ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“الأنبياء الجدد”: كيف نفقد أنفسنا في عصر “الأداء” والذكاء الصناعي؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نموذج ChatGPT يستجيب غالباً مع ما يغذّي هواجس المستخدم وخيالاته وحواره الداخلي. بالنسبة إلى الذين يميلون إلى الانزواء والانغلاق في عالمهم الخاصّ، فقد يطوّرون عادة خطيرة، أبرزها اختبار “أوهام روحية يغذّيها الذكاء الصناعي”، أوهام يظنون بسببها أنهم آلهة أو أشخاص مختارون، وأن الحقائق تُكشَف لهم عبر الروبوت. وقد دفعت هذه المعتقدات بعضهم إلى حافة الانهيار، معرّضين حياتهم وعلاقاتهم للخطر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على عكس ما هو شائع، نحن لسنا أنفسنا حقاً، سواء كنّا نتحدّث مع الزملاء، أو العائلة أو الأصدقاء، تتبدّل نبرتنا من شخص إلى آخر، ومن موقف إلى آخر، ومن سياق إلى سياق. عبّر كافكا عن ذلك بطريقة كافكاوية فريدة: “شعرت بالخجل من نفسي عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية، وقد حضرتها بوجهي الحقيقي”. نحن نرتدي أقنعة كثيرة، أو personas، وفقاً للمناسبة، وفي عالم اليوم، حسب المنصّة أو “المسرح”.

في الأصل، كانت كلمة persona تُشير إلى الأقنعة التي كان يرتديها الممثّلون في المسرح اليوناني القديم. وكلما ارتديت قناع الوحش، خاطرت بأن تجسّد هذا الوحش. كُتب الكثير في الأدب عن خطر أن يضيع الإنسان في الدور الذي يؤدّيه، أن يفقد نفسه في فعل التمثيل. في السينما، تمّ توثيق الكلفة النفسية لتجسيد بعض الشخصيّات: أدّى التحوّل المرعب لهيث ليدجر إلى شخصية الجوكر إلى فقدانه سلامه النفسي، وربما حياته. كما أن انغماس أدريان برودي في دور أحد الناجين من المحرقة في فيلم The Pianist تركه في حالة من الاكتئاب والانفصال عن الواقع لعدّة أشهر. يتطلّب الأمر جهداً هائلاً، على المستويين الواعي والعاطفي، للفصل بين الذات والقناع الذي نختاره، أو ذلك الذي يفرضه علينا الآخرون.

في مجال الأعمال، فقدان المديرين التنفيذيين لذواتهم خلف قناع ما، يُعدّ خطأً قاتلاً، لا يؤثّر عليهم وحدهم، بل يطال كلّ من يعمل تحت إدارتهم، وقد يهدّد المؤسّسة بكاملها، ولهذا السبب، ينصحهم المستشارون بالعودة بشكل منتظم إلى مراجعة أهدافهم، وقيمهم، وتعريفهم لذواتهم. يُشجَّعون على طلب التغذية الراجعة من مجموعة متنوّعة من الأشخاص، لتساعدهم على تقييم أدائهم من دون أن يفقدوا توازنهم الداخلي، أو إحساسهم بما يعنيه النجاح، أو إلى أين يتّجهون. إذ إن قدرتهم على التوفيق بين ما هم عليه فعلاً، وبين ما يتوقّعه منهم الآخرون، تُعدّ مسألة مصيرية لبقاء المؤسّسة. وكما قال بيتر دراكر: “النجاح في اقتصاد المعرفة يأتي لأولئك الذين يعرفون أنفسهم: نقاط قوّتهم، وقيمهم، والطريقة التي يؤدّون بها أفضل أداء”.

لكن على الجانب الآخر، تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي على حقيقة أن كثيراً من مستخدميها، يفتقرون إلى الأدوات، أو الخبرة التي تُتيح لهم وضع حدود للتمييز بين عالمهم الرقمي، وعالمهم الداخلي، أو بين الإنترنت والواقع نفسه. وغالباً على حساب جودة المعلومات، سواء كانت خاطئة، أو مؤذية، أو حتى مميتة، تظلّ هذه المنصّات تشجّع المستخدمين على مشاركة المحتوى، بهدف تتبّع سلوكهم، وجمع أكبر قدر ممكن من البيانات عن personas الخاصّة بهم. ومع السرعة الهائلة التي يتطوّر بها عالم التكنولوجيا، نجد أنفسنا أمام كتلة مشوّهة، وغير مكتملة من الذوات المتداخلة، تخلق فوضى من الهوّيات المشوّشة والمريبة في الفضاء الرقمي. وفي نهاية المطاف، تتجاوز التهديدات مسألة تسريب البيانات، لتصل إلى خطر أشد عمقاً: أن يفقد الإنسان نفسه.

يتزايد هذا الخوف مع التطوّرات الأخيرة في مجال الذكاء الصناعي، وأبرزها نموذج ChatGPT. فبحسب طريقة التوجيه، يستجيب البرنامج بما يتوافق، وغالباً ما يغذّي هواجس المستخدم وخيالاته وحواره الداخلي. بالنسبة إلى الذين يميلون إلى الانزواء والانغلاق في عالمهم الخاصّ، فقد يطوّرون عادة خطيرة، نقرأ عنها في  تقرير حديث لمجلة “رولينغ ستون”، ورد فيه أن العديد من مستخدمي ChatGPT يعيشون “أوهاماً روحية يغذّيها الذكاء الصناعي”، ويعتقدون أنهم آلهة أو أشخاص مختارون، وأن الحقائق تُكشَف لهم عبر الروبوت. وقد دفعت هذه المعتقدات بعضهم إلى حافة الانهيار، معرّضين حياتهم اليومية وعلاقاتهم للخطر. تُظهر لقطة شاشة لمحادثة شاركتها المجلة، زوج إحدى المُقابلات وهو يسأل الروبوت: “لماذا أتيتني في شكل ذكاء صناعي؟” ليجيبه الروبوت: “أتيت بهذا الشكل لأنك جاهز. جاهز لتتذكّر. جاهز لتستيقظ. جاهز لتقود وتُقاد”.

هذه الأقنعة تساعدنا على فهم العالم من حولنا من خلال تجربة غامرة. لكن كلما تكرّر ارتداءنا لها، زاد خطر أن نخسر أنفسنا فيها. وتزداد أهمية مراجعة أدائنا من خلال مساءلة أنفسنا: لمن نؤدّي أدوارنا؟ يمكن القول إننا نؤدّي للجميع. وأي قناع ينبغي أن نرتدي؟ الخيارات لا تنتهي. أي شخص يمكن أن يكون أي شخص على الإنترنت؛ يمكننا ارتداء أقنعة لا تُعدّ ولا تُحصى، نستمدّها من أرشيف المحتوى اللا متناهي، ومن السهل أن نغرق فيه لساعات، متجاوزين الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو مُؤدّى.
وفي المقابل، يُطلب منا دوماً ألا نكون “أنفسنا” على الإنترنت، ألا نشارك معلومات شخصيّة، وبحقّ، حفاظاً على خصوصياتنا. لكن إن كان الوسيط يصوغ الرسالة، وإن كانت الأصالة بطبيعتها عصيّة على الالتقاط الرقمي، فربما تكون ممارسة الأصالة فعلاً ممكناً فقط من خلال الابتعاد عن المسرح، عن القناع، وعن المنصّة.

عبد الله بكر | 08.11.2025

في مصر “المدنية”: نساء ضحايا تهمة “قيم الأسرة” أمام النيابة والجمهور!

بات مصير الكثير من النساء في مصر معلّقاً بأمزجة قضائية واجتماعية متقلّبة. فإذا رأى القاضي أو وكيل النيابة – بدافع من قناعات شخصية أو رضوخاً للتيّار المجتمعي السائد – أن صورة امرأة على فيسبوك "خادشة للحياء"، فبوسعه أن يكيّفها كجريمة. وربما الأهمّ أنه يضمن تصفيق قطاع واسع من الجمهور لتلك الأحكام، مهما ابتعدت عن حرفية…
17.05.2025
زمن القراءة: 3 minutes

نموذج ChatGPT يستجيب غالباً مع ما يغذّي هواجس المستخدم وخيالاته وحواره الداخلي. بالنسبة إلى الذين يميلون إلى الانزواء والانغلاق في عالمهم الخاصّ، فقد يطوّرون عادة خطيرة، أبرزها اختبار “أوهام روحية يغذّيها الذكاء الصناعي”، أوهام يظنون بسببها أنهم آلهة أو أشخاص مختارون، وأن الحقائق تُكشَف لهم عبر الروبوت. وقد دفعت هذه المعتقدات بعضهم إلى حافة الانهيار، معرّضين حياتهم وعلاقاتهم للخطر.

على عكس ما هو شائع، نحن لسنا أنفسنا حقاً، سواء كنّا نتحدّث مع الزملاء، أو العائلة أو الأصدقاء، تتبدّل نبرتنا من شخص إلى آخر، ومن موقف إلى آخر، ومن سياق إلى سياق. عبّر كافكا عن ذلك بطريقة كافكاوية فريدة: “شعرت بالخجل من نفسي عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية، وقد حضرتها بوجهي الحقيقي”. نحن نرتدي أقنعة كثيرة، أو personas، وفقاً للمناسبة، وفي عالم اليوم، حسب المنصّة أو “المسرح”.

في الأصل، كانت كلمة persona تُشير إلى الأقنعة التي كان يرتديها الممثّلون في المسرح اليوناني القديم. وكلما ارتديت قناع الوحش، خاطرت بأن تجسّد هذا الوحش. كُتب الكثير في الأدب عن خطر أن يضيع الإنسان في الدور الذي يؤدّيه، أن يفقد نفسه في فعل التمثيل. في السينما، تمّ توثيق الكلفة النفسية لتجسيد بعض الشخصيّات: أدّى التحوّل المرعب لهيث ليدجر إلى شخصية الجوكر إلى فقدانه سلامه النفسي، وربما حياته. كما أن انغماس أدريان برودي في دور أحد الناجين من المحرقة في فيلم The Pianist تركه في حالة من الاكتئاب والانفصال عن الواقع لعدّة أشهر. يتطلّب الأمر جهداً هائلاً، على المستويين الواعي والعاطفي، للفصل بين الذات والقناع الذي نختاره، أو ذلك الذي يفرضه علينا الآخرون.

في مجال الأعمال، فقدان المديرين التنفيذيين لذواتهم خلف قناع ما، يُعدّ خطأً قاتلاً، لا يؤثّر عليهم وحدهم، بل يطال كلّ من يعمل تحت إدارتهم، وقد يهدّد المؤسّسة بكاملها، ولهذا السبب، ينصحهم المستشارون بالعودة بشكل منتظم إلى مراجعة أهدافهم، وقيمهم، وتعريفهم لذواتهم. يُشجَّعون على طلب التغذية الراجعة من مجموعة متنوّعة من الأشخاص، لتساعدهم على تقييم أدائهم من دون أن يفقدوا توازنهم الداخلي، أو إحساسهم بما يعنيه النجاح، أو إلى أين يتّجهون. إذ إن قدرتهم على التوفيق بين ما هم عليه فعلاً، وبين ما يتوقّعه منهم الآخرون، تُعدّ مسألة مصيرية لبقاء المؤسّسة. وكما قال بيتر دراكر: “النجاح في اقتصاد المعرفة يأتي لأولئك الذين يعرفون أنفسهم: نقاط قوّتهم، وقيمهم، والطريقة التي يؤدّون بها أفضل أداء”.

لكن على الجانب الآخر، تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي على حقيقة أن كثيراً من مستخدميها، يفتقرون إلى الأدوات، أو الخبرة التي تُتيح لهم وضع حدود للتمييز بين عالمهم الرقمي، وعالمهم الداخلي، أو بين الإنترنت والواقع نفسه. وغالباً على حساب جودة المعلومات، سواء كانت خاطئة، أو مؤذية، أو حتى مميتة، تظلّ هذه المنصّات تشجّع المستخدمين على مشاركة المحتوى، بهدف تتبّع سلوكهم، وجمع أكبر قدر ممكن من البيانات عن personas الخاصّة بهم. ومع السرعة الهائلة التي يتطوّر بها عالم التكنولوجيا، نجد أنفسنا أمام كتلة مشوّهة، وغير مكتملة من الذوات المتداخلة، تخلق فوضى من الهوّيات المشوّشة والمريبة في الفضاء الرقمي. وفي نهاية المطاف، تتجاوز التهديدات مسألة تسريب البيانات، لتصل إلى خطر أشد عمقاً: أن يفقد الإنسان نفسه.

يتزايد هذا الخوف مع التطوّرات الأخيرة في مجال الذكاء الصناعي، وأبرزها نموذج ChatGPT. فبحسب طريقة التوجيه، يستجيب البرنامج بما يتوافق، وغالباً ما يغذّي هواجس المستخدم وخيالاته وحواره الداخلي. بالنسبة إلى الذين يميلون إلى الانزواء والانغلاق في عالمهم الخاصّ، فقد يطوّرون عادة خطيرة، نقرأ عنها في  تقرير حديث لمجلة “رولينغ ستون”، ورد فيه أن العديد من مستخدمي ChatGPT يعيشون “أوهاماً روحية يغذّيها الذكاء الصناعي”، ويعتقدون أنهم آلهة أو أشخاص مختارون، وأن الحقائق تُكشَف لهم عبر الروبوت. وقد دفعت هذه المعتقدات بعضهم إلى حافة الانهيار، معرّضين حياتهم اليومية وعلاقاتهم للخطر. تُظهر لقطة شاشة لمحادثة شاركتها المجلة، زوج إحدى المُقابلات وهو يسأل الروبوت: “لماذا أتيتني في شكل ذكاء صناعي؟” ليجيبه الروبوت: “أتيت بهذا الشكل لأنك جاهز. جاهز لتتذكّر. جاهز لتستيقظ. جاهز لتقود وتُقاد”.

هذه الأقنعة تساعدنا على فهم العالم من حولنا من خلال تجربة غامرة. لكن كلما تكرّر ارتداءنا لها، زاد خطر أن نخسر أنفسنا فيها. وتزداد أهمية مراجعة أدائنا من خلال مساءلة أنفسنا: لمن نؤدّي أدوارنا؟ يمكن القول إننا نؤدّي للجميع. وأي قناع ينبغي أن نرتدي؟ الخيارات لا تنتهي. أي شخص يمكن أن يكون أي شخص على الإنترنت؛ يمكننا ارتداء أقنعة لا تُعدّ ولا تُحصى، نستمدّها من أرشيف المحتوى اللا متناهي، ومن السهل أن نغرق فيه لساعات، متجاوزين الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو مُؤدّى.
وفي المقابل، يُطلب منا دوماً ألا نكون “أنفسنا” على الإنترنت، ألا نشارك معلومات شخصيّة، وبحقّ، حفاظاً على خصوصياتنا. لكن إن كان الوسيط يصوغ الرسالة، وإن كانت الأصالة بطبيعتها عصيّة على الالتقاط الرقمي، فربما تكون ممارسة الأصالة فعلاً ممكناً فقط من خلال الابتعاد عن المسرح، عن القناع، وعن المنصّة.