ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الأنشوبة تروي قصّتها… بلاستيك البحر على موائد اللبنانيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كأننا في لبنان نعيش حالة من الإنكار. فنحن الذين رضينا بكلّ شيء، لن نُمانع أن تتأثّر الثروة السمكية أو البحرية، أو أن تدخل جزيئات غير مرئية إلى أجسادنا، أو أن ترتفع نسبة الإصابة بالسرطان، أو أن يخسر عادل ورجا وآخرون مصدر رزقهم… فمثل هذه الحكايا قد تكون ترفاً، إلا أن هذا الترف، بات يشكّل تهديداً مباشراً لمنظومة بيئية متكاملة، ولإنسان يسعى إلى عيش حياة بتعقيدات أقلّ، وسنوات أطول.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُحكى أن سمكة الأنشوبة؛ وهي من الأسماك الصغيرة جدّاً في البحر المتوسّط، كانت تتغذّى بشكل رئيسي على الكائنات الدقيقة في البحر. في أحد الأيّام، وبينما كانت تبحث عن طعام، ابتلعت قطعاً صغيرة وشفّافة من البلاستيك، تشبه الطعام الذي اعتادت أن تأكله. 

الدراسة التي أعدّها المركز الوطني للبحوث العلمية في لبنان (CNRS-L)، والمركز الوطني لعلوم البحار بالتعاون مع جامعة ليل الفرنسية، حول تلوّث أسماك الأنشوبة والبيئة البحرية اللبنانية بالمايكروبلاستيك، ونُشرت في عام 2019، خلصت إلى أن 83% من هذه الأسماك تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة، بعضها يحمل سموماً كالمبيدات والمعادن الثقيلة. 

ومن دون نوايا مسبقة من الأنشوبة، إلا أن هذه الموادّ تنتقل من البحر إلى جسم السمكة، ومن السمكة إلى مائدة الإنسان، وباتت أجسامنا نحن والأسماك ملأى بالمايكروبلاستيك.

حين يتحدّث صيّادون عن البحر، يُلاحظ نوع من الجفاء بينهم وبينه. فالصيد الذي كان يوماً مصدر رزق جيّداً بالنسبة إليهم، أو على الأقلّ أمّن لهم قوت عائلاتهم، فرغ مما يحتاجه الصيّادون للعيش، إلى درجة تخلّى رجا عن مهنته قبل سنتين، بعدما صار الصيد عبئاً عليه. 

يعدّد رجا أسباباً كثيرة، منها الديناميت، هواة الصيد، كلاب البحر، تغيّر الطقس والأحوال الجوّية، بالإضافة إلى البلاستيك الذي يسمّم السمك، كلّها أسباب جعلته يحاول كسب الرزق من عمل آخر. وعادل مثله… مستاء، هو الذي ورث مهنة الصيد أباً عن جدّ: “نحن أهل صور صيّادون”. لكن ماذا يفعل؟ تبدو شكواه “فشّة خلق” أساسها ضيق الحال، فهو مثله مثل صيّادين آخرين، يعتمد على الصيف بشكل أساسي لكسب الرزق.

في تسلسل بسيط، نقل الإنسان البلاستيك إلى الأنشوبة وغيرها من الأسماك، لتنقلها بدورها إلى الإنسان على شكل مايكروبلاستيك بعدما تحلّلت. ومع الوقت، قد نضيف، نحن الذين نعرّف عن أنفسنا ككائنات من لحم ودم، البلاستيك.

ولا يبدو الواقع العالمي مطمئناً. في 15 آب/ أغسطس 2025، انتهت جولة المفاوضات الدولية حول الاتّفاقية العالمية لمكافحة التلوث البلاستيكي في جنيف، من دون التوصّل إلى اتّفاق، بعد خلافات حادّة بين الدول المشاركة. وأسباب الانقسام تمحورت حول إمكانيّة فرض قيود على إنتاج البلاستيك البكر. 

وحدث أن رفضت دول كبرى منتجة للنفط والبلاستيك، بينها الولايات المتّحدة والسعودية وروسيا، إدراج أيّ بنود للحدّ من الإنتاج، بينما تمسّك “التحالف عالي الطموح” بقيادة الاتّحاد الأوروبي وعدد من الدول النامية المتضرّرة، بضرورة معالجة جذور الأزمة عبر تقليص الإنتاج تدريجياً. وكانت هذه الجلسة جزءاً من مسار تفاوضي بدأ في عام 2022 تحت رعاية الأمم المتّحدة، بهدف إقرار أوّل اتّفاقية دولية ملزمة للحدّ من التلوّث البلاستيكي بحلول العام 2025.

لا يتحدّث رجا وعادل عن أرقام. لكنّ علاقة الصيّاد ببحره ومياهه، تجعله قادراً على تكوين صورة غير مبشّرة. يريان أسماكاً تتعذّب، أو تموت، أو ترحل بعيداً. وأظهرت دراسة علمية أعدّها باحثون من المركز الوطني للعلوم البحرية (CNRS-L) في لبنان بالاشتراك مع باحثين من فرنسا، نُشرت في عام 2021، أن الساحل اللبناني يعاني من تلوّث مكثّف بالمايكروبلاستيك، بعد تحليل المياه السطحية عند 22 موقعاً على امتداد سواحل بيروت وصور. وإلى مزيد من التفاصيل، أفادت الدراسة بأن القطع المكسّرة (fragments) مثّلت الجزء الأكبر من الملوّثات في الخريف، بنسبة 97% في بيروت و91% في صور، بينما كانت الخيوط (filaments) الأكثر شيوعاً خلال الربيع في بيروت، بنسبة 76.5%.

كأننا في لبنان نعيش حالة من الإنكار. فنحن الذين رضينا بكلّ شيء، لن نُمانع أن تتأثّر الثروة السمكية أو البحرية، أو أن تدخل جزيئات غير مرئية إلى أجسادنا، أو أن ترتفع نسبة الإصابة بالسرطان، أو أن يخسر عادل ورجا وآخرون مصدر رزقهم… فمثل هذه الحكايا قد تكون ترفاً، إلا أن هذا الترف، بات يشكّل تهديداً مباشراً لمنظومة بيئية متكاملة، ولإنسان يسعى إلى عيش حياة بتعقيدات أقلّ، وسنوات أطول. 

على صفحة “غرينبيس” بالعربية تحذير من تناولنا البلاستيك من خلال السمك، وتحقيق مصوّر بعنوان “بحر من البلاستيك”، والعديد من الموادّ في هذا الإطار. إلا أن هذه الحملة ليست جديدة، بل بدأت في عام 2024، بحسب مسؤولة حملة البلاستيك في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرح الحطّاب. ولا تنحصر الحملة بلبنان فقط، بل تشمل المغرب وتونس ومصر والإمارات، لأن “التلوّث البلاستيكي يتسارع بطريقة مخيفة في منطقتنا. أما لماذا المايكروبلاستيك على وجه الخصوص؟ فلأنه أصبح أكثر تأثيراً على الصحّة”.

وتوضح الحطّاب أن “أقلّ من 10% فقط من البلاستيك يُعاد تدويره في العالم. أما البلاستيك الذي لا يتحلّل، فيتحوّل إلى جزيئات أصغر فأصغر ليصبح مايكروبلاستيك”، والأخير يدخل إلى النظام الغذائي وجسم الإنسان، سواء من خلال السمك الذي نأكله، أو مياه الشرب، أو حتى الملابس المصنوعة من البوليستر. وتشير الأبحاث إلى أن المايكروبلاستيك يمكن أن يعمل مثل “إسفنجة” تمتصّ ملوّثات بيئية مثل المبيدات الحشرية والمعادن السامّة (مثل الرصاص والكادميوم) والموادّ الكيميائية العضوية الضارّة، ما يجعله ناقلاً لهذه الموادّ إلى أجسامنا نظراً لصغر حجم الجسيمات وقدرتها على اختراق الحواجز البيولوجية.

والغوص في البحر يقودنا إلى صورة أكثر تشاؤماً. فقطع البلاستيك الكبيرة والمايكروبلاستيك عندما تُرمى في البحر، تشكّل تهديداً مباشراً للكائنات البحرية. السلاحف البحرية مثلاً قد تبتلع الأكياس البلاستيكية لأنها تشبه قناديل البحر من أغذيتها، فتختنق وتموت. الأسماك بدورها قد تبتلع قطع البلاستيك ظنّاً أنها طعام، فتعلق في معدتها وتؤذّي أعضاءها الداخلية، مسبّبة إصابات خطيرة تؤدّي أحياناً إلى نفوقها، عدا الخطر غير المرئي المتعلّق بالموادّ الكيميائية الملتصقة بالبلاستيك. والأخيرة عندما تبتلعها الأسماك، تنتقل عبر السلسلة الغذائية لتهدّد صحّة الكائنات البحرية والإنسان على حدّ سواء، بحسب الحطّاب. والحلقة تطول، إذ إن استمرار تلوّث المحيطات بالنفايات والموادّ الكيميائية يضرّ بالشعاب المرجانية والأنظمة البيئية الدقيقة والثروة البحرية التي يعتمد عليها ملايين الناس والصيّادين والأشخاص الذي يعتمد رزقهم اليومي على السواحل والبحار.

تتابع الحطّاب أن الصيّادين، من بينهم رجا وعادل، ربما، قد لا يكونون على دراية علمية دقيقة بتأثيرات هذه الجزيئات البلاستيكية، لكنّهم يلاحظون التغيّر بوضوح. فالصيد لم يعد كما كان في السابق في ظلّ تراجع الثروة البحرية. فتراكم البلاسيك في البحار على سبيل المثال، يشكّل طبقة تدفع الأسماك إلى الابتعاد، ما يجبر الصيّادين على الإبحار مسافات أبعد بحثاً عن الرزق. 

ما تقوله الحطّاب لا يختلف عمّا تفيدنا به الاختصاصية في الإدارة البيئية سمر خليل، التي تستند إلى دراسة لبنانية أُعدّت في عام 2022 ونُشرت في مجلة Food Control، تشير إلى أن 56% من عيّنات ملح الطعام في السوق المحلّي تحتوي على جزيئات مايكروبلاستيك، وأن 81.3% من العلامات التجارية التي جرى تحليلها كانت ملوّثة بدرجات متفاوتة. وخلص الباحثون إلى أن كلّ لبناني بالغ يتعرّض سنوياً إلى نحو 2372 جزيئة مايكروبلاستيك من الملح وحده.  

وتشرح أن المايكروبلاستيك قد يكون مصنَّعاً بشكل مباشر كما في مستحضرات التجميل، أو ناتجاً عن تفكّك البلاستيك الكبير مثل شباك الصيد والقناني وغيرها. هذه الجزيئات لا تتحلّل، وتبقى في الطبيعة لتدخل إلى شبكة الغذاء، فتُكتشف في الأسماك والملح والمأكولات البحرية وحتى في الهواء الذي نتنفسه. والأخطر أنها قادرة على اختراق المشيمة، والوصول إلى الدماغ، والتكدّس في أعضاء مثل الكبد. ويرتبط وجودها بمشاكل صحّية جسيمة تشمل السرطان، ومشاكل في الإنجاب، وأمراض القلب والجهاز العصبي، والغدد الصمّاء، وضعف المناعة، وغيرها.

حين سألت عادل عن علاقته بالبحر، سكت. بدا أنه عليّ تذكيره بعشق يفترض أنه فطري بالنسبة إلى صيّاد، وأبديّ في الآن نفسه. لكنّه بدا متعباً ويائساً. البحر الذي أحبّ لم يعد يُطعمه كما في السابق، والتفاصيل البسيطة سابقاً، باتت أكثر صعوبة.

قتامة ما سبق لا تعني غياب الحلول. بل هي موجودة دائماً، منها إقرار اتّفاقية ملزمة على غرار اتّفاقية باريس المعنيّة بتغيّر المناخ، والتوقّف عن استخدام البلاستيك أحادي الاستعمال، وزيادة التمويل، والتوعية، بحسب الحطّاب، بالإضافة إلى إدارة النفايات كما تقول خليل. 

رجا الذي ترك مهنته، وعادل الذي يصرّ على البقاء رغم الخسائر، هما شاهدان حيّان على أثر التلوّث الذي يتجاوز البحر ليصيب الإنسان مباشرة.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
04.10.2025
زمن القراءة: 6 minutes

كأننا في لبنان نعيش حالة من الإنكار. فنحن الذين رضينا بكلّ شيء، لن نُمانع أن تتأثّر الثروة السمكية أو البحرية، أو أن تدخل جزيئات غير مرئية إلى أجسادنا، أو أن ترتفع نسبة الإصابة بالسرطان، أو أن يخسر عادل ورجا وآخرون مصدر رزقهم… فمثل هذه الحكايا قد تكون ترفاً، إلا أن هذا الترف، بات يشكّل تهديداً مباشراً لمنظومة بيئية متكاملة، ولإنسان يسعى إلى عيش حياة بتعقيدات أقلّ، وسنوات أطول.

يُحكى أن سمكة الأنشوبة؛ وهي من الأسماك الصغيرة جدّاً في البحر المتوسّط، كانت تتغذّى بشكل رئيسي على الكائنات الدقيقة في البحر. في أحد الأيّام، وبينما كانت تبحث عن طعام، ابتلعت قطعاً صغيرة وشفّافة من البلاستيك، تشبه الطعام الذي اعتادت أن تأكله. 

الدراسة التي أعدّها المركز الوطني للبحوث العلمية في لبنان (CNRS-L)، والمركز الوطني لعلوم البحار بالتعاون مع جامعة ليل الفرنسية، حول تلوّث أسماك الأنشوبة والبيئة البحرية اللبنانية بالمايكروبلاستيك، ونُشرت في عام 2019، خلصت إلى أن 83% من هذه الأسماك تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة، بعضها يحمل سموماً كالمبيدات والمعادن الثقيلة. 

ومن دون نوايا مسبقة من الأنشوبة، إلا أن هذه الموادّ تنتقل من البحر إلى جسم السمكة، ومن السمكة إلى مائدة الإنسان، وباتت أجسامنا نحن والأسماك ملأى بالمايكروبلاستيك.

حين يتحدّث صيّادون عن البحر، يُلاحظ نوع من الجفاء بينهم وبينه. فالصيد الذي كان يوماً مصدر رزق جيّداً بالنسبة إليهم، أو على الأقلّ أمّن لهم قوت عائلاتهم، فرغ مما يحتاجه الصيّادون للعيش، إلى درجة تخلّى رجا عن مهنته قبل سنتين، بعدما صار الصيد عبئاً عليه. 

يعدّد رجا أسباباً كثيرة، منها الديناميت، هواة الصيد، كلاب البحر، تغيّر الطقس والأحوال الجوّية، بالإضافة إلى البلاستيك الذي يسمّم السمك، كلّها أسباب جعلته يحاول كسب الرزق من عمل آخر. وعادل مثله… مستاء، هو الذي ورث مهنة الصيد أباً عن جدّ: “نحن أهل صور صيّادون”. لكن ماذا يفعل؟ تبدو شكواه “فشّة خلق” أساسها ضيق الحال، فهو مثله مثل صيّادين آخرين، يعتمد على الصيف بشكل أساسي لكسب الرزق.

في تسلسل بسيط، نقل الإنسان البلاستيك إلى الأنشوبة وغيرها من الأسماك، لتنقلها بدورها إلى الإنسان على شكل مايكروبلاستيك بعدما تحلّلت. ومع الوقت، قد نضيف، نحن الذين نعرّف عن أنفسنا ككائنات من لحم ودم، البلاستيك.

ولا يبدو الواقع العالمي مطمئناً. في 15 آب/ أغسطس 2025، انتهت جولة المفاوضات الدولية حول الاتّفاقية العالمية لمكافحة التلوث البلاستيكي في جنيف، من دون التوصّل إلى اتّفاق، بعد خلافات حادّة بين الدول المشاركة. وأسباب الانقسام تمحورت حول إمكانيّة فرض قيود على إنتاج البلاستيك البكر. 

وحدث أن رفضت دول كبرى منتجة للنفط والبلاستيك، بينها الولايات المتّحدة والسعودية وروسيا، إدراج أيّ بنود للحدّ من الإنتاج، بينما تمسّك “التحالف عالي الطموح” بقيادة الاتّحاد الأوروبي وعدد من الدول النامية المتضرّرة، بضرورة معالجة جذور الأزمة عبر تقليص الإنتاج تدريجياً. وكانت هذه الجلسة جزءاً من مسار تفاوضي بدأ في عام 2022 تحت رعاية الأمم المتّحدة، بهدف إقرار أوّل اتّفاقية دولية ملزمة للحدّ من التلوّث البلاستيكي بحلول العام 2025.

لا يتحدّث رجا وعادل عن أرقام. لكنّ علاقة الصيّاد ببحره ومياهه، تجعله قادراً على تكوين صورة غير مبشّرة. يريان أسماكاً تتعذّب، أو تموت، أو ترحل بعيداً. وأظهرت دراسة علمية أعدّها باحثون من المركز الوطني للعلوم البحرية (CNRS-L) في لبنان بالاشتراك مع باحثين من فرنسا، نُشرت في عام 2021، أن الساحل اللبناني يعاني من تلوّث مكثّف بالمايكروبلاستيك، بعد تحليل المياه السطحية عند 22 موقعاً على امتداد سواحل بيروت وصور. وإلى مزيد من التفاصيل، أفادت الدراسة بأن القطع المكسّرة (fragments) مثّلت الجزء الأكبر من الملوّثات في الخريف، بنسبة 97% في بيروت و91% في صور، بينما كانت الخيوط (filaments) الأكثر شيوعاً خلال الربيع في بيروت، بنسبة 76.5%.

كأننا في لبنان نعيش حالة من الإنكار. فنحن الذين رضينا بكلّ شيء، لن نُمانع أن تتأثّر الثروة السمكية أو البحرية، أو أن تدخل جزيئات غير مرئية إلى أجسادنا، أو أن ترتفع نسبة الإصابة بالسرطان، أو أن يخسر عادل ورجا وآخرون مصدر رزقهم… فمثل هذه الحكايا قد تكون ترفاً، إلا أن هذا الترف، بات يشكّل تهديداً مباشراً لمنظومة بيئية متكاملة، ولإنسان يسعى إلى عيش حياة بتعقيدات أقلّ، وسنوات أطول. 

على صفحة “غرينبيس” بالعربية تحذير من تناولنا البلاستيك من خلال السمك، وتحقيق مصوّر بعنوان “بحر من البلاستيك”، والعديد من الموادّ في هذا الإطار. إلا أن هذه الحملة ليست جديدة، بل بدأت في عام 2024، بحسب مسؤولة حملة البلاستيك في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرح الحطّاب. ولا تنحصر الحملة بلبنان فقط، بل تشمل المغرب وتونس ومصر والإمارات، لأن “التلوّث البلاستيكي يتسارع بطريقة مخيفة في منطقتنا. أما لماذا المايكروبلاستيك على وجه الخصوص؟ فلأنه أصبح أكثر تأثيراً على الصحّة”.

وتوضح الحطّاب أن “أقلّ من 10% فقط من البلاستيك يُعاد تدويره في العالم. أما البلاستيك الذي لا يتحلّل، فيتحوّل إلى جزيئات أصغر فأصغر ليصبح مايكروبلاستيك”، والأخير يدخل إلى النظام الغذائي وجسم الإنسان، سواء من خلال السمك الذي نأكله، أو مياه الشرب، أو حتى الملابس المصنوعة من البوليستر. وتشير الأبحاث إلى أن المايكروبلاستيك يمكن أن يعمل مثل “إسفنجة” تمتصّ ملوّثات بيئية مثل المبيدات الحشرية والمعادن السامّة (مثل الرصاص والكادميوم) والموادّ الكيميائية العضوية الضارّة، ما يجعله ناقلاً لهذه الموادّ إلى أجسامنا نظراً لصغر حجم الجسيمات وقدرتها على اختراق الحواجز البيولوجية.

والغوص في البحر يقودنا إلى صورة أكثر تشاؤماً. فقطع البلاستيك الكبيرة والمايكروبلاستيك عندما تُرمى في البحر، تشكّل تهديداً مباشراً للكائنات البحرية. السلاحف البحرية مثلاً قد تبتلع الأكياس البلاستيكية لأنها تشبه قناديل البحر من أغذيتها، فتختنق وتموت. الأسماك بدورها قد تبتلع قطع البلاستيك ظنّاً أنها طعام، فتعلق في معدتها وتؤذّي أعضاءها الداخلية، مسبّبة إصابات خطيرة تؤدّي أحياناً إلى نفوقها، عدا الخطر غير المرئي المتعلّق بالموادّ الكيميائية الملتصقة بالبلاستيك. والأخيرة عندما تبتلعها الأسماك، تنتقل عبر السلسلة الغذائية لتهدّد صحّة الكائنات البحرية والإنسان على حدّ سواء، بحسب الحطّاب. والحلقة تطول، إذ إن استمرار تلوّث المحيطات بالنفايات والموادّ الكيميائية يضرّ بالشعاب المرجانية والأنظمة البيئية الدقيقة والثروة البحرية التي يعتمد عليها ملايين الناس والصيّادين والأشخاص الذي يعتمد رزقهم اليومي على السواحل والبحار.

تتابع الحطّاب أن الصيّادين، من بينهم رجا وعادل، ربما، قد لا يكونون على دراية علمية دقيقة بتأثيرات هذه الجزيئات البلاستيكية، لكنّهم يلاحظون التغيّر بوضوح. فالصيد لم يعد كما كان في السابق في ظلّ تراجع الثروة البحرية. فتراكم البلاسيك في البحار على سبيل المثال، يشكّل طبقة تدفع الأسماك إلى الابتعاد، ما يجبر الصيّادين على الإبحار مسافات أبعد بحثاً عن الرزق. 

ما تقوله الحطّاب لا يختلف عمّا تفيدنا به الاختصاصية في الإدارة البيئية سمر خليل، التي تستند إلى دراسة لبنانية أُعدّت في عام 2022 ونُشرت في مجلة Food Control، تشير إلى أن 56% من عيّنات ملح الطعام في السوق المحلّي تحتوي على جزيئات مايكروبلاستيك، وأن 81.3% من العلامات التجارية التي جرى تحليلها كانت ملوّثة بدرجات متفاوتة. وخلص الباحثون إلى أن كلّ لبناني بالغ يتعرّض سنوياً إلى نحو 2372 جزيئة مايكروبلاستيك من الملح وحده.  

وتشرح أن المايكروبلاستيك قد يكون مصنَّعاً بشكل مباشر كما في مستحضرات التجميل، أو ناتجاً عن تفكّك البلاستيك الكبير مثل شباك الصيد والقناني وغيرها. هذه الجزيئات لا تتحلّل، وتبقى في الطبيعة لتدخل إلى شبكة الغذاء، فتُكتشف في الأسماك والملح والمأكولات البحرية وحتى في الهواء الذي نتنفسه. والأخطر أنها قادرة على اختراق المشيمة، والوصول إلى الدماغ، والتكدّس في أعضاء مثل الكبد. ويرتبط وجودها بمشاكل صحّية جسيمة تشمل السرطان، ومشاكل في الإنجاب، وأمراض القلب والجهاز العصبي، والغدد الصمّاء، وضعف المناعة، وغيرها.

حين سألت عادل عن علاقته بالبحر، سكت. بدا أنه عليّ تذكيره بعشق يفترض أنه فطري بالنسبة إلى صيّاد، وأبديّ في الآن نفسه. لكنّه بدا متعباً ويائساً. البحر الذي أحبّ لم يعد يُطعمه كما في السابق، والتفاصيل البسيطة سابقاً، باتت أكثر صعوبة.

قتامة ما سبق لا تعني غياب الحلول. بل هي موجودة دائماً، منها إقرار اتّفاقية ملزمة على غرار اتّفاقية باريس المعنيّة بتغيّر المناخ، والتوقّف عن استخدام البلاستيك أحادي الاستعمال، وزيادة التمويل، والتوعية، بحسب الحطّاب، بالإضافة إلى إدارة النفايات كما تقول خليل. 

رجا الذي ترك مهنته، وعادل الذي يصرّ على البقاء رغم الخسائر، هما شاهدان حيّان على أثر التلوّث الذي يتجاوز البحر ليصيب الإنسان مباشرة.