بينما كانت السلطات التونسية تحتفي بمرور الزيارة السنوية لمعبد الغريبة اليهودي بنجاح باهر وسط إقبال كثيف، مع تجاوز عدد الزوار الـ5000 زائر، جاءت أخبار عملية الاعتداء على الكنيس مساء التاسع من أيار/ مايو لتفسد الفرحة، معيدةً إلى الأذهان سنوات الاعتداءات الإرهابية التي عاشتها تونس في 2015 و 2016، وكذلك العملية الإرهابية التي شهدتها الغريبة في 2002.
حوالى الساعة الثامنة مساءً، سُمع دوي إطلاق نار في محيط معبد الغريبة، اعتقد الزوار الذين لم يغادروا المكان بعد، رغم انتهاء مراسم الاحتفال، أن هناك إطلاقاً للألعاب النارية، قبل أن يتيقنوا من أن شيئاً خطيراً يحصل بالقرب منهم. تتالت الطلقات النارية وسادت حالة من الخوف والهلع بين الحاضرين، الذين قاموا بتصوير مجموعة من الفيديوات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. فكانت هذه الفيديوات نقلاً حياً لما حدث في جربة، في حين لم يصدر أي تعليق رسمي على الأحداث إلا بعد بضع ساعات مما حدث. وفيما تناقلت وسائل إعلام إسرائيلية خبر الاعتداء على مجموعة من الأمنيين قبالة معبد الغريبة من قبل مجموعة من الحرس الوطني حاولت اقتحام المكان، ومن ثم تناقلته وسائل إعلام عربية، تواصل السلطات المحلية التعتيم عليه. فيما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار غير المؤكدة والإشاعات عن تبادل لإطلاق نار وضحايا.
عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، جاء أخيراً بيان وزارة الداخلية ليروي رسمياً ما حدث، إذ إن عون حرس تابع للمركز البحري الوطني بمنطقة أغير بجربة أقدم على قتل زميله وأخذ سلاحه وذخيرته واتجه إلى منطقة المعبد على بعد 20 كيلومتراً، ليقوم بإطلاق النار عشوائياً على الأمنيين الذين كانوا في المكان، متسبباً بسقوط اثنين من أعوان الأمن واثنين من الزوار، الأول تونسي والثاني فرنسي، بالإضافة إلى عدد من الجرحى.
وحتى الآن، لم يصدر أي بيان آخر حول عملية الاعتداء أو هوية المعتدي، حتى إن وزارة الداخلية لم تصف ما حصل بـ”العملية الإرهابية”، رغم أن كل القرائن تدل على ذلك. فالمعتدي بحسب بعض التسريبات، معروف بانتماءاته الدينية المتطرفة، بالإضافة الى طريقة تنفيذ الاعتداء واختيار المكان والجمهور المستهدف. حتى إن الرئيس قيس سعيد اعتبر ما حصل، في خطابه يوم 10 أيار أمام مجلس الأمن القومي، “عملية اجرامية”، ولم يأت بتاتاً على ذكر الطابع الإرهابي المحتمل لها.
الحبيب الكزدغلي، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة منوبة، كان حاضراً في واقعة الاعتداء مع مجموعة من طلابه، الذين زاروا المعبد في إطار دراساتهم حول التراث اليهودي في تونس. يقول لـ”درج”، “كنا بصدد مغادرة المعبد نحو الساعة الثامنة مساء، وكنت الأخير الذي التحق بالحافلة، التي كانت من المفروض أن تنقلنا نحو الفندق، ولكنني سمعت فجأة صوت إطلاق نار. ظننت في البداية أنه صوت إطلاق ألعاب نارية، ثم مع تكرره ورؤية حركة غريبة في صفوف الأمنيين المحيطين بالمعبد، تيقنت أنه صوت إطلاق رصاص. حينها قررت والطلاب الموجودون معي في الحافلة أن ننبطح أرضاً تحت الكراسي، وبسبب العتمة، لم نتمكن من مشاهدة لعملية وضوح. رأينا فقط عون الأمن الذي سقط أرضاً بعدما أرداه المعتدي قتيلاً، لكننا لم نرَ وجه الأخير.”
يضيف الكزدغلي ،”كان هناك هرج كبير حول الحافلة وأصوات تتعالى لأعوان الشرطة. بعد قرابة ساعة، جاء بعض أعوان الأمن وطلبوا منا النزول من الحافلة والاحتماء بالمعبد. هناك، وجدنا قرابة 600 زائر قابعين في المكان خائفين مما يحدث في الخارج. لم يرد الأمنيون إخبارنا بما حصل، وبقينا هناك إلى حدود منتصف الليل حتى تم إجلاؤنا والسماح لنا بالعودة إلى الفندق”.
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف معبد الغريبة، أقدم كنيس يهودي في إفريقيا، إذ تم إنشاؤه قبل أكثر من 2000 سنة، ففي عام 2002، استُهدف بهجوم انتحاري بعربة مفخخة، أسفر عن 21 قتيلاً، وأعلن تنظيم “القاعدة” وقتها مسؤوليته عنه.
التعتيم الأمني حول حيثيات الاعتداء طاول الصحافيين أيضاً، الذين ورغم تنقّلهم في المكان، لم يتمكنوا من الحصول على معلومات مفيدة قبل صدور البيان اليتيم لوزارة الداخلية.
منى العابدي، صحافية في إذاعة تطاوين في الجنوب التونسي، كانت توجهت إلى محيط المعبد، تشير لـ”درج” الى أنه “كانت هناك تعزيزات أمنية كثيفة، لكن الأمنيين رفضوا التصريح للصحافة. حاولتُ الحصول على تصريحات من زوار المعبد أثناء إجلائهم، لكنهم كانوا خائفين ولم يرغبوا في التعامل مع وسائل الإعلام”. ولكن ما أثار اهتمام منى هو غياب المعلومات عن سكان المنطقة المحيطة بالمعبد، الذين عاشوا حالة من الفزع والهلع حتى ساعة متأخرة من الليل، ولم يعرفوا ماذا يفعلون أو أي طريق يسلكون للعودة إلى بيوتهم، بل إن أحد السكان أصيب برصاص قوات الأمن وهو عائد من المقهى إلى منزله لأنه لم يلتزم بأوامر الشرطة، فتم الاشتباه به وإطلاق النار عليه ليصاب بإصابات خطيرة، حسب رواية أهله التي حصلت عليها الصحافية. “كان من الممكن إعلام الأهالي بمكبرات الصوت أو بأي طريقة أخرى”، تقول منى.
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف معبد الغريبة، أقدم كنيس يهودي في إفريقيا، إذ تم إنشاؤه قبل أكثر من 2000 سنة، ففي عام 2002، استُهدف بهجوم انتحاري بعربة مفخخة، أسفر عن 21 قتيلاً، وأعلن تنظيم “القاعدة” وقتها مسؤوليته عنه.
ورغم عودة الحياة إلى طبيعتها في اليوم التالي للحادثة، إذ تم فتح الطرقات وعادت المدارس إلى العمل واستُئنفت حركة التنقل من جزيرة جربة وإليها، فإن تساؤلات عدة ما زالت مطروحة حول أسباب هذا الاعتداء ودوافع المعتدي، بخاصة أنه ليس شخصاً عادياً وإنما أحد أعوان الحرس الوطني.
من جهة أخرى، فإن هذا الاعتداء حصل فيما يعتقد التونسيون أنهم تخطوا الفترة السوداء التي تكررت فيها الاعتداءات الإرهابية الدامية في 2015 و2016، مع أحداث باردو وقتل سياح أجانب على شواطئ أحد النزل في سوسة. كما أنه يأتي بالتزامن مع انتهاء حكم الإخوان في تونس وزج قياداتهم في السجون، وآخرهم الرئيس التاريخي لحركة النهضة راشد الغنوشي. فكيف يمكن إذا ًتفسير توقيت هذا الاعتداء، بخاصة أن السلطات التونسية لم تُفصح إلى الآن عن مزيد من المعلومات بخصوصه؟
يقدم علية العلاني، الباحث في الجماعات الإسلامية، ثلاثة تفسيرات لما حصل، التفسير الأول هو أن “للحج السنوي لمعبد الغريبة رمزية خاصة عند اليهود، وهو يجذب سنوياً آلاف الحجاج من جنسيات مختلفة من العالم، بالتالي، فإن استهدافه من الجماعات المتشددة، لو ثبت ذلك، يعد هدفاً ذا أهمية كبرى لهم. وهو ما حصل سابقاً في 1985 وفي 2022”. التفسير الثاني، حسب الباحث، هو “حقيقة تسرب بعض العناصر المتشددة إلى وزارة الداخلية، بسبب التساهل في انتداب أعوان الأمن إبّان عهد الترويكا وهيمنة حركة النهضة على الحكم، وهو أمر ليس خفيّاً في تونس، وقد أكدته وسائل إعلام عدة”.
أما التفسير الثالث، حسب لعلاني، فهو “تكرُّر الإقالات في صفوف القيادات الأمنية أخيراً، بسبب إعادة فتح ملفات تسفير التونسيين الى بؤر التوتر والقضايا الإرهابية، وبالتالي، قد تكون العملية الأخيرة ردة فعل على ذلك”.
وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء الحادثة، فإنها تفضح قبل كل شيء خللاً أمنياً سمح للمعتدي، وهو من سلك الحرس البحري، باختراق المنظومة الأمنية والوصول على بعد أمتار قليلة من مدخل المعبد لتنفيذ مخططه، وإصابة 6 أعوان أمن واثنين من الزوار، قبل أن يتم ارداؤه قتيلاً من الأمنيين الموجودين لحراسة الكنيس.
بالتالي، “وجبت اليوم مراجعة المنظومة الأمنية، بخاصة الاستخباراتية، لتفادي وقوع عملية كهذه في المستقبل”، يؤكد الباحث العلاني.
إقرأوا أيضاً: