منذ إعلان السلطات السعودية القبض على الـ”يوتيوبر” المصرية تالا صفوان بعد “مساسها بالآداب العامة”، وإتيانها فعلاً “خادشاً للحياء”، تصاعدت حملة تحريض ضد الشابة تطالب بمعاقبتها بقسوة.
وهذه الحملات باتت سمة تطاول الكثير من صانعي المحتوى خصوصاً من النساء مع تحول منصات التواصل الاجتماعي الى مساحات عامة تكثر فيها المحاكمات الالكترونية والتي يبدو أنها باتت أداة ضغط تستغلها أحياناً السلطات.
وتالا هي “يوتيوبر” مصرية اشتهرت على منصة “تيك توك” في الخليج كناشطة وصانعة محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي.

تشارك تالا مشاكل العلاقات الاجتماعية وحلولها والشائعات والقصص مع الجمهور وتجاربها مع السفر، وجمعت فيديوهاتها أكثر من 10 ملايين مشاهدة. ويُلاحظ أن أغلب الفيديوهات التي تقوم بنشرها ذات محتوى عادي يهم المراهقين والشباب في بداية العمر.
لكن الفيديو الذي ألقي القبض عليها بسببه، تم تفسير محتواه على أنه يحمل إيحاءات جنسية مثلية بعد دعواتها إحدى المتحدثات معها عبر لايف على “تيك توك” أن تأتي إلى البيت في الثالثة والنصف فجرا، وبمجرد أن نشرت الفيديو، ظهرت سريعا “هاشتاجات” تطالب بالقبض عليها كان أكثرها انتشاراً “تالا تسيء للمجتمع“.
شعرت تالا صاحبة العشرين عاما بالخطر وأصيبت بالخوف بعد الحملات ضدها وخرجت في بث فيديو آخر تدافع عن نفسها وأنها لم تقصد ما قيل عنها وأن الفيديو جرى اجتزاؤه من سياقه ونفيها وجود أي معنى ضمني مثلي في تعليقاتها.
ومثل هذه الفيديوهات تثير إشكالية حقيقية حول مدى الحريات المتاحة في دول تملأ الفضاء العام بدعايات حول انفتاح وتغيير في السياسات.
ففي المقاييس الدولية لحرية التعبير لم ترتكب تالا جرماً أو انتهاكاً او تحريضاً بل كل ما قالته تعليق يحمل تأويلات مختلفة، حتى لو كانت تأويلات جنسية لكنها تبقى في حدود الحرية الشخصية.
وهنا مكمن الإشكالية.
هي فتاة تظهر على السوشيال ميديا ولديها متابعون كثر وتطرح محتوى ليس بالضروري هادفاً لكنه في أحيان يعتبر جريئاً، وهذا ربما مكمن الحملة عليها.
هيئة “الأمر بالذوق العام”
التهمة التي ألقي القبض على “تالا” بسببها تتعلق بـ”خدش الحياء ومخالفة الذوق العام”، وهي أشبه بالتهمة التي كانت هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” توقف على أساسها الفتيات في الشوارع والمطاعم، لكنها تهمة صدرت اليوم في ظلّ ما يروج له من إصلاحات دينية واجتماعية وخطط التحديث لتغيير الصورة النمطية عن المملكة، وصدور قرار حكومي بتقليص سلطات “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” عام 2016.
كان للهيئة دور كبير في التنكيل بعدد من المواطنين والمواطنات السعوديات لدرجة أن الأمر وصل إلى الاعتداء الصارخ على النساء السعوديات في الشوارع وهن بصحبة أزواجهن.
الآن صار دورها مقتصراً على حملات التوعية بالأخلاق ويقضي عناصر الهيئة وقتهم في مكاتبهم دون الاحتكاك بالمواطنين.
لكن في أبريل 2019 أصدرت الحكومة قانوناً تحت مُسمى “الذوق العام” وقدمته على أنه مجموعة من السلوكيات التي تعبر عن قيم المجتمع ومبادئه وهويته ويعاقب بناء عليه كل من يرتدي زياً غير محتشم أو لباساً عليه صور او رموز أو عبارات تسيء للذوق العام بعقوبات قد تصل إلى الحبس. كان ذلك أشبه بـ”هيئة الأمر بالمعروف” لكن في ثوب مدني، وهو القانون الذي بموجبه ألقي القبض على تالا صفوان.
تصف معاهد ومراكز أبحاث غربية، مثل “معهد الخليج للدراسات” في واشنطن تلك التعديلات والتغييرات بأنها مجرد “كلام على ورق” ودعاية.
ليست تالا فحسب من طاولها القانون. في أيلول/ سبتمبر 2021 ألقت السلطات السعودية بموجبه القبض على فتاتين في المنطقة الشرقية بعد ظهور إحداهما وهي ترقص من نافذة سيارة والأخرى تصورها. ووصفت ملابسهما بـ”الخادشة للحياء”، وعملية الضبط تمّت أيضاً بعد حملات على السوشيال ميديا ضد الفتاتين.
وبموجبه أيضاً ألقي القبض على عارضة أزياء تُدعى خلود بسبب “ترويجها للأماكن الأثرية بالسعودية بملابس قصيرة”، وبموجبه ألقي القبض على مصري لأنه “أفطر في الشركة” مع زميلته السعودية. القانون بدا واضحاً أنه محاولة لاستكمال مسيرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وبدا واضحاً أنه محاولة لاسترضاء المجتمع الذي لم يعجبه إلغاء “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، لدرجة أنه بموجبه تُفض حفلات موسيقية وتجمعات وتجري ملاحقة حتى الذين يرتدون “شورت” من الذكور.
رغم الترويج الكبير دعائياً وإعلامياً للتحولات الكبرى الحاصلة في السعودية على مستوى الترفيه والتنقل والحياة العامة إلا أن تلك المحاولات تصطدم بواقع معقد سياسياً واجتماعياً أيضاً، فمن السهل متابعة اعتداءات على فتيات قررن قيادة السيارات في الشوارع بعد السماح لهن، أو إبلاغ بعضهن عن رفض أسرهن إعطائهن الإذن بالقيادة رغم إلغاء الحظر ولا يزال يُعتدى عليهن في الشوارع.
ورغم القوانين التي سمحت بسفر المرأة السعودية وحدها واتخاذ قرارها بالزواج والطلاق دون إذن ولي أمر، لا يزال يتعين على السعوديات أن يحصلن على إذن ولي الأمر بعيداً عن القانون. ولا تزال 63% من السعوديات مُجبرات على ارتداء النقاب رغم السماح برفع غطاء الرأس.
وحتى في مجال العمل ورغم التوجه نحو فتح سوق العمل أكثر أمام النساء وإعلانها تضاعف نسبة حضور النساء في سوق العمل إلى 35%، واختيار تعيين أول سيدة كوزيرة في الحكومة السعودية إعلاناً لتلك المرحلة، إلا أن الأمر على الأرض يعكس واقعاً مختلفاً.
عقد اجتماعي
العقد الاجتماعي الأول للسعودية كان أساسه تسيير الأمور التي تخص المجتمع بواسطة رجال الدين أما الأمور التي تخص الحكم فهي للأسرة الحاكمة، ومع اكتشاف النفط سادت السعودية المعادلة القائمة على مقايضة السياسة والسلطة بالرفاهية تحت مظلة استخدام الدين كوسيلة حكم.
لكن مع التغيرات الاقتصادية العالمية الجديدة ومحاولة السعودية تقديم نفسها في صورة أخرى إلى العالم ورغبتها تقديم نفسها كممثل معتدل للشرق الأوسط، كان لزاما عليها أن تغير من عقدها الاجتماعي الثاني وأن تسمح بحريات أكثر وتحجيم أكثر لرجال الدين وتمكين أكثر للمرأة.
واقعة القبض على تالا لاقت تغطية من الصحف الأجنبية مثل الوقائع التي سبقتها، وفي الوقت الذي يصر فيه النظام السعودي على أنه يمضي قدماً في مسار التغيير من أجل الاندماج وتقديم صورة مختلفة عبر رؤية 2030، تصف معاهد ومراكز أبحاث غربية، مثل “معهد الخليج للدراسات” في واشنطن تلك التعديلات والتغييرات بأنها مجرد “كلام على ورق” ودعاية.
إقرأوا أيضاً: