبة التي شهدها حديث ميشال عون لقناة الجزيرة.
لكن الرهيب وسط هذا المشهد الكابوسي، هو انخراط الرئيس الفرنسي حتى عنقه في الهراء اللبناني. فالرجل توهم أن انقاذ حكومة ميقاتي أمر ممكن عبر استقالة قرداحي، تماماً مثلما كان قد اعتبرها “حكومة التكنوقراط” عندما طلب تشكيلها خلال زيارته إلى لبنان في أعقاب انفجار 4 آب! ولكن ماذا عن مقاطعة الثنائي الشيعي هذه الحكومة؟ وهل يمكن أن تواصل ضغوطك يا فخامة الرئيس لتستجيب لطلبهم وتطيح بالمحقق العدلي؟ الأرجح أنك قد تفعل ذلك طالما أنك منغمس في ترقيع الاهتراء، وفي نجدة الطبقة السياسية نفسها التي تسببت بالانهيار وبالانفجار، والتي نقلت ثرواتها إلى مصارف سويسرا وإلى الشواطئ الفرنسية وإلى الجنات الضريبية في بريطانيا.
ماكرون يتصرف كمن ضرب صفحاً عن المتسببين بانفجار المرفأ، وعن المسؤولين عن الانهيار المالي التاريخي الذي يعيشه لبنان، يفعل ذلك في وقت تتحرك فيه الأجهزة القضائية الأوروبية ومن بينها الفرنسية لملاحقة الفاسدين ممن يهب الرئيس الفرنسي لنجدتهم، وفي وقت تُسرب فيه أجهزة رقابية غربية، ومن خلفها حكومات أوروبية، آلاف الوثائق التي تكشف الفساد الهائل الذي يسود الكوكب، والذي يقع لبنان في صلبه، ويمثل ركناً أساسياً فيه. والغريب أن ماكرون يقبل بالفتات، ذاك أن استقالة قرداحي هي الهدية الوحيدة التي جادت عليه بها طهران، وقبل ذلك أهدته حكومة المحاصصة، فقبلها! أما التحقيق بانفجار المرفأ، فهذا ما لن يناله الرئيس الفرنسي، ذاك أن هدية في هذا الحجم لن تليق إلا بالمفاوض الأميركي في جنيف، وسيرتبط ثمنها بمدى تجاوب واشنطن مع طلبات طهران برفع العقوبات.
ماكرون لا يدرك وظيفة هلال النفوذ الإيراني، أو هو يدركه ويكتفي بحصة منه توازي “وزن” جورج قرداحي!
إقرأوا أيضاً: