رحلت قبل أيام المنتجة والفنانة المصرية المعروفة اعتماد خورشيد (82 عاماً)، طاوية برحيلها الكثير من الحكايات والأسرار التي شغلت الرأي العام المصري على مدى عقود.
برز اسم اعتماد خورشيد فجأة في حقبة الستينيات، عندما أصبحت أحد شهود اﻹثبات في القضية المشهورة باسم “قضية انحراف المخابرات”، عام 1968. كان ذلك في أعقاب الهزيمة في 1967، وكانت القضية التي وجهت فيها الاتهامات إلى صلاح نصر، مؤسس جهاز الاستخبارات العامة المصرية الفعلي ورئيسه منذ عام 1957، لإخضاعه عدداً كبيراً من الفنانات المصريات واستغلالهن جنسيا في عمليات التخابر لصالح مصر ضد دول مختلفة. كانت القضية حدثًا جللًا هز المجتمع المصري الذي كان حينها لا يزال يتخبط في صدمة هزيمة حزيران/ يونيو 1967.
سلّط دور اعتماد خورشيد في هذه القضية عليها أضواءً استثنائية، حرصت هي لاحقًا على إبقائها ساطعة ﻷطول وقت ممكن. واستثمرت خورشيد هذه اﻷضواء بنشر مذكراتها حول علاقتها بصلاح نصر، في المرة اﻷولى في السبعينات من خلال مجلة السياسة الكويتية، التي كان يرأس تحريرها حينها الصحفي الكويتي أحمد الجارلله. ثم مرة أخرى، مع مزيد من التفاصيل، في كتاب صدر في نهاية الثمانينات بعنوان “انحرافات صلاح نصر”، ولا زال يعاد طبعه حتى يومنا هذا كأحد الكتب اﻷكثر شعبية في مصر على أرصفة “وسط البلد”.
تقول اعتماد خورشيد في مذكراتها: “قدر لي أن أكون بالقرب من صلاح نصر 4 سنوات كاملة لمست خلالها قوة الانحراف الذي ساد مصر، كان صلاح نصر يستطيع فيها فعل أي شيء من دون حساب أو رادع قانوني، فقد كان هو القانون، كانت خطته تعتمد على تسجيل الهمسات، فزاد استيراد أجهزة التنصت والرقابة والتصوير الخفي لكل الناس”.
أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى أن يكون لاعتماد خورشيد مكانة خاصة في القضية، وكذلك إلى أن تحظى مذكراتها لاحقًا بهذا الاهتمام الاستثنائي، كان إعلانها أنها كانت زوجة لصلاح نصر طيلة أربعة أعوام، وقدمت، ﻹثبات ذلك، عقد زواج عرفي، وقالت في مذكراتها أن نصر هدّد زوجها بإيداعه في مستشفى اﻷمراض العقلية، إن لم يطلقها حتى يتسنى لنصر الزواج منها وهي أم لخمسة أبناء، بل وأرغمه على التوقيع بنفسه على ذلك العقد. هذه الادعاءات لم يثبت حتى اليوم صدقها أو كذبها، بشكل يقيني، ولكنها على أي حال كانت كافية لأن تدعم ادعاء خورشيد أنها كانت قريبة بما يكفي لتعرف عن ممارسات نصر وجهاز المخابرات العامة، وبصفة خاصة ما يتعلق بالوقائع التي دارت حولها الاتهامات في القضية.
الوقائع اﻷساسية في القضية كانت تدور حول استخدام فنانات معروفات، ونساء أخريات، كعنصر استدراج وإغراء لعملاء محتملين من ذوي المناصب والنفوذ في دول أخرى، أو داخل مصر. ما سمي في أوراق القضية باستخدام “العنصر النسائي”، كان العمل به قد بدأ حوالي عام 1962، وكانت خطة نصر تشمل كما ورد في التحقيقات ومذكرات خورشيد “ارتكاب جنايات هتك عرض باستغلال وسائل التواصل الفوتوغرافي السرية في استدراج بعض النساء/ الفنانات والتقاط صور فاضحة لهن بطريقة الخديعة في مكان أعد لهذا الغرض، ثم تهديدهن والسيطرة عليهن ليتمكن من اخضاعهن لشهواته الخاصة”.
الصحافى المعروف مصطفى أمين كان من ضمن المطلعين على ملف تجنيد “العنصر النسائي”، وخصوصاً الفنانات في المخابرات المصرية، وقبل أن تعلن اعتماد خورشيد كل كواليس هذا التجنيد أمام محكمة الثورة وأمام الرئيس جمال عبد الناصر في منزله ولاحقا في مذكراتها. فبحكم الصداقة التي جمعت بين مصطفى أمين والفنانة شادية، علم منها بكواليس العالم المظلم لصلاح نصر ونجح في حماية صديقته شادية من مخالبه حتى لفق له نصر تهمة التآمر مع أمريكا ونجح في سجنه لفترة كما تذكر اعتماد خورشيد في مذكراتها. أمين يصف المطاردات التي تعرضت لها خورشيد من نصر: “أخذت ابنها وهربت إلي بيروت ولم يكن معها سوى 13 جنيهًا مصريًا، وقالت أنها سجلت هي ووالدتها أحاديث الرجل الخطير التليفونية وتهديداته، وأنها اضطرت أن تبقى في بيروت أربع سنوات بعيدة عن مصر لأن المسؤول الكبير كان يطاردها بشراسة”.
الفنانة مريم فخر الدين أعلنت في حوار صحفي مع محمد بديع سربيه كيف أن رجلاً خطيرًا من أصحاب النفوذ في الستينات رمزت له بحرفي ( ص.ن ) طاردها. وقالت إنه حاول إخضاعها بالضغط والإرهاب والتهديد “ولكني حاربته بأسناني وأظافري”.
بحسب مذكرات خورشيد، كانت النجمة المصرية سعاد حسني أكثر ضحايا نصر تعرّضاً للأذية، فهذه “الرقيقة” كما تصفها خورشيد، جرى الاعتداء عليها وتصويرها لتسهيل تجنيدها، وتضيف عن حكاية “سندريلا الشاشة”، بأنه، “جرى تصويرها بالقوة وتهديدها للرضوخ لأوامر السيطرة وتجنيدها بمرتب شهري، وعندما قللت من نشاطها في المجال الذي كلفت به، وكان ميدان السياسة العربية ، جرى إخضاعها مرة أخرى بعد أن أرسل لها صلاح نصر أحد العملاء لينتحل صفة منتج سينمائي عربي ليتعاقد معها على فيلم مشترك تلعب بطولته، وقام الشيطان صلاح نصر باستدعاء قوادة معروفة لديه لتجنيد الممثلة الرقيقة، فاستأجروا لها شقة مفروشة لتعيش مع المنتج العربي المزيف واكتشفت أنه تم تصويرها بالصوت والصورة”.
تقول اعتماد في مذكراتها أن “القدر أنقذ أربع فنانات معروفات من قبضة صلاح نصر، وهربن بعد ان حاصرهن بشباكه، وهنّ لبنى عبد العزيز وفاتن حمامة وشادية وليلى رستم، “شعرت فاتن بما يدور حولها وبدأت تتصرف بسرية شديدة وقررت أن تصفى كل أعمالها وثروتها وتهاجر إلى باريس، وهكذا فعلت هند رستم وتركت مصر إلى لبنان وعادت بعد سجن صلاح نصر لـ15 عامًا”.
ربما أصبحت خورشيد حسب الروايات المختلفة عميلة للاستخبارات في عام 1964، وحينها كما تدعي بدأت علاقة نصر بها. مذكرات خورشيد كما نشرتها في سلسلة من خلال جريدة “السياسة”، ثم في كتاب، تجمع بالتأكيد بين عناصر اﻹثارة والسياسة والعمل السري للاستخبارات، وبين فضائح مشاهير الفن والسياسة، وبين الجنس والفساد واستغلال النفوذ. في المحصلة كانت تلك “وجبة” لا يمكن توقع كساد سوقها بأي حال. وفي حين أن صدق ما ورد في هذه المذكرات يعتمد في غالبيته على مصداقية صاحبتها فقط، إلا أن أغلب قرائها كانوا أميل للرغبة في تصديقها في نهاية المطاف.
يحب الناس أن يصنعوا اﻷساطير، ولكن ما يعشقونه أكثر هو رؤيتها وهي تتهدّم. ولم يكن هناك جهاز من أجهزة الدولة المصرية في الفترة السابقة للهزيمة يحاك حوله مثل هذا القدر من اﻷساطير مثل جهاز الاستخبارات العامة ومن ثم كان رئيسه نفسه أسطورة لا تقارعها إلا أسطورة المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش، والرجل الثاني في الدولة، ولسنوات عديدة، والمنافس اﻷخطر لجمال عبد الناصر نفسه.
قرب صلاح نصر من عبد الحكيم عامر، واحتسابه أحد أهم أعوانه، يفسر في نظر بعض المحللين جرّ نصر إلى هذه الفضيحة والمحاكمة. لم يعد سرًا قدر الخلاف والصراع الذي دار بين عامر وبين عبد الناصر في سنوات ما قبل الهزيمة. وفي أعقابها، احتدم هذا الصراع بصورة أكبر لينتهي بوفاة عامر منتحرا من الناحية الرسمية، في حين يؤكد كثيرون أنه قد اغتيل. ومن ثم كان فضح كبار أعوان عامر ومنهم صلاح نصر، يحقق هدفين: اﻷول هو إبعادهم عن مواقع السلطة والتخلص منهم، والثاني إلقاء عبء الهزيمة على أكتافهم، ومحاولة إظهار براءة عبد الناصر من الهزيمة نفسها ومن فساد أجهزة الدولة. وتظل صحة مثل هذه الافتراضات بالطبع عصية على اﻹثبات أو النفي القاطع اليوم.
بعد أكثر من نصف قرن على الوقائع التي صنعت شهرة اعتماد خورشيد، تبقى حياتها التي تقاطعت مع حياة الضباط الكبار في فترة تكوينية من تاريخ مصر، تنبئنا بتفاصيل ديناميكيات الصراع داخل أروقة السلطة ودهاليزها في مصر، وما يمكن أن تكون قد أنتجته من آثار باقية في بنية أجهزة الدولة المصرية إلى اليوم. وبعبارة أخرى، قد لا تصدق كثير من الوقائع التي ادعت خورشيد أنها كانت شاهدة عليها، وما يمكن أن نصدقه في الحقيقة لا يبتعد كثيرًا عن ممارسات أجهزة الاستخبارات في جميع دول العالم، أمس واليوم أيضًا، ولكن ما يهمنا اليوم هو آليات إعادة تشكيل بنية أجهزة السلطة في أعقاب صراع مرير داخل أروقتها، وهي لحظة مهمة في تاريخنا المعاصر، لم تنطو آثارها بغياب أبطالها واحدًا تلو اﻵخر.
إقرأوا أيضاً: