ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

اقتصاد مصر: خدعة “بونزي” برعاية رسمية ؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في عالم المال، يشير مصطلح مخطّط بونزي إلى نوع من الاحتيال المالي ظهر مطلع القرن العشرين، يقوم على وعد المستثمرين بأرباح مرتفعة، بينما تُدفع هذه الأرباح في الواقع من أموال المستثمرين الجدد لا من عائد استثمار حقيقي. يستمرّ هذا الوهم طالما ظلّت التدفّقات المالية الجديدة تتدفّق، ويتهاوى فور أن تتباطأ أو تنقطع. في مصر، استعان الخبير الاقتصادي جودة عبد الخالق بهذه الاستعارة اللافتة لتوصيف حال المالية العامّة، كعدسة تفسيرية لفهم الوضع. فخلال مقابلة في برنامج “نعرف اقتصاد” مع سيّد جبيل، قال جودة إن “الدولة المصرية تسدّد القروض السابقة بقروض جديدة، وتغطّي فوائد الدين القديم عبر إصدار دين إضافي – وهو ما يشبه من منظور اقتصادي نظام بونزي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عالم المال، يشير مصطلح “مخطّط بونزي” إلى نوع من الاحتيال المالي ظهر مطلع القرن العشرين، يقوم على وعد المستثمرين بأرباح مرتفعة، بينما تُدفع هذه الأرباح في الواقع من أموال المستثمرين الجدد، لا من عائد استثمار حقيقي. 

يستمرّ هذا الوهم طالما ظلّت التدفقات المالية الجديدة تتدفّق، ويتهاوى فور أن تتباطأ أو تنقطع. في مصر، استعان الخبير الاقتصادي جودة عبد الخالق بهذه الاستعارة اللافتة لتوصيف حال المالية العامّة، كعدسة تفسيرية لفهم الوضع. فخلال مقابلة في برنامج “نعرف اقتصاد” مع سيّد جبيل، قال جودة إن “الدولة المصرية تسدّد القروض السابقة بقروض جديدة، وتغطّي فوائد الدين القديم عبر إصدار دين إضافي – وهو ما يشبه من منظور اقتصادي نظام بونزي”.

تأتي هذه الرؤية النقدية ردّاً على تصريحات رسمية متفائلة. فمنذ منتصف العام 2025، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أكثر من مرّة أن “مصر تجاوزت أزمتها الاقتصادية”، مشيراً إلى “الخطّة الوطنية للتنمية الاقتصادية” التي “تستهدف رفع النمو إلى 7% وخفض الدين العامّ إلى أقل من 80% من الناتج المحلّي بحلول 2030، وزيادة مساهمة الصناعة إلى 18% من الاقتصاد”.

لكنّ الأرقام الرسمية نفسها تكشف صورة مختلفة: فمشروع موازنة 2025/2026، يتوقّع إيرادات بنحو 3.1 تريليونات جنيه مقابل مصروفات تصل إلى 4.6 تريليونات، أي بعجز يتجاوز 1.5 تريليون جنيه (نحو 7% من الناتج المحلّي). الأخطر أن خدمة الدين وحدها – أقساط وفوائد – تقترب من 4 تريليونات جنيه، أي أكثر من إجمالي الإيرادات وتستحوذ على نحو 96% من المصروفات.

هذه المفارقة بين خطاب سياسي متفائل وأرقام مالية ضاغطة، هي ما تجعل استعارة “نظام بونزي” أكثر من مجرّد تشبيه؛ بل محاولة لتفسير كيف أصبح الاقتصاد المصري يعتمد على تدفّقات مالية متكرّرة – من قروض وودائع وبيع أصول – إلى سداد التزامات الماضي، في غياب توسّع إنتاجي حقيقي يضمن الاستدامة.

الأخطر أن خدمة الدين وحدها – أقساط القروض وفوائدها – تقترب من 4 تريليونات جنيه، ما يفوق إجمالي الإيرادات الحكومية نفسها. هذه الوضعية تعني بلغة الحسابات أنه يكاد لا يبقى شيء للتعليم أو الصحّة أو الاستثمار التنموي، إذ تلتهم خدمة الدين نحو ثلثي إنفاق الدولة

يضطرّ الاقتصاد هنا إلى العيش على “الأموال التالية” لسداد “الأموال السابقة”؛ وعود المسؤولين المتفائلة تصبح أشبه بـإيصالات أرباح مؤقّتة في لعبة مالية مغلقة. وكما يشرح جودة عبد الخالق، هذا الوضع يتجاوز كونه أزمة سيولة عابرة، بل هو هيكل أزمة يجعل مصر تعيش على تدوير الزمن المالي: “معنى الكلام أن مصر تقوم بتسديد القروض السابقة بقروض جديدة، وده في المصطلح الاقتصادي بونزي سكيم*”.

اقتصاد بالتدوير: من يدفع الفاتورة؟

رغم هذه الصورة المقلقة، تستمرّ لغة التصريحات الرسمية في منح الجمهور جرعات أمل آنية. فالحكومة تؤكّد أنها لن تتخلّف عن سداد ديونها، وتعلن خططاً لجذب استثمارات خارجية بمليارات الدولارات، مطمئنةً الناس أن “الأزمة تحت السيطرة”. هذه اللغة التفاؤلية تعمل كالعمود الفقري لـدراما الثقة: الناس يصدّقون – أو يريدون أن يصدّقوا – لأن الخطاب الرسمي يمنحهم أرباحاً معنوية فورية من الأمل. لكن ماذا وراء الكواليس؟ من يسدّد الثمن الحقيقي لكلّ هذه االتطمينات؟

يُظهر الوجه الآخر لهذه اللعبة ما تكشفه بيانات البنك المركزي المصري نفسها: فمع تزايد عجز الموازنة، بدأت الحكومة تمتصّ النسبة الأكبر من السيولة المصرفية عبر سندات الخزانة وأذونها. 

وبحلول نهاية 2024 بلغت حصّة الحكومة نحو 57% من إجمالي الائتمان المصرفي المحلّي، بينما تراجع نصيب القطاع الخاصّ إلى 20% فقط ، أي أن الدولة أصبحت المقترض الأكبر في السوق المحلّية، تاركةً الفتات لمصانع القطاع الخاصّ ومشاريعه. وهو أمر ناقشه البرلمان المصري صراحة، إذ حذّر نوّاب من أن الدين العامّ وصل إلى 11.5 تريليون جنيه بزيادة 33% خلال عام واحد، معتبرين أن “هذه الأرقام أنهكت المصريين”.

النائب ضياء الدين داوود تساءل بغضب: “هل يمكن القبول بأن نمدّد عمر هذه الحكومة وهذه نتائجها؟”، الواقع أن انفراد الدولة بالاقتراض تسبب في رفع تكلفة المال على الجميع: ارتفعت أسعار الفائدة إلى مستويات فلكية، واضطرّت المصانع لتقليص توسّعاتها أو وقفها، إذ لا تستطيع منافسة الحكومة على قروض البنوك ذات العائد المرتفع.

بالتوازي، ثمّة فاتورة اجتماعية يدفعها المواطن العادي من نوع آخر. فكلما ارتفع عبء خدمة الدين تقلّص الهامش المتاح للإنفاق الاجتماعي. ووفق “هيومن رايتس ووتش” خصّت مصر للتعليم في موازنة 2024/25 نحو 295 مليار جنيه فقط، أي 1.7% من الناتج و5.3% من إجمالي الإنفاق؛ وهي نسب أدنى بكثير من الاستحقاق الدستوري والمعايير الدولية، ما يعكس تزاحم أولويّات المالية العامّة على حساب التعليم. هيكلتها لتسدّ عجز المعلمين، ومستشفيات حكومية ترزح تحت نقص المستلزمات، وشبكة مواصلات تؤجّل صيانتها.

حياد الدولة أم لعبة مزدوجة؟

يروّج الخطاب الرسمي لمفهوم حياد الدولة التنافسي باعتباره الحلّ السحري لإطلاق نموّ القطاع الخاصّ. تنصّ استراتيجية الحكومة المعلنة على ضرورة تكافؤ الفرص بين شركات الدولة والشركات الخاصّة، وأن تتنافس كلّها في السوق على قدم المساواة. 

نظرياً، هذا كلام جميل: دولة “حكم” تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تلعب لمصلحة فريقها. لكنّ الواقع يُظهر صورة معقّدة: فعندما تكون الدولة لاعباً وحكماً في آنٍ معاً، يصعب الحديث عن حياد حقيقي. هناك أمثلة صارخة: شركات الجيش المصري، على سبيل المثال، تتمتّع بامتيازات حصرية لا تتوفّر لمنافسيها في السوق. تحقيق استقصائي حديث كشف أن المؤسسّات التابعة للقوّات المسلّحة تحظى بإعفاءات ضريبية وجمركية واسعة، وتستعين بمجنّدين كأيدٍ عاملة زهيدة التكلفة، وتفوز بمعظم العقود الحكومية بالأمر المباشر.

النتيجة هي بيئة غير متكافئة تماماً: القطاع الخاصّ المدني يجد نفسه عاجزاً عن منافسة كيان يمتلك السلطة والموارد والميزات الاستثنائية. هيمنة الجيش على قطاعات واسعة تعيق نموّ القطاع الخاصّ وتحدّ من قدرته على خلق الوظائف. حتى صندوق النقد الدولي، في مراجعته الأخيرة لبرنامج مصر، شدّد بلهجة غير معتادة على أهمّية انسحاب الدولة والجيش من الأنشطة الاقتصادية، لضمان تكافؤ الفرص بين القطاعين العامّ والخاصّ.

في بعض المناقصات الكبرى، يتقدّم القطاع الخاصّ بعروض تنافسية، ثم يظهر فجأة مستثمر سيادي – إحدى الجهات الحكومية – ليفوز بالمشروع دون منافسة فعلية. هذه المفارقة تزداد وضوحاً مع إعلان الحكومة نيّتها طرح حصص من شركات يملكها الجيش عبر صندوقها السيادي لجذب الاستثمار، وفي الوقت ذاته تؤكّد التزامها أمام المستثمرين الأجانب بمنافسة عادلة. لكنّ هذه الوعود تصطدم بممارسات على الأرض: فكيف يطمئنّ مستثمر إلى أن الدولة لن تغير القواعد في منتصف اللعبة إذا اقتضت مصلحتها؟ وكيف يثق صاحب مصنع صغير بأن منافساً مملوكاً للحكومة لن يحظى بمعاملة تفضيلية من الجهات التنظيمية؟ أسئلة الثقة هذه تتراكم يوماً بعد يوم، وتتسلّل إلى صميم الخيال العامّ: هل يمكن تحقيق عدالة في ملعب يملك فيه الحكم فريقاً من اللاعبين؟ 

كلفة المال وتقلّب الكرسي تحت الصنّاع

على بعد بضع أميال من مكاتب الحكومة، يعيش أصحاب المصانع والمشروعات المتوسّطة حبكة يومية معقّدة بطلها سعر الفائدة وسعر الصرف. فبعد أن كانت القروض التشغيلية تُمنح بأسعار فائدة تدور حول 13% قبل عامين، يجد الصناعيون أنفسهم اليوم يواجهون تجديد القروض بفوائد تتجاوز 20% سنوياً، بسبب القفزات التي اتّخذها البنك المركزي لكبح التضخّم (هذه القفزة أضافت أعباءً شهرية ضخمة على كلفة التمويل، وأجبرت المصانع على رفع أسعار منتجاتها وتقليص هوامش أرباحها). بالتوازي، شهد الجنيه المصري ثلاث موجات تعويم منذ 2022، فقد في آخرها أكثر من نصف قيمته؛ إذ انتقل سعر الدولار من 15.7 جنيهاً في 2021 إلى نحو 30 جنيهاً مطلع 2023، ثم تجاوز 50 جنيهاً في السوق الموازي خلال اضطراب آذار/ مارس 2024، هذه التقلّبات جعلت كلفة الخامات المستوردة تتضاعف تقريباً، وحالت دون قدرة المصانع على التخطيط لتوسّع أو شراء معدّات جديدة في ظلّ مستقبل مالي ضبابي.

وتشير تقارير اتّحادات المستثمرين إلى أن آلاف المصانع الصغيرة قلّصت إنتاجها، أو أغلقت مؤقتاً خلال العامين الماضيين، بسبب صعوبة تدبير الدولار لاستيراد الموادّ الخام وارتفاع فوائد الاقتراض. حتى من يملك السيولة يفضّل الانتظار بدل المجازفة في بيئة لا تستقرّ فيها الأسعار لشهرين متتاليين. 

هكذا تتحوّل تقلّبات المؤشّرات المالية إلى عائق يومي يعطّل اتّخاذ أي قرار إنتاجي متوسّط أو طويل الأجل. والنتيجة دائرة مفرغة: الإنتاج يقلّ بسبب شحّ التمويل وانعدام اليقين، فترتفع الأسعار والتضخّم، فتزيد البنوك الفائدة أكثر، فينكمش الإنتاج مجدّداً. ويشير الصناعيون إلى أن وزارة المالية نفسها تصدر سندات خزينة بفائدة تفوق 20% لجذب المشترين (ما يضع القطاع الإنتاجي في منافسة خاسرة مع الدولة على كلفة المال).

لحظة انهيار الثقة: متى تتوقّف اللعبة؟

 في كلّ مخطّط بونزي مالي هناك لحظة مفصلية ينهار فيها الهرم: عندما تتباطأ التدفّقات الجديدة بما لا يكفي لإرضاء وعود الماضي. والسؤال المطروح على الاقتصاد المصري اليوم: هل يمكن أن يواجه لحظة كهذه؟

المشهد الحالي يكشف عن هشاشة معتمدة على تدفّقات مؤقّتة. فاستثمارات خليجية وودائع بمليارات الدولارات أُدخلت إلى البنك المركزي على مدار الأعوام الماضية، لكنّها بطبيعتها محدودة الأجل وقابلة للاسترداد عند الاستحقاق. كما أن برنامج بيع الأصول المملوكة للدولة تأخّر في التنفيذ، ولم يجلب بعد العوائد المتوقّعة بالعملة الصعبة. وبحسب تقارير صحافية، اضطرّت مصر بالفعل إلى إعادة جدولة بعض الديون القصيرة الأجل بشكل غير معلن، لتفادي ضغوط الاستحقاقات الفورية.

هذه التطوّرات تضع علامات استفهام على خطاب “تجاوز الأزمة”. فالأرباح أو المكاسب التي يجري الحديث عنها لم تأتِ من توسّع إنتاجي أو نموّ مستدام في التصدير، بل من تدوير متواصل للديون والرهان على تدفّقات جديدة. إذا تباطأت وتيرة هذه التدفّقات – سواء قروض جديدة، أو ودائع داعمة، أو عوائد بيع الأصول – فإن الحكومة ستجد نفسها أمام صعوبة الوفاء بالوعود المتعلّقة بتثبيت الأسعار أو الحفاظ على قيمة العملة أو سداد الديون في مواعيدها.

يحذّر اقتصاديون من أن الثقة، وهي الركيزة التي يقوم عليها هذا النموذج، يمكن أن تتبخّر بسرعة، إذا فقد المستثمرون أو الدائنون قناعتهم بقدرة الدولة على جذب التمويل المستمرّ. وقد استُشهد في أكثر من تحليل بتجارب دول أخرى، مثل لبنان، حيث انهار النموذج المالي القائم على الاستدانة المتواصلة عندما توقّفت التدفّقات، وتراجعت الثقة في أيّام معدودة. ورغم أن وضع مصر مختلف من حيث الحجم والدعم الخارجي، فإن الآليّة الجوهرية واحدة: أيّ توقّف أو تباطؤ ملحوظ في التدفّقات يجعل عدد “الكراسي” أقلّ من عدد اللاعبين، وتنكشف هشاشة اللعبة.

لغة جديدة وكرسي مختلف: نحو الخروج من الحلقة

هل يمكن تخيّل نهاية أخرى لهذه الحبكة غير الانهيار؟ في الفصل الأخير من هذه الدراما المالية، يبرز سؤال البحث عن بدائل سردية. ربما آن الأوان لكتّاب السيناريو الاقتصادي في مصر أن يجرّبوا قاموساً جديداً لا يعد الناس بعوائد فورية سهلة، بل يَعِدهم بملاءة واستدامة مبنية على إنتاجيّة حقيقية. هذا يتطلب، بداية، مصارحة غير معتادة: الاعتراف بأن معجزة اقتصادية لن تحدث بين ليلة وضحاها، وأن سنوات من المعالجات التجميلية حان وقت استبدالها بجراحة هيكلية حقيقية.

 ماذا لو خرج مسؤول ليقول بوضوح: “نعم، نعاني أزمة سيولة ودين، ولن نزعم أنها حُلّت بخطاب. الحلّ يتطلّب زمناً أطول لاستحقاقات الديون واتّفاقاً مجتمعياً على تحمّل كلفة الإصلاح”، الخطوة التالية ستكون ترجمة هذه المصارحة إلى إجراءات ملموسة. 

على سبيل المثال، إعادة هيكلة الدين العامّ لتمديد آجاله بشكل يُبعد شبح ضغط السداد السنوي الخانق. بالفعل، هناك أحاديث في الكواليس عن نجاح مصر في مدّ آجال بعض الودائع الخليجية وتحويلها إلى استثمارات أطول أمداً بدلاً من قروض قصيرة؛ مثل هذه الخطوات، إن أُعلنت بشفافية، قد تمنح الاقتصاد أكسجيناً طويل الأجل بدل الجرعات المؤقّتة.

بالمثل، يمكن رصد إشارات صغيرة لكنّها محسوسة على تغيّر المناخ المالي. قد تبدو استعادة الثقة في الاقتصاد المصري رهينة بخطوات ملموسة أكثر من ارتباطها بالشعارات. فمثلاً، أيّ انخفاض فعلي في أسعار الفائدة على قروض المشروعات الصغيرة والمتوسّطة إلى ما دون 10%، يمكن أن يخفّف الضغط عن آلاف المصانع ويحفّز الاستثمار الإنتاجي. كذلك، تراجع العائد على أذون الخزانة الحكومية من مستويات قاربت 25% إلى حدود أقلّ من 15%، سيكون إشارة إلى انحسار المزاحمة الشرسة التي تفرضها الدولة على السيولة المصرفية، بما يتيح حيّزاً أكبر للقطاع الخاصّ.

وفي مجال المنافسة، قد يمثّل نجاح صفقة استثمارية كبرى تتمّ عبر تنافس شفّاف بين شركات خاصّة، دون دخول كيانات حكومية أو سيادية طرفاً فيها، مؤشّراً على أن قواعد اللعبة بدأت تتغيّر لصالح حياد الدولة. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن أيّ خفض – ولو محدود – في نسبة الإنفاق الموجّه إلى خدمة الدين، التي بلغت نحو 65% من المصروفات العامّة، لصالح التعليم أو الصحّة، يمكن أن يحرّر عشرات المليارات لتطوير المدارس والمستشفيات أو دعم الغذاء .

هذه الإجراءات، وإن بدت صغيرة في عالم الاقتصاد الكلّي، تحمل دلالة رمزية ومجتمعية كبيرة: فهي تعكس انتقالاً تدريجياً من نموذج قائم على تدوير الديون، إلى نموذج يُعطي أولويّة للإنتاج والخدمات الأساسية. وبناء مثل هذه الثقة الجديدة أشبه بزرع شجرة بطيئة النموّ؛ لا يكفي قصّ الشريط أمام مشروع أو إطلاق شعار استثماري رنّان، بل يتطلّب الأمر إجراءات متناسقة تبعث برسالة واضحة، بأن الاقتصاد لا يمكنه الاستمرار طويلاً على إيقاع الكرسي الموسيقي نفسه. فالثقة والعدالة والخيال العامّ – تلك العناصر غير المرئية – باتت هي نفسها مؤشّرات اقتصادية لا تقلّ أهمية عن العجز أو نسبة الدين. والسؤال المفتوح يظلّ قائماً: هل ستُبنى قدرة حقيقية على توليد دخل مستدام، أم يستمرّ تبديل المقاعد بينما تتباطأ الموسيقى؟

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
04.10.2025
زمن القراءة: 9 minutes

في عالم المال، يشير مصطلح مخطّط بونزي إلى نوع من الاحتيال المالي ظهر مطلع القرن العشرين، يقوم على وعد المستثمرين بأرباح مرتفعة، بينما تُدفع هذه الأرباح في الواقع من أموال المستثمرين الجدد لا من عائد استثمار حقيقي. يستمرّ هذا الوهم طالما ظلّت التدفّقات المالية الجديدة تتدفّق، ويتهاوى فور أن تتباطأ أو تنقطع. في مصر، استعان الخبير الاقتصادي جودة عبد الخالق بهذه الاستعارة اللافتة لتوصيف حال المالية العامّة، كعدسة تفسيرية لفهم الوضع. فخلال مقابلة في برنامج “نعرف اقتصاد” مع سيّد جبيل، قال جودة إن “الدولة المصرية تسدّد القروض السابقة بقروض جديدة، وتغطّي فوائد الدين القديم عبر إصدار دين إضافي – وهو ما يشبه من منظور اقتصادي نظام بونزي”.

في عالم المال، يشير مصطلح “مخطّط بونزي” إلى نوع من الاحتيال المالي ظهر مطلع القرن العشرين، يقوم على وعد المستثمرين بأرباح مرتفعة، بينما تُدفع هذه الأرباح في الواقع من أموال المستثمرين الجدد، لا من عائد استثمار حقيقي. 

يستمرّ هذا الوهم طالما ظلّت التدفقات المالية الجديدة تتدفّق، ويتهاوى فور أن تتباطأ أو تنقطع. في مصر، استعان الخبير الاقتصادي جودة عبد الخالق بهذه الاستعارة اللافتة لتوصيف حال المالية العامّة، كعدسة تفسيرية لفهم الوضع. فخلال مقابلة في برنامج “نعرف اقتصاد” مع سيّد جبيل، قال جودة إن “الدولة المصرية تسدّد القروض السابقة بقروض جديدة، وتغطّي فوائد الدين القديم عبر إصدار دين إضافي – وهو ما يشبه من منظور اقتصادي نظام بونزي”.

تأتي هذه الرؤية النقدية ردّاً على تصريحات رسمية متفائلة. فمنذ منتصف العام 2025، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أكثر من مرّة أن “مصر تجاوزت أزمتها الاقتصادية”، مشيراً إلى “الخطّة الوطنية للتنمية الاقتصادية” التي “تستهدف رفع النمو إلى 7% وخفض الدين العامّ إلى أقل من 80% من الناتج المحلّي بحلول 2030، وزيادة مساهمة الصناعة إلى 18% من الاقتصاد”.

لكنّ الأرقام الرسمية نفسها تكشف صورة مختلفة: فمشروع موازنة 2025/2026، يتوقّع إيرادات بنحو 3.1 تريليونات جنيه مقابل مصروفات تصل إلى 4.6 تريليونات، أي بعجز يتجاوز 1.5 تريليون جنيه (نحو 7% من الناتج المحلّي). الأخطر أن خدمة الدين وحدها – أقساط وفوائد – تقترب من 4 تريليونات جنيه، أي أكثر من إجمالي الإيرادات وتستحوذ على نحو 96% من المصروفات.

هذه المفارقة بين خطاب سياسي متفائل وأرقام مالية ضاغطة، هي ما تجعل استعارة “نظام بونزي” أكثر من مجرّد تشبيه؛ بل محاولة لتفسير كيف أصبح الاقتصاد المصري يعتمد على تدفّقات مالية متكرّرة – من قروض وودائع وبيع أصول – إلى سداد التزامات الماضي، في غياب توسّع إنتاجي حقيقي يضمن الاستدامة.

الأخطر أن خدمة الدين وحدها – أقساط القروض وفوائدها – تقترب من 4 تريليونات جنيه، ما يفوق إجمالي الإيرادات الحكومية نفسها. هذه الوضعية تعني بلغة الحسابات أنه يكاد لا يبقى شيء للتعليم أو الصحّة أو الاستثمار التنموي، إذ تلتهم خدمة الدين نحو ثلثي إنفاق الدولة

يضطرّ الاقتصاد هنا إلى العيش على “الأموال التالية” لسداد “الأموال السابقة”؛ وعود المسؤولين المتفائلة تصبح أشبه بـإيصالات أرباح مؤقّتة في لعبة مالية مغلقة. وكما يشرح جودة عبد الخالق، هذا الوضع يتجاوز كونه أزمة سيولة عابرة، بل هو هيكل أزمة يجعل مصر تعيش على تدوير الزمن المالي: “معنى الكلام أن مصر تقوم بتسديد القروض السابقة بقروض جديدة، وده في المصطلح الاقتصادي بونزي سكيم*”.

اقتصاد بالتدوير: من يدفع الفاتورة؟

رغم هذه الصورة المقلقة، تستمرّ لغة التصريحات الرسمية في منح الجمهور جرعات أمل آنية. فالحكومة تؤكّد أنها لن تتخلّف عن سداد ديونها، وتعلن خططاً لجذب استثمارات خارجية بمليارات الدولارات، مطمئنةً الناس أن “الأزمة تحت السيطرة”. هذه اللغة التفاؤلية تعمل كالعمود الفقري لـدراما الثقة: الناس يصدّقون – أو يريدون أن يصدّقوا – لأن الخطاب الرسمي يمنحهم أرباحاً معنوية فورية من الأمل. لكن ماذا وراء الكواليس؟ من يسدّد الثمن الحقيقي لكلّ هذه االتطمينات؟

يُظهر الوجه الآخر لهذه اللعبة ما تكشفه بيانات البنك المركزي المصري نفسها: فمع تزايد عجز الموازنة، بدأت الحكومة تمتصّ النسبة الأكبر من السيولة المصرفية عبر سندات الخزانة وأذونها. 

وبحلول نهاية 2024 بلغت حصّة الحكومة نحو 57% من إجمالي الائتمان المصرفي المحلّي، بينما تراجع نصيب القطاع الخاصّ إلى 20% فقط ، أي أن الدولة أصبحت المقترض الأكبر في السوق المحلّية، تاركةً الفتات لمصانع القطاع الخاصّ ومشاريعه. وهو أمر ناقشه البرلمان المصري صراحة، إذ حذّر نوّاب من أن الدين العامّ وصل إلى 11.5 تريليون جنيه بزيادة 33% خلال عام واحد، معتبرين أن “هذه الأرقام أنهكت المصريين”.

النائب ضياء الدين داوود تساءل بغضب: “هل يمكن القبول بأن نمدّد عمر هذه الحكومة وهذه نتائجها؟”، الواقع أن انفراد الدولة بالاقتراض تسبب في رفع تكلفة المال على الجميع: ارتفعت أسعار الفائدة إلى مستويات فلكية، واضطرّت المصانع لتقليص توسّعاتها أو وقفها، إذ لا تستطيع منافسة الحكومة على قروض البنوك ذات العائد المرتفع.

بالتوازي، ثمّة فاتورة اجتماعية يدفعها المواطن العادي من نوع آخر. فكلما ارتفع عبء خدمة الدين تقلّص الهامش المتاح للإنفاق الاجتماعي. ووفق “هيومن رايتس ووتش” خصّت مصر للتعليم في موازنة 2024/25 نحو 295 مليار جنيه فقط، أي 1.7% من الناتج و5.3% من إجمالي الإنفاق؛ وهي نسب أدنى بكثير من الاستحقاق الدستوري والمعايير الدولية، ما يعكس تزاحم أولويّات المالية العامّة على حساب التعليم. هيكلتها لتسدّ عجز المعلمين، ومستشفيات حكومية ترزح تحت نقص المستلزمات، وشبكة مواصلات تؤجّل صيانتها.

حياد الدولة أم لعبة مزدوجة؟

يروّج الخطاب الرسمي لمفهوم حياد الدولة التنافسي باعتباره الحلّ السحري لإطلاق نموّ القطاع الخاصّ. تنصّ استراتيجية الحكومة المعلنة على ضرورة تكافؤ الفرص بين شركات الدولة والشركات الخاصّة، وأن تتنافس كلّها في السوق على قدم المساواة. 

نظرياً، هذا كلام جميل: دولة “حكم” تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تلعب لمصلحة فريقها. لكنّ الواقع يُظهر صورة معقّدة: فعندما تكون الدولة لاعباً وحكماً في آنٍ معاً، يصعب الحديث عن حياد حقيقي. هناك أمثلة صارخة: شركات الجيش المصري، على سبيل المثال، تتمتّع بامتيازات حصرية لا تتوفّر لمنافسيها في السوق. تحقيق استقصائي حديث كشف أن المؤسسّات التابعة للقوّات المسلّحة تحظى بإعفاءات ضريبية وجمركية واسعة، وتستعين بمجنّدين كأيدٍ عاملة زهيدة التكلفة، وتفوز بمعظم العقود الحكومية بالأمر المباشر.

النتيجة هي بيئة غير متكافئة تماماً: القطاع الخاصّ المدني يجد نفسه عاجزاً عن منافسة كيان يمتلك السلطة والموارد والميزات الاستثنائية. هيمنة الجيش على قطاعات واسعة تعيق نموّ القطاع الخاصّ وتحدّ من قدرته على خلق الوظائف. حتى صندوق النقد الدولي، في مراجعته الأخيرة لبرنامج مصر، شدّد بلهجة غير معتادة على أهمّية انسحاب الدولة والجيش من الأنشطة الاقتصادية، لضمان تكافؤ الفرص بين القطاعين العامّ والخاصّ.

في بعض المناقصات الكبرى، يتقدّم القطاع الخاصّ بعروض تنافسية، ثم يظهر فجأة مستثمر سيادي – إحدى الجهات الحكومية – ليفوز بالمشروع دون منافسة فعلية. هذه المفارقة تزداد وضوحاً مع إعلان الحكومة نيّتها طرح حصص من شركات يملكها الجيش عبر صندوقها السيادي لجذب الاستثمار، وفي الوقت ذاته تؤكّد التزامها أمام المستثمرين الأجانب بمنافسة عادلة. لكنّ هذه الوعود تصطدم بممارسات على الأرض: فكيف يطمئنّ مستثمر إلى أن الدولة لن تغير القواعد في منتصف اللعبة إذا اقتضت مصلحتها؟ وكيف يثق صاحب مصنع صغير بأن منافساً مملوكاً للحكومة لن يحظى بمعاملة تفضيلية من الجهات التنظيمية؟ أسئلة الثقة هذه تتراكم يوماً بعد يوم، وتتسلّل إلى صميم الخيال العامّ: هل يمكن تحقيق عدالة في ملعب يملك فيه الحكم فريقاً من اللاعبين؟ 

كلفة المال وتقلّب الكرسي تحت الصنّاع

على بعد بضع أميال من مكاتب الحكومة، يعيش أصحاب المصانع والمشروعات المتوسّطة حبكة يومية معقّدة بطلها سعر الفائدة وسعر الصرف. فبعد أن كانت القروض التشغيلية تُمنح بأسعار فائدة تدور حول 13% قبل عامين، يجد الصناعيون أنفسهم اليوم يواجهون تجديد القروض بفوائد تتجاوز 20% سنوياً، بسبب القفزات التي اتّخذها البنك المركزي لكبح التضخّم (هذه القفزة أضافت أعباءً شهرية ضخمة على كلفة التمويل، وأجبرت المصانع على رفع أسعار منتجاتها وتقليص هوامش أرباحها). بالتوازي، شهد الجنيه المصري ثلاث موجات تعويم منذ 2022، فقد في آخرها أكثر من نصف قيمته؛ إذ انتقل سعر الدولار من 15.7 جنيهاً في 2021 إلى نحو 30 جنيهاً مطلع 2023، ثم تجاوز 50 جنيهاً في السوق الموازي خلال اضطراب آذار/ مارس 2024، هذه التقلّبات جعلت كلفة الخامات المستوردة تتضاعف تقريباً، وحالت دون قدرة المصانع على التخطيط لتوسّع أو شراء معدّات جديدة في ظلّ مستقبل مالي ضبابي.

وتشير تقارير اتّحادات المستثمرين إلى أن آلاف المصانع الصغيرة قلّصت إنتاجها، أو أغلقت مؤقتاً خلال العامين الماضيين، بسبب صعوبة تدبير الدولار لاستيراد الموادّ الخام وارتفاع فوائد الاقتراض. حتى من يملك السيولة يفضّل الانتظار بدل المجازفة في بيئة لا تستقرّ فيها الأسعار لشهرين متتاليين. 

هكذا تتحوّل تقلّبات المؤشّرات المالية إلى عائق يومي يعطّل اتّخاذ أي قرار إنتاجي متوسّط أو طويل الأجل. والنتيجة دائرة مفرغة: الإنتاج يقلّ بسبب شحّ التمويل وانعدام اليقين، فترتفع الأسعار والتضخّم، فتزيد البنوك الفائدة أكثر، فينكمش الإنتاج مجدّداً. ويشير الصناعيون إلى أن وزارة المالية نفسها تصدر سندات خزينة بفائدة تفوق 20% لجذب المشترين (ما يضع القطاع الإنتاجي في منافسة خاسرة مع الدولة على كلفة المال).

لحظة انهيار الثقة: متى تتوقّف اللعبة؟

 في كلّ مخطّط بونزي مالي هناك لحظة مفصلية ينهار فيها الهرم: عندما تتباطأ التدفّقات الجديدة بما لا يكفي لإرضاء وعود الماضي. والسؤال المطروح على الاقتصاد المصري اليوم: هل يمكن أن يواجه لحظة كهذه؟

المشهد الحالي يكشف عن هشاشة معتمدة على تدفّقات مؤقّتة. فاستثمارات خليجية وودائع بمليارات الدولارات أُدخلت إلى البنك المركزي على مدار الأعوام الماضية، لكنّها بطبيعتها محدودة الأجل وقابلة للاسترداد عند الاستحقاق. كما أن برنامج بيع الأصول المملوكة للدولة تأخّر في التنفيذ، ولم يجلب بعد العوائد المتوقّعة بالعملة الصعبة. وبحسب تقارير صحافية، اضطرّت مصر بالفعل إلى إعادة جدولة بعض الديون القصيرة الأجل بشكل غير معلن، لتفادي ضغوط الاستحقاقات الفورية.

هذه التطوّرات تضع علامات استفهام على خطاب “تجاوز الأزمة”. فالأرباح أو المكاسب التي يجري الحديث عنها لم تأتِ من توسّع إنتاجي أو نموّ مستدام في التصدير، بل من تدوير متواصل للديون والرهان على تدفّقات جديدة. إذا تباطأت وتيرة هذه التدفّقات – سواء قروض جديدة، أو ودائع داعمة، أو عوائد بيع الأصول – فإن الحكومة ستجد نفسها أمام صعوبة الوفاء بالوعود المتعلّقة بتثبيت الأسعار أو الحفاظ على قيمة العملة أو سداد الديون في مواعيدها.

يحذّر اقتصاديون من أن الثقة، وهي الركيزة التي يقوم عليها هذا النموذج، يمكن أن تتبخّر بسرعة، إذا فقد المستثمرون أو الدائنون قناعتهم بقدرة الدولة على جذب التمويل المستمرّ. وقد استُشهد في أكثر من تحليل بتجارب دول أخرى، مثل لبنان، حيث انهار النموذج المالي القائم على الاستدانة المتواصلة عندما توقّفت التدفّقات، وتراجعت الثقة في أيّام معدودة. ورغم أن وضع مصر مختلف من حيث الحجم والدعم الخارجي، فإن الآليّة الجوهرية واحدة: أيّ توقّف أو تباطؤ ملحوظ في التدفّقات يجعل عدد “الكراسي” أقلّ من عدد اللاعبين، وتنكشف هشاشة اللعبة.

لغة جديدة وكرسي مختلف: نحو الخروج من الحلقة

هل يمكن تخيّل نهاية أخرى لهذه الحبكة غير الانهيار؟ في الفصل الأخير من هذه الدراما المالية، يبرز سؤال البحث عن بدائل سردية. ربما آن الأوان لكتّاب السيناريو الاقتصادي في مصر أن يجرّبوا قاموساً جديداً لا يعد الناس بعوائد فورية سهلة، بل يَعِدهم بملاءة واستدامة مبنية على إنتاجيّة حقيقية. هذا يتطلب، بداية، مصارحة غير معتادة: الاعتراف بأن معجزة اقتصادية لن تحدث بين ليلة وضحاها، وأن سنوات من المعالجات التجميلية حان وقت استبدالها بجراحة هيكلية حقيقية.

 ماذا لو خرج مسؤول ليقول بوضوح: “نعم، نعاني أزمة سيولة ودين، ولن نزعم أنها حُلّت بخطاب. الحلّ يتطلّب زمناً أطول لاستحقاقات الديون واتّفاقاً مجتمعياً على تحمّل كلفة الإصلاح”، الخطوة التالية ستكون ترجمة هذه المصارحة إلى إجراءات ملموسة. 

على سبيل المثال، إعادة هيكلة الدين العامّ لتمديد آجاله بشكل يُبعد شبح ضغط السداد السنوي الخانق. بالفعل، هناك أحاديث في الكواليس عن نجاح مصر في مدّ آجال بعض الودائع الخليجية وتحويلها إلى استثمارات أطول أمداً بدلاً من قروض قصيرة؛ مثل هذه الخطوات، إن أُعلنت بشفافية، قد تمنح الاقتصاد أكسجيناً طويل الأجل بدل الجرعات المؤقّتة.

بالمثل، يمكن رصد إشارات صغيرة لكنّها محسوسة على تغيّر المناخ المالي. قد تبدو استعادة الثقة في الاقتصاد المصري رهينة بخطوات ملموسة أكثر من ارتباطها بالشعارات. فمثلاً، أيّ انخفاض فعلي في أسعار الفائدة على قروض المشروعات الصغيرة والمتوسّطة إلى ما دون 10%، يمكن أن يخفّف الضغط عن آلاف المصانع ويحفّز الاستثمار الإنتاجي. كذلك، تراجع العائد على أذون الخزانة الحكومية من مستويات قاربت 25% إلى حدود أقلّ من 15%، سيكون إشارة إلى انحسار المزاحمة الشرسة التي تفرضها الدولة على السيولة المصرفية، بما يتيح حيّزاً أكبر للقطاع الخاصّ.

وفي مجال المنافسة، قد يمثّل نجاح صفقة استثمارية كبرى تتمّ عبر تنافس شفّاف بين شركات خاصّة، دون دخول كيانات حكومية أو سيادية طرفاً فيها، مؤشّراً على أن قواعد اللعبة بدأت تتغيّر لصالح حياد الدولة. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن أيّ خفض – ولو محدود – في نسبة الإنفاق الموجّه إلى خدمة الدين، التي بلغت نحو 65% من المصروفات العامّة، لصالح التعليم أو الصحّة، يمكن أن يحرّر عشرات المليارات لتطوير المدارس والمستشفيات أو دعم الغذاء .

هذه الإجراءات، وإن بدت صغيرة في عالم الاقتصاد الكلّي، تحمل دلالة رمزية ومجتمعية كبيرة: فهي تعكس انتقالاً تدريجياً من نموذج قائم على تدوير الديون، إلى نموذج يُعطي أولويّة للإنتاج والخدمات الأساسية. وبناء مثل هذه الثقة الجديدة أشبه بزرع شجرة بطيئة النموّ؛ لا يكفي قصّ الشريط أمام مشروع أو إطلاق شعار استثماري رنّان، بل يتطلّب الأمر إجراءات متناسقة تبعث برسالة واضحة، بأن الاقتصاد لا يمكنه الاستمرار طويلاً على إيقاع الكرسي الموسيقي نفسه. فالثقة والعدالة والخيال العامّ – تلك العناصر غير المرئية – باتت هي نفسها مؤشّرات اقتصادية لا تقلّ أهمية عن العجز أو نسبة الدين. والسؤال المفتوح يظلّ قائماً: هل ستُبنى قدرة حقيقية على توليد دخل مستدام، أم يستمرّ تبديل المقاعد بينما تتباطأ الموسيقى؟

04.10.2025
زمن القراءة: 9 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية