يكثر الحديث في الآونة الأخيرة، عن إعادة هيكلة أمنيّة تحدث في جسم النظام السوري، تغييرات في المناصب وإعادة تعيينات وقطف رؤوسٍ قد أينعت. على رأس التغييرات التي طرأت، إقالة اللواء علي مملوك (76 سنة) من منصبه في رئاسة مكتب الأمن الوطني وتعيين كفاح ملحم خلفاً له.
يضع البعض هذه التغييرات في إطار تبديل الاصطفافات الناتج من الصراع الصامت بين روسيا وإيران على النفوذ في سوريا. ويعتبرها آخرون حالة طبيعية ناجمة عن دراسة نقاط القوة والضعف في الجهاز الأمني، خصوصاً بعد ورود تقارير تتحدث عن تدهور حالة مملوك الصحية، فيما ينظر إليها محللون على أنها تغييرات شكلية جاءت ضمن “وعود الإصلاح” التي قدمها بشار الأسد للدول العربية العام الفائت.
السبب مجهول!
من المستبعد معرفة السبب الحقيقي وراء تغيير الشخص الذي ظلّ الواجهة الأمنية للنظام السوري لعقود، ومنحه منصباً “شرفياً” (مستشار الرئيس لشؤون الأمن الوطني) بعد تلك السنوات كلها التي بدأها في الثمانينات بصفته حافظاً لأسرار البرنامج الكيميائي للنظام، لما يُعرف عن كون النظام صندوقاً مغلقاً بالكاد تتسرّب منه المعلومات.
لكن اللافت، أن استبدال مملوك بملحم يعدّ أحدث خطوات الأسد الابن ضمن مسيرة عزل “الحرس القديم”، أي الرجال الذين زرعهم الأسد الأب كأوتاد لحكمه، وإرساء وجوه “جيل بشار الأسد” الجديد، الجيل الذي أدار البلاد في عصر الحرب والدماء، في فترة يرغب الأسد الابن في رسم ملامحها وحده.
ليس ذلك تكهّناً أو قراءة ما هو ليس مكتوب، بل ترجمة لسلسلة من القرارات والإجراءات التي اتخذها الأسد الابن لا لمحو إرث أبيه تماماً، بل لكتابة فصل قاتم في دفتر تاريخ البلاد يذخر بإرثه الخاص، بدأت عام 2010 عندما أصدر ورقة نقدية جديدة من فئة الـ 1000 ليرة لا تحتوي على صورة “الأب المؤسس” كما النسخة السابقة، وتبلورت مع إصدار أول ورقة نقدية في زمن الحرب، حملت صورته، ورقة الـ 2000 ليرة عام 2017.
لم تتملّك الأسد الابن هذه النزعة دوماً، قبل الحرب على الأقل. فمن المعلوم أن بشار الأسد أعلن، بُعيد تنصيبه خلفاً لوالده، أن “الرئيس حافظ لا يزال يحكم سوريا من قبره”، وذلك في اجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث، في حضور قادة الأجهزة الاستخبارية الأساسية.
إلا أن هناك أمراً أثار عقدة ما في داخله عندما أدرك صدى والده وحضوره المستمر في خطابات حاضنته الشعبية ومؤيديه؛ بداية من عبارة “حاربوك ونسيوا مين أبوك” مع بدايات الحرب عام 2011، وليس انتهاءً بدعوات “انهض يا أبا الفقراء (حافظ الأسد)” مع تأزّم الوضع الاقتصادي، في ظلّ استحضارٍ لا ينتهي للقول المنسوب إليه حول قدسية رغيف الخبز، وادعاءاتٍ بأن الأمور لم تكن لتصل حيث وصلت إليه لو كان على رأس السلطة.
لكن تواتر تلك الإجراءات المرسّخة لذات الأسد الابن في مشهد الحكم، أخذ يتسارع ويصبح أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة، مع اكتساب النظام ما يعتبره “انتصاراً” على “الحرب الكونية” وترسيخ وجوده، وإن غدا مجرد واجهة لكواليس روسية-إيرانية، والانزلاق الاقتصادي غير المسبوق الذي تشهده البلاد منذ منتصف عام 2019.
إقرأوا أيضاً:
الصورتان… صورة
اعتاد السوريون رؤية صورة بشار الأسد على اليمين وأبيه حافظ على اليسار على كل جدار وفي كل دائرة وبجانب كل حاجز تفتيش. اليوم، صارت الصورتان محجوزتين لبشار فقط، وإن شاركه أحدٌ الجدار فهو شقيقه ماهر، وليس الأب. لكن الثلث الأخير من العام الفائت حمل الدلالتين الأكبر والأكثر تجلياً لحلم “الحقبة القادمة” الذي يراود بشار.
الأولى هي في مقابلة بشار الأسد مع قناة سكاي نيوز عربية الإماراتية، عندما سأله المذيع فيصل بن حريز عما إذا كان يعتزم توريث ابنه السلطة كما ورثها عن أبيه، وأنكر الأسد الابن حينها القصة التي يعلمها الجميع حول التعديل الدستوري السريع من دون تصويت عند تسلّمه مقاليد الحكم ونسف دور والده تماماً، فقال: “لم يكن للرئيس حافظ الأسد أي دور في أن أكون رئيساً، لأنه لم يُؤمّن لي أي منصب مدني أو عسكري كي أكون من خلاله رئيساً. أنا أتيت عبر الحزب بعد وفاته، ولم أناقش معه هذه النقطة حتى في الأسابيع الأخيرة من حياته”.
أما الدلالة الثانية فجاءت بعد الأولى بأقل من شهر، عندما كُشف للمرة الأولى، طوال سنوات حكم الأسد الابن الـ24، عن نُصبٍ عملاق في ريف حمص ليعلن بداية عصر تماثيل بشار الأسد، بعدما كان ذلك حكراً على أبيه حافظ الذي يحوز على ما يزيد عن ثلاثة آلاف تمثالٍ في مختلف أنحاء البلاد، ليؤكد بذلك فكرة أنه الأسطورة العملاقة الحية الوحيدة في هذه البلاد، وإن اعتاد الشعب على صوره مبتسماً بالثياب غير الرسمية وبين أفراد عائلته.
وها هو اليوم، ينزع الأسد الابن ما تبقى من جذور والده واحداً تلو الآخر، ويزرع محلّها بذوراً جمعها بنفسه.
مع بدايات انتفاضات الربيع العربي وتزعزع بعض الأنظمة التي عُدّت حصينة، ظهرت عبارة “المتغطي بالأميركان عريان”. ومع سقوط القذافي -الذي عُرف بقربه من روسيا- حُرّفت العبارة لتُستبدل كلمة “الأميركان” بـ “الروس”. ومع تدهور الوضع في سوريا، حلَّ “الإيرانيون” على لسان بعض مردّدي العبارة. أياً كان الغطاء الذي يعتزم الأسد الابن التدثر به في مرحلته المقبلة الحالم بها، يبدو أنه ليس مهمّاً طالما سيخلع جلباب أبيه.
إقرأوا أيضاً: