قرار الأردن الرسمي بتسمية جمعية “الإخوان المسلمين” رسمياً جهة غير مرخّصة ومحظورة، يفعّل قراراً صادراً عن أعلى سلطة قضائية قبل أربع سنوات. وتأتي هذه السابقة على مستوى الدولة بعد أيّام على كشف خليّة وصفتها الحكومة بـ”الإرهابية” ينتسبُ أعضاء فيها إلى الجماعة المرخّصة أردنياً منذ 1946.
قرار محكمة التمييز اعتبر الجماعة منحلّة حكماً آنذاك، بعد أن راهن عليها النظام الملكي لخمسة عقود – حتى بدايات الألفية الثالثة – لصدّ المدّ اليساري- القومي المناوئ لنظام الحكم.
وبذلك يُغلق الأردن آخر ملجأ تتمتّع فيه الجماعة بالانتشار العلني. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – القادم من المؤسّسة العسكرية – قرّر في 2013 الإطاحة ب”إخوان مصر”؛ قاطرة الجماعة العابرة للدول منذ تأسيسها على يد حسن البنا في عام 1928. جاء ذلك بعد سنة على صعود الإخواني محمد مرسي إلى رئاسة كبرى الدول العربية عقب الربيع العربي.
حظر الجماعة هنا كان يُطبخ بهدوء لأشهر عدّة، بعد تصاعد مكاسرة علنية بين السلطات الرسمية والتيار الإسلامي، الذي سعى لتوظيف غضب الشارع في توسيع شعبيته على وقع حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة واجتياحات الضفّة الغربية. فرغم تغلغل مشاعر القهر ورفض العدوان لدى جميع مكوّنات الشعب، برز “الإخوان” محركاً رئيساً للمسيرات الداعمة لخيار المقاومة، ورفع مشاركون في بعضها شعارات مستفزّة للأمن ورموز الدولة.
القشّة الأخيرة
سرّع القرار النهائي الكشف عن خليّة إرهابية ينتسب أعضاؤها ال 16 إلى جماعة “الإخوان”، ومنهم ثلاثة أعضاء في “جبهة العمل الإسلامي”، التي تسيطر على ربع مقاعد مجلس النواب الـ 138. يواجه أعضاء الخليّة تهماً بالتخطيط للقيام بـ”أعمال إرهابية لزعزعة أمن المملكة واستقرارها”.
بعض أعضاء الخليّة التي كُشفت قبل أسبوع متّهمين بالارتباط بحركة “حماس” الفلسطينية؛ التي انبثقت عن “إخوان الأردن” في عام 1987. هذه الحركة ظلّت توأم الجماعة هنا قبل أن يُبعد الأردن قادتها في عام 1999. وتشير التهم إلى عنصرين سافرا إلى لبنان للقاء “مسؤول تنظيمي عنهما” والتدرّب على صناعة صواريخ في مخرطة هناك، بحسب اعترافات متلفزة.
موقف متأرجح
“الإخوان” لم يدينوا الخليّة بصريح العبارة، بل رأوا فيها تصرّفات فردية لدعم المقاومة الفلسطينية. الرواية ذاتها التي ردّدوها قبل أشهر، عندما قتلت إسرائيل شابين من منتسبي الجماعة حاولا التسلل إلى فلسطين المحتلة من جنوب الأردن.
الجميع في انتظار قرار محكمة أمن الدولة لمعرفة التهم النهائية المنسوبة، والوجهة النهائية للأسلحة المصنّعة بعد أن تأثر الرأي العامّ باعترافات متلفزة لبعض المتّهمين، وتعالت أصوات بالإدانة قبل صدور الحكم.
حظر الجماعة يحقّق مطالب الحليف الإماراتي الذي كان يضغط لحلّها من باب معارضة أبو ظبي مشاريع الإسلام السياسي، وسط مخاوف من بروز نظام إسلامي جديد في سوريا موالٍ لتركيا، التي تحاول تسويق نموذجها بعد قرن من انحسار هيمنتها في المنطقة.
كيف ولماذا الآن؟
حكومة جعفر حسّان حسمت أمرها لتنفيدِ قرار محكمة التمييز بحذافيره، بخلاف رئيسي الحكومة السابقين عمر الرزاز وبشر خصاونة. الاثنان أبقيا القرار على الرف حفاظاً على شعبيتهما وخشية تأجيج الشارع، بحسب وزراء خدموا في الحكومتين السابقتين.
اليوم، تتغيّر الأجندات والأولويات. مملكة تُعدّ رسمياً ضمن ما يُسمّى بمحور الاعتدال العربي السنّي بقيادة السعودية، متحالف مع أميركا راعية إسرائيل المتصهينة، التوسّعية. في الخندق الآخر، محور مقاومة بقيادة إيران الشيعية وعضوية “حماس” السنيّة الفلسطينية، و”حزب الله” الشيعي والحوثيين في اليمن. وفوق ذلك، “قوّات الحشد الشعبي” في العراق، التي لا تعترف بالدولة العبرية، وحاولت التدخّل لدعم الحرب في غزّة في البداية بالسير صوب الحدود الأردنية لعبورها إلى الضفّة، وأيضاً التهديد بإطلاق صواريخ.
سرّع قرار الطلاق مطالبة “حماس” بالإفراج عن المتّهمين والاحتفاء بعملهم لدعم المقاومة بدل سجنهم.
قرار الانقلاب الرسمي على “الإخوان” أعلنه وزير الداخلية مازن فراية عبر التلفزيون الأردني بعد ثمانية أيام على كشف خليّة تضمّ 16 شخصاً، يعملون في خلايا متعدّدة بصنع صواريخ قصيرة المدى 3-5، والتخطيط لتصنيع مسيّرات وتجنيد وتدريب شباب في الداخل والخارج للقيام بأنشطة تمسّ أمن البلاد واستقرارها. محامي الخليّة رفض التهم بأن المعدّات المضبوطة كانت معدّة لضرب أهداف استراتيجية في الأردن، مؤكّداً أنها كانت موجّهة لدعم المقاومة الفلسطينية.
مسؤول رفيع المستوى طلب عدم ذكر اسمه لحساسية الموقف، يقول إن الحكومة قرّرت “التعامل بحزم مع التيار الإسلامي بإسناد من مؤسّسات الدولة كافّة، بعد تنامي شعور بأن هذا التيّار بات مصدراً رئيساً للتأزيم”.
يضيف المسؤول: “الكشف عن الخليّة وظهور اعترافات بعض المتّهمين أجّجا مشاعر شعبية ورسمية من أن الحكومة منحت الإخوان المساحة والوقت لتغيّر خطابهم وأجندتهم”، ثم يستدرك: “لكنهم طعنونا من الخلف”، في إشارة إلى الكشف عن الخليّة. وبرأي المسؤول ذاته: “لم تعد الجماعة في مواجهة دائرة المخابرات، بل باتت في مواجهة الدولة كلّها”.
من جهته صرّح خبير الحركات الإسلامية حسن أبو هنية لـ”درج” قائلاً إن القرار “خطوة تحمل بعض الامتيازات والمخاطر وتماشي مع تجربة المغرب في فصل الحزب الإسلامي عن الجماعة تنظيمياً” وأضاف أن القرار ” يلغي ازدواجية التنظيم بين الجماعة وحزب جبهة العمل الإسلامي وتشكل مزيد من الإخضاع للجماعة وإلزامها بالنهج المحلي، لكن المخاطر تتضمن تعزيز رؤيا عند البعض مفادها أن النظام يحارب الإسلام”.
يضيف أبو هنيّة ” جماعة الإخوان براغماتية، وستعود للعمل السري الدعوي لكنها لن تحل نفسها، كون ذلك يتطلب قرار واضح من حزب جبهة العمل الإسلامي، التي عليها أن تتخذ سلسلة من القرارات لتقول للأردنيين أنها مستقلّة عن جماعة الاخوان المسلمين”
توحيد الساحات
يؤيّد بعض المسؤولين نظرية توحيد الساحات لدعم المقاومة الفلسطينية في غزّة. بدأها زعيم “حزب الله” حسن نصرالله والحوثيون في اليمن بإطلاق صواريخ ومسيّرات اصطدمت بقصف إسرائيلي وأميركي تدميري. ويبدو أن مستويات إخوانية اتّجهت للبحث عن إمكانية تأسيس جناح عسكري للانطلاق من الأردن، بحسب سياسي مطّلع على مطبخ صنع القرار.
“لم تكن تصل إلى حدّ التفكير في صناعة أسلحة ومكاسرة الدولة في غالبية المظاهرات المؤيّدة لغزّة، وأحياناً شتم الأجهزة الأمنية، لولا تنامي شعور الثقة بأن وراءها قاعدة شعبية ترفع خيار المقاومة”، يشرح السياسي.
أهداف تطبيق قرار حظر “الإخوان”
يستهدف القرار تجفيف منابع تمويل الحركة وكبح نشاطها السياسي الإعلامي والتنظيمي، وإخراجها من اللعبة السياسية المحلّية المحتقنة على وقع عدوان إسرائيل على غزّة، وتردّي الأوضاع الاقتصادية وتنامي الفقر والبطالة وتراجع منسوب الحرّيات العامّة والإعلامية.
إجراءات الحكومة في نهاية حملة ممنهجة لقلب الرأي العامّ على “الإخوان”، ستكون ضمن الأطر القانونية، بحسب مسؤولين تحدّثا إلى موقع “درج” بشرط عدم الكشف عن هُوّيتهما، لأنهما غير مخوّلين بالتصريح للإعلام من دون إذن رسمي من مؤسّستيِهما.
يرى المسؤولان أن القرار يمنع الجماعة من عقد أي اجتماع، بما فيه لقاءات في أي مقرّ تابع لذراعِه السياسية “جبهة العمل الإسلامي”، ما لم تثبت أنها الجهة المستأجرة.
محاصرة رقمية واستثمارات
وسيُغلق موقع الجماعة الإلكتروني، وتُمنع من إصدار تصريحات، ورفع لافتات وشعارات وأعلام خاصّة بها. في المقابل، تُمنع وسائل الإعلام والجهات الرسمية والأحزاب السياسية المرخّصة والنقابات المهنية والجامعات، من التعامل مع الجماعة أو دعمها تحت طائلة المسؤولية القانونية.
معلوم أن فضاء النقابات والجامعات شكّل تربة خصبة لتمدّد نفوذ “الإخوان” قبل أن تتراجع حظوظهم بضغط رسمي مباشر وغير مباشر وهندسات انتخابية.
ويُطلب من الجهات التي آلت إليها ملكية المستشفى الإسلامي وأصول واستثمارات للجماعة عندما طُبّق قرار المحكمة جزئياً قبل خمس سنوات، إثبات ملكيتها الاعتبارية لهذه المؤسّسات، ومصادر أموالها للتأكّد أنها ليست واجهات للجماعة. وسيُطلب منها إثبات مصادر التمويل لتملك الأصول وتنمّيها خلال السنوات العشرة الماضية، وبخلاف ذلك ستُعاقب هذه الجهات.
بإمكان الجماعة ومنتسبيها المقدّر عددهم، بين خمسة عشر ألفاً وستة عشر ألفاً، الانخراط في “جبهة العمل الإسلامي”، أو التقدّم بطلب ترخيص حزب جديد.
ويمكنها التقدّم بطلب إلى وزارة التنمية الاجتماعية لتسجيل منظّمة لخدمة المجتمع، بشرط الابتعاد عن العمل السياسي.
على أن هناك خشية بين الأوساط السياسية من أن يدفع الحظر وحملةُ الشيطنة التي طالت الجماعة ومسّت الأوساط المتشدّدة داخل التيّار الإسلامي لمزيد من التشدّد وتكثيف عمل سرّي ضدّ الدولة بفعل الإحباط من القدرة على ردع اسرائيل، ومنع تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار.
مصير حزب “جبهة العمل الإسلامي”
يُستبعد حلّ الحزب أقلّه لغاية الآن، بحسب مسؤولين. إذ إن حلّه يعني تراجع الأردن عن مسار الإصلاح السياسي التدريجي، الذي يفتح الباب تدريجياً صوب تشكيل حكومات من الكتلة الأكبر في المجلس النيابي. ذلك قد يدفع الدول الغربية المانحة للتشكيك بالعملية. لكنّ ذلك يبقى مشروطاً بإصلاح هياكِله ووقف التداخل بينه وبين “الإخوان” والتركيز على أجندة الأردن أولاً، بحسب نصيحة وزير عامل.
من جانبه حذّر وزير الخارجية الأسبق وأحد الأصوات القوّية المطالبة بإصلاحات شاملة لأكثر من عقدين الدكتور مروان المعشّر، أنه ولكي تترسّخ قيم الديمقراطية الحقّة وبناء المؤسّسات القوّية الرافعة للتعدّدية، من الضروري تحقيق شرط أساسي، وهو سلمية العمل، و”أن السلاح حملاً وتصنيعاً واستيراداً حكر على الدولة… بعكس ذلك يُعتبر تمادياً على سيادة الدولة، ويتعدّى على حقوق باقي قوى المجتمع”.
مثلاً، أعلنت الهيئة المستقلة للانتخابات الثلاثاء، تجميد عضوية ثلاثة من أعضاء الجبهة وردت أسماؤهم في لائحة الاتّهام الصادرة عن محكمة أمن الدولة في قضية الخليّة/الخلايا.
أحد المسؤولين يقول إن الحملة الإعلامية والسياسية ضدّ “الإخوان أمام المجتمع”، تتّجه إلى الانتهاء بعد بدء تطبيق القرار. ويتابع: “الجبهة فهمت الآن أنه لم يعد بإمكانها الاختباء وراء الأهداف الإخوانية، أو السماح للإخوان بتمرير مطالبهم”.
يساعد الوضع أن خيار المقاومة تراجع بعد “ضعف نفوذ إيران في المنطقة عبر الإطاحة بنظام بشار الأسد وضرب قادة “حزب الله” وقدراته العسكرية، والضغط الدولي والعربي لرحيل قادة “حماس” عن غزّة وتسليم السلاح لجهة رسمية”.
في رأي المسؤول، تفكير شباب “الإخوان” في “تأسيس خلايا إرهابية مختلفة تعمل على أمور منفصلة، ربما باتت تعكس الشعور بثقة نفس زائدة بأن الجماعة تعتقد أن لديها حاضنة شعبية، وثقة بأن تقوم بأعمال من باب تصنيع صواريخ ودفن صاروخ جاهز في نقطة ميتة خارج عمان”.
إمكانية علاقة الخلية ب”حماس” وإيران
فيديو الاعترافات التي بثّها التلفزيون الأردني لثلاثة رجال ضمن الخليّة/ الخلايا الإخوانية، يوحي بأن الدولة تلمّح لدلائل عن إمكانية تورّط حركة “حماس” في المخطّط بدعم من “حزب الله” اللبناني، حليف إيران. علي القاسم، المتّهم بأنه مسؤول عن تصنيع “الدرونز” للاستخدام المحلّي، ابن أحد كوادر حركة “حماس” من المقيمين في الخارج، بحسب ثلاثة مختصّين في شؤون الحركات الإسلامية. المفترض أن والده قريب من صالح العاروري، الرجل الثاني في حركة “حماس”، الذي اغتالته إسرائيل في غارة قبل أكثر من عام في لبنان. وكان العاروري العقل المدبّر لعمليات “حماس” في الضفّة الغربية من منفاه في لبنان. “حماس” لا تستطيع القيام بأي عمل عسكري في لبنان أو الأردن، بحسب تفاهمات قديمة مع الحكومتين. لكن “حماس” تواجدت تحت غطاء “حزب الله”، بحسب مسؤولين أمنيين لبنانيين التقتهم كاتبة التقرير.