كثيرة هي التأويلات في وقائع الاشتباكات داخل مخيم عين الحلوة بين حركة “فتح” وتنظيمات إسلامية متشددة. لكنّ احتمالين اثنين يتبديان أكثر أرجحية في مآلات هذه الاشتباكات وجولاتها.
الاحتمال الأول أنها امتداد للتنافس والتنافر في الداخل الفلسطيني بين حركتي “حماس” و”فتح”، أو بين الأخيرة وحركة الجهاد الإسلامي.
الوقائع العسكرية الراهنة في ظاهرها قد توهن هذا الاحتمال. فحركة “فتح” لا تقاتل في مخيم عين الحلوة أياً من الحركتين المذكورتين، واللتين تتخذان موقف الحياد، وأنَّ خصومها في “الحرب” الراهنة، ورغم إسلاميتهم السائدة في المناخ الفلسطيني العام، لا يحظون أصلاً بأي امتداد سياسي وعسكري سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
لكن ضعف الاحتمال المذكور لا يخلو من وقائع تحبطه، وترتبط بمآل هذه الاشتباكات. على الغالب أن الحياد المذكور سيفضي إلى مكاسب سياسية وعسكرية ستجنيها حركة “حماس” تحديداً.
فعجز حركة “فتح” عن حسم المعركة ميدانياً كما يظهر من جولات الاشتباكات، سيفضي إلى استنزاف قدراتها العسكرية، وهو أمر سيستتبع أيضاً خسائر سياسية لصالح “حماس” في قضية مزمنة يطبعها أصلاً التلازم السياسي والعسكري.
انحسار نفوذ “فتح” هو بالضرورة تمدّد لنفوذ “حماس” داخل أكبر مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان. فمخيم عين الحلوة كان، ولا يزال، مؤشراً لبنانياً إلى شرعية السلطة الفلسطينية في تنافسها مع حركات الإسلام السياسي، و”حماس” في مقدمها.
تقصّي الحروب الفلسطينية – الفلسطينية في لبنان لم ينطو يوماً على نزاع دموي بين حركة “حماس” وبين التنظيمات التي تخوض ضدها “فتح ” حربها الراهنة، وهذا ليس تفصيل، ونتائج المعارك إذا ما انتهت إلى تأكيد العجز “الفتحاوي” ستؤول على الأرجح إلى تصريف هذا العجز نفوذاً متزايداً لحركة “حماس” التي تملك جاذبية إسلامية لاحتضان تلك التنظيمات.
هذا المآل يستدرجنا إلى الاحتمال الآخر، والأكثر رجحاناً، عن الاستثمار اللبناني في الصراع الفلسطيني الحالي. إنه موقع حركة “حماس” في محور الممانعة.
بدا السلاح الفلسطيني في لبنان منذ اتفاق الطائف في العام 1990، وحتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كما لو أنه دخل سباتاً سياسياً وأمنياً، ومؤشراً أيضاً الى ضمور البندقية التي حكمت نصف لبنان، وظلت تهدد نصفه الآخر.
وشكّل الوجود السوري عاملاً مباشراً في تجفيف أثر السلاح الفلسطيني في الوقائع اللبنانية، وهو تبدى في آخر هزائم “فتح” في مدينة طرابلس اللبنانية، وفي تطويع الفصائل الأخرى، ثم في بروز حركات الإسلام السياسي كـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي” واتخاذها من دمشق مقراً لها.
أفضى اغتيال الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، إلى استعادة هذا السلاح هواه و هوايته، وفي سياقات دموية بدت جزءاً من الانشطار اللبناني الذي تلى الاغتيال، ووجدت المخيمات الفلسطينية متسعاً لتنظيمات إسلامية ولدت من دون مقدمات. هذا حال “فتح الإسلام” في مخيم نهرالبارد، و”جند الشام” و”عصبة الأنصار” في مخيم عين الحلوة، وحال “تجمع الشباب المسلم” راهناً.
إقرأوا أيضاً:
غياب المقدمات لا يعفي من الأسئلة عن أحوال هذه التنظيمات. من وراءها؟ ومن يمولها؟ أما أدوارها، وإن بدت متضاربة وملتبسة، ففي حروبها الماضية والراهنة ما يبدد الكثير من هذا الالتباس.
يلزم المرء فائضاً من حسن الظن، ومن الانفصام، ليتغاضى عن دور النظام السوري في الولادة الهجينة لتنظيم “فتح الإسلام” الذي خاض معركة “نهر البارد” ضد الجيش اللبناني في العام 2006. كان الخط الأحمر الذي وضعه حينها أمين عام “حزب الله” أمام الجيش اللبناني، ثم فرار زعيم التنظيم شاكر العبسي إلى سوريا، مؤشرين وازنين عن التنظيم المذكور، كما عن ولادته وأدواره في ذروة الانشطار اللبناني ضد النظام السوري، وضد “حزب الله”.
في مخيم عين الحلوة، قد يبدو الأمر أكثر صعوبة لجهة تبديد الالتباس، ولكنه ليس مستحيلاً. نحن والحال أما مخيم لجوء فلسطيني غالباً ما يُدرج الممانعون حصاره من الجيش اللبناني في سياق الاستثمار بالقضية الفلسطينية، وبشتاتها. وسياق كهذا يفترض بالضرورة السؤال، وفي ظل الحصار المفترض، عن التمويل والتسليح، هذا إذا ما اعتبرنا الولادات الهجينة للكثير من المنظمات الفلسطينية في ماضيها وحاضرها اندرجت غالباً كهواية تبحث عن ممول ومستثمر.
من يخوض القتال ضد فتح هو “تجمع الشباب المسلم”، وهو تنظيم مغمور دفعته إلى الواجهة الاشتباكات الراهنة. لكن رصد فاعليته وجاهزيته وقدرته القتالية، وأمام حركة متمرسة كـ”فتح”، وبوقائع تشي بعجز الأخيرة عن الحسم، يستدرج المرء إلى ما هو أبعد من حدود المخيم، كما عن قدرة تجاوز الحصار.
على أهميته، لا يكفي الإسلام بكل مسمياته هنا ليُساق وحده كمحفز للالتحاق بهذه التنظيمات. البؤس العميم في المخيمات، وتقلص سبل العيش وفرص العمل التي تخضع لقوانين لبنانية مجحفة، هي دافع لشرائح شبابية كثيرة داخل المخيمات الى الاسترزاق من المصدر الذي تفشى على مدى عقود من عمر القضية الفلسطينية كنمط للعيش، أي السلاح وأموال الخارج.
هنا يبدو الأمر أكثر مرونة في تفكيك التباس التمويل والسلاح، كما رتق البؤس ونمط العيش.
قال شارل ديغول عبارة أثيرة مفادها :”إذا أردت الحديث في السياسة فانظر إلى الخريطة”. والأخيرة في حالة مخيم عين الحلوة، لن يتسع معها التأويل، حتى لو ضاقت العبارة. فنحن أمام حيز جغرافي ضيق محكوم من الجيش اللبناني، ومن “حزب الله”، ومحكوم أيضاً بتوقيت “وحدة الساحات” التي تندرج حركة “فتح” كأحد استعصاءاتها.
كان السلاح الفلسطيني، ولا يزال، أحد أبرز المؤشىرات عن ترهل الدولة. سلاح تندرج فيه “فتح”، كما “حماس”، كما “تجمع الشباب المسلم”، وهو معطى إضافي يخنق فلسطينيي المخيمات بقدر اختناقهم بالقوانين اللبنانية. لكنه أيضاً يوائم واقعاً لبنانياً محكوماً راهناً بمشقة سلاح “حزب الله”.
والحال، لم يكن ما قاله المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بالأمس، عن أحداث مخيم عين الحلوة، عابراً. تحدث إبراهيم عن عصابات تقلق المخيمات وجوارها، ولم ينسَ إدراج إسرائيل كمستفيد من هذه الأحداث في ربط بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية.
وإبراهيم للمناسبة، ومن مواقعه الأمنية السابقة، ومن أدواره في وأد الصراعات داخل المخيم كما في جواره، هو الشخصية اللبنانية التي تعرف أكثر من غيرها ماهية هذه العصابات والتنظيمات، وأدوارها.
ماذا لو تكلم عباس ابراهيم؟ هذا آخر الأسئلة.
إقرأوا أيضاً: