لم يذكر رئيس النظام السوري بشار الأسد مدينة إدلب في خطابه الأخير، الذي وجهه للسوريين حول تداعيات زلزال 6 شباط/ فبراير. قال الأسد متحدّثاً عن تكافل السوريين خلال الكارثة: “هذه الهبّةُ الهائلة لحماية وإنقاذ ومساعدة أخوتِهم المكلومين في حلب واللاذقية وحماة، لم يكن المشهد الوطني والإنساني غريباً عن أي منا”. وبذلك “نسي” الأسد أو تناسى أو لو تخطر في باله إدلب، المحسوبة على مناطق المعارضة، برغم أن حجم الخسائر البشرية والمادية هناك، كان يستحق أن ينظر النظام بعين الإنسانية والتعاطف، ولو لمرة واحدة.
ليس هذا وحسب، فقد تجاهل الأسد أن السوريين في مناطق المعارضة وفي مناطق النظام تكافلوا وحاولوا أن يتعاونوا لتأمين المساعدة والإغاثة وتحييد السياسة والاختلافات عن مشهد الكارثة. إلا أن بشار مرة أخرى عاد ليؤكد الاستنسابية والانقسام، حتى في أحلك ظرف وأصعب لحظة.
كان فصل الواقع السياسي عن الأزمة التي فرضها الزلزال في سوريا احتمالاً بعيداً من الحقيقة، في بلد يحكمها النظام الحالي ويعاني من الانقسام والتعقيد واستمرار الصراع. وعلى رغم إبداء نظام الأسد استعداده لتقديم المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرته، إلا أنه لا مفرّ من أسئلة مشروعة في كل أزمة وفي كل وقت وبخاصة بعد خطاب بشار الأخير، هل حقاً يريد النظام مساعدة السوريين؟ ومن يجب أن يتولى توزيع المساعدات؟ وهل تصل إلى محتاجيها بالفعل؟
يبدو أن النظام السوري يحاول التحكم بكلّ منافذ التبرعات واحتكار توزيعها، بخاصة في ظل تنامي المساعدات الآتية من المجتمع المدني.
أين الخلل في توزيع المساعدات؟
قد يقول قائل: ليس الوقت مناسباً للحديث السياسي، فالملحّ الآن هو تأمين المساعدات، بغض النظر عن الأطراف والنزاعات، لكن حين تمرّ المساعدات من خلال نظام الأسد، فالأمر لا يبدو بهذه البساطة.
كشفت دراسة سابقة أن الحكومة السورية تسحب ملايين الدولارات من المساعدات الخارجية، من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على استخدام سعر صرف أقل من سعر السوق السوداء، وهي استراتيجية مطابقة لما استخدمته مع الحوالات الخارجية التي أرسلها السوريون الى عائلاتهم في الداخل. حلل الباحثون مئات العقود العائدة الى الأمم المتحدة لشراء السلع والخدمات للأشخاص الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا، حيث يعيش أكثر من 90 في المئة من السكان في فقر مدقع. وبينت الدراسة انتهاج النظام طريقة مدروسة للالتفاف على العقوبات والحصول على القطع الأجنبي بأسعار قليلة، وبدل أن تذهب المساعدات بنسبة مئة في المئة الى السوريين، كان النظام يسرق نصفها حرفياً منذ لحظة وصولها. وبحسب التقرير، فإن كان الهدف من العقوبات هو حرمان النظام من الموارد اللازمة لارتكاب أعمال عنف ضد المدنيين، وإن كان الهدف من المساعدات الإنسانية هو الوصول إلى المحتاجين، فللأسف تمكّن النظام من استغلال المساعدات في تمويل حربه وشخصيات تابعة له. ووفق الدراسة، فإن تم تضمين الرواتب وبرامج المساعدات النقدية وتدفقات التمويل الأخرى التي لم يتم الإعلان عنها، قد يحقق البنك المركزي مئات الملايين من الدولارات.
لماذا ما زال السوريون يعانون؟
بحسب الدراسة ذاتها، فإن محمد حمشو، رجل الأعمال المقرب من الفرقة الرابعة، التابعة لماهر الأسد شقيق رأس النظام السوري، فاز بعقود مشتريات أممية لجمع المعادن في المناطق التي استعادتها الحكومة، وإعادة إنتاجها لتعيد شركة خاصة بيعها.
وهكذا تواصل حكومة الأسد بطريقة أو بأخرى استخدام المساعدات كمكافأة لحلفائها ومعاقبة معارضيها، بالتالي تؤدي الجهود العالمية لدعم الشعب السوري إلى دعم النظام السوري سياسياً ومالياً.
الأرقام المقدمة تشير إلى خلل هائل في آلية توزيع المساعدات، إذ فاقت قيمة مساهمات الحكومات الغربية المانحة الـ38 مليار دولار منذ عام 2011، منها 25 مليون دولار من الاتحاد الأوروبي و13.5 مليار دولار من الولايات المتحدة، كما تعهدت كندا بتقديم 3.5 مليار دولار لسوريا والمنطقة بين عامي 2016 و2021. على رغم ذلك، فإن أزمة الجوع والمعاناة ما زالت في أوجّها في كل بقعة في سوريا.
هذه الأموال كان يمكن أن تحلّ جزءاً كبيراً من الأزمة لو أنها وصلت الى محتاجيها، وهو ما يحتّم علينا أن نطرح سؤال النزاهة والجدية في توزيع المساعدات بعد وقوع الزلزال، فالنظام ما زال واحداً، وفساده لم يتغيّر.
إقرأوا أيضاً:
موافقات أمنية لوصول المساعدات
على أرض الواقع، يبدو أن النظام السوري يحاول التحكم بكلّ منافذ التبرعات واحتكار توزيعها، بخاصة في ظل تنامي المساعدات الآتية من المجتمع المدني، الذي حاول النظام التحكم فيه، وتقييد عمل الجمعيات غير الحكومية التي لا تبغي الربح.
“الأمانة السورية للتنمية” هي المنظمة غير الحكومية وغير الربحية شبه الوحيدة في سوريا، لكن يصدف أنها متصلة بشكل مباشر بأسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، وهي تحتضن كل الفعاليات والجمعيات المدنية الأخرى. إذاً وبشكل أتوماتيكي، أوجد النظام السوري طريقة للتحكم حتى في المجتمع المدني. وهو ما ينعكس على عمل أي جهة تطوعية مدنية اليوم، في حال لم تكن تحت مظلة “الأمانة السورية للتنمية”. تروي إحدى المتطوعات لـ”درج”، خلال توزيع التبرعات العينية التي قدمها الأهالي، أن هناك انتشاراً كثيفاً لرجال الأمن في المناطق المنكوبة، “وحين نقول رجال الأمن لا نقصد المنقذين أو من يشاركون في عمليات الإغاثة، إنما أولئك الذين يراقبون الناس ويحدّون حركتهم ويمنعون التصوير، إذ اعتقلت دورية الشاب معين علي في مدينة اللاذقية خلال توزيعه المساعدات، بسبب فيديو نشره يطالب فيه بإيصال المساعدات بيده، خوفاً من سرقتها، رافضاً إجباره على تقديم تقرير أمني وتسليم المساعدات إلى محافظة اللاذقية لتقوم هي بتسليمها. أُطلق سراح معين لاحقاً. كما اعتُقل محمد غزال، رئيس مشجعي نادي أهلي حلب (الاتحاد) لأسباب مشابهة”.
راما (اسم مستعار) تعمل مع فريق تطوعي لإيصال المساعدات من السلمية إلى حلب، إلا أنها فوجئت هي وفريقها بأن عليهم الاستحصال على موافقات أمنية، “لم يتوقف الأمر هنا”، تقول راما: “حين وصلنا لم يسمحوا لنا بتوزيع المساعدات، وطلبوا منا وضعها في مراكز معينة لتتسلم الجهات الرسمية توزيعها”. للأسف، بعد تواصل الفريق مع الناس الذين كان يُفترض أن تصلهم المساعدات، اكتشف عدم وصول أي مساعدات إليهم، وبعض هؤلاء كانوا ما زالوا ينامون في الحدائق.
على رغم حجم الكارثة الكبير ومناشدة السوريين التوقف عن الفساد وإيصال المساعدات إلى مستحقيها، غير أن ما يحدث على الأرض يعكس فساداً وفوضى، حتى إن بعض المساعدات معروض للبيع في الأسواق، وفق صور وفيديوات نشرها سوريون توثّق ذلك.
العقوبات الاقتصادية كذبة النظام المفضّلة
منذ إقرار الاتحاد الأوروبي وقانون قيصر العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، دأب الأخير وإعلامه على نشر رواية الحصار، متعللاً بأن العقوبات هي سبب معاناة السوريين. وبالعودة إلى الوراء، يتبيّن أن النظام هو المتسبّب الأول في هذه العقوبات، إذ لم يُقَرّ قانون قيصر إلا بعد تسريب صور المتوفين من المعتقلين، ولم تُفرض العقوبات الاقتصادية إلا بعد سلسلة من الأحداث والمجازر التي أثبتت مسؤولية النظام فيها.
لم تترك بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية والسياسية لبشار الأسد، فرصة إلا وأخبرت فيها العالم أن العقوبات الاقتصادية هي التي تمنع السوريين في الخارج من تحويل الأموال الى سوريا. لكن على أرض الواقع، هناك حكاية تقول إن السوريين عانوا لسنوات من احتكار النظام للقطع الأجنبي، وتحديد سعر الصرف الرسمي بأقل من نصف سعر السوق السوداء، وإجبار السوريين على التوجه إلى مكاتب التحويل الرسمية بعد إصدار سلسلة من القرارات التي تجرّم التعامل بغير الليرة السورية، ما دفع السوريين إلى التوجه إلى قنوات تحويل غير مباشرة، منها مكاتب غير رسمية وعبر وسطاء، لكنّ سوريين كثراً يضطرون للتحويل عبر مكاتب أو شركات متخصصة، ما يعني خسارة نصف المبلغ المُرسل أحياناً.
حاولت حكومة النظام تصدير حكاية ملفّقة عن أن القانون يمنع السوريين المنتشرين حول العالم من إرسال الأموال، وهذا الكلام لو بدا في جزء منه صحيحاً، إلا أن الصورة غير كاملة، كما يريدها النظام أن تبدو، إذ تمنع الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبيّة، تحويل الأموال إلى سوريا بسبب العقوبات المفروضة عليها، وذلك للحد من احتكار البنك المركزي السوري للعملات الأجنبية ومنع استخدامها في عمليات القمع.
فيما خسر الآلاف كل شيء في الحرب ثم في زلزال 6 شباط، لا ينفك النظام يفتّش عن أساليب لنهب الشعب السوري وتكريس الانقسامات والاستنسابية والانقضاض على المساعدات، حتى في ذروة المأساة.