كانت السيدة عنان أبو جامع (30 عاماً) التي تقطن في بلدة بني سهيلا شرق مدينة خان يونس جنوب غزة، في الشهر الثالث من حملها، حين ألقت طائرة إسرائيلية أوراقاً مكتوباً عليها أوامر بإخلاء المنطقة، بذريعة أنها ستكون منطقة قتال خطيرة.
هرولت عنان برفقة زوجها مسافة أكثر من 2 كيلومتراً حتى وصلا إلى الطريق العام، هاربين من الموت الذي ينتظرهما في حال بقيا في مكان سكنهما، كما حدث للكثيرين من أقاربهما وجيرانهما في بني سهيلا.
طريق النزوح التي عبراها مشياً على الأقدام نحو غرب خان يونس حيث منطقة المواصي المصنفة من الجيش الإسرائيلي بأنها آمنة، لم تُتح لهما الاستراحة أو الجلوس في أي مكان، بسبب القصف العشوائي، وإمكانية تعرضهما للقتل في أي وقت، كما حدث مع نازحين آخرين خلال خروجهم من منازلهم.
بعد أربع ساعات من المشي المتواصل، وصلت عنان متعبة وغير قادرة على التقاط أنفاسها، كان الطريق مزدحماً بآلاف النازحين، وصوت القذائف لا يتوقف، وهي لا تتوقف عن التفكير بحملها وماذا سيحدث لها بسبب هذا الإجهاد.
قضت عنان ليلتها الأولى في خيمة لأقاربها، خلال الليل حدث معها نزيف مهبلي، لكن لم يكن أمامها إلا البقاء في فراشها والانتظار حتى الصباح للذهاب إلى المستشفى، بسبب خطر التحرك ليلاً في مدينة تتعرض لحرب مدمرة.
في الصباح وصلت عنان إلى مستشفى التحرير للنساء والولادة داخل مجمع ناصر الطبي، وبصعوبة وبعد انتظار لساعات طويلة لوجود مئات النساء الحوامل اللواتي ينتظرن المعاينة، استطاعت أن تدخل إلى غرفة الفحص.
أظهر الكشف الأول لعنان عدم وجود نبض للجنين، وحاجتها إلى عملية إجهاض عاجلة من أجل وقف النزيف حفاظاً على حياتها.
تقول عنان لـ”درج”: “خلال شهور حملي الثاني، نزحت أكثر من 7 مرات، ولم أحصل على حقي بالتغذية كالحمل الأول، الذي كانت متوفرة خلاله اللحوم الطازجة والفواكه ومختلف أنواع الطعام”.
دخلت عنان غرفة العمليات في مجمع ناصر الطبي، وتمكن الأطباء من إجراء عملية الإجهاض لها، وكانت هي الحالة السابعة من مجموع حالات الإجهاض، التي أجراها المستشفى في ذلك اليوم.
انتهاء أجيال
رئيس قسم النساء والولادة داخل مجمع ناصر الطبي، الطبيب غسان مسلم، أكد “زيادة حالات الإجهاض بشكل مضاعف وغير مسبوق في قطاع غزة، لم تمر عليه منذ 10 سنوات، حيث تنتهي أجيال قبل أن تبدأ”، وفي حوزته أرقام تُظهر الزيادة غير الطبيعية في حالات الإجهاض.
ويوضح مسلم أن “قسم النساء والولادة داخل المستشفى يتعامل مع 7 حالات إجهاض يومياً، في حين كانت قبل الحرب لا تتعدى حالة أو حالتين”.
ويقول مسلم لـ”درج”: “بلغ عدد حالات الإجهاض في أغسطس/ آب من العام الماضي 35 حالة، في حين سجل شهر أغسطس/ آب لهذا العام وحده 127 حالة”.
ومعظم حالات الإجهاض بحسب مسلم، تصيب الحوامل اللواتي يشهدن القصف في أماكن سكنهن أو في أخرى قريبة، مما يسبب لهن نوبات هلع شديد، ويعرضهن لاستنشاق مواد سامة، وقد يحدث الإجهاض نتيجة النزوح الذي يُجبر الحامل على الركض في الشوارع أو المشي لمسافات طويلة مع حمل أمتعة، أو نتيجة العيش داخل الخيام تحت حرارة الشمس الشديدة.
كما يُرجع مسلم أسباب ارتفاع حالات الإجهاض إلى “غياب المكملات الغذائية التي يجب أن تحصل عليها الحامل خلال الشهور الثلاثة الأولى للحمل، إضافة إلى العناصر الغذائية الأساسية كالفواكه، واللحوم الحمراء، والخضار”.
وفي حال توفرت هذه الأساسيات، يقول مسلم: “لا تتجاوز حصة الحامل نسبة واحد من ألف، وهي نسبة لا تسد ثغرة في النظام الغذائي الخاص بالحوامل”، ويشير إلى أن “المكملات الغذائية ومثبتات الحمل كعقار “فوليك أسيد” نفذت من الأسواق”.
وزارة الصحة في قطاع غزة، سبق أن أكدت في مارس/ آذار 2023، أن “نحو 60 ألف امرأة فلسطينية حامل في القطاع، يعانين من سوء التغذية والجفاف جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع”.
وأشارت الوزارة في بيان، إلى أن “النساء يشكلن 49 في المئة من سكان القطاع، ومعظمهن في سن الإنجاب، وأن نحو 5 آلاف سيدة يلدن شهرياً في ظروف قاسية وغير آمنة وغير صحية نتيجة القصف المتواصل والتشريد”.
وسط القطاع
يُعد مستشفى العودة الأهلي في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة المستشفى الوحيد الذي يقدم حالياً خدمات الأمومة مثل الولادات الطبيعية والعمليات القيصرية.
ويستقبل المستشفى، وفق رئيسة قسم المرضى المقيمين والأمومة الدكتورة ياسمين، حالات متزايدة للنساء اللواتي تعرضن لنزيف حاد أثناء حملهن، ويحتجن إلى عمليات إجهاض.
وأكدت الدكتورة ياسمين، أن “الطاقم الطبي وثق العديد من الحالات التي فقدت فيها النساء الحوامل أجنتهن، وهناك حالات نزيف وولادات مبكرة، ومن الممكن أن تكون حالات النزيف بعد الولادة ناتجة عن سوء التغذية أو فقر الدم، حيث يؤدي القصف إلى النزوح، فيُجبر الناس على الانتقال من منزل إلى آخر، وقد تسبب هذه العوامل النزيف المباشر وارتفاع ضغط الدم عند الحامل، ويمكن أن تؤدي إلى انفصال كامل للجنين “انفصال المشيمة” وبالتالي الإجهاض”.
ويتعامل القسم حسب الدكتورة ياسمين مع العديد من الحالات في هذه الظروف، وهناك العديد من الحوامل اللواتي فقدن أجنتهن نتيجة التعرض المباشر للقصف.
وقالت: “إن معظم الأطفال يولدون بأوزان متناقصة، مما يجعلهم يعانون من نقص الأكسجين، أو صعوبات في التنفس، إضافة إلى الالتهابات نتيجة قلة النظافة، أو التقاط عدوى، ويتم تحويل العدد الأكبر منهم إلى مستشفى شهداء الأقصى، كما تصاب الحامل بسبب نقص التغذية بفقر الدم أو الهزال العام، وبالتالي تصبح غير قادرة على الولادة أو تحمّل ضغط الولادة، مما يشكل خطراً على حياتها وحياة الجنين معاً”.
شمال القطاع
هالة الهسي (25 عاماً) امرأة من حي النصر شمال مدينة غزة، كانت في شهر حملها الثاني، حين تعرضت الشقة المجاورة لشقتها إلى قصف بصاروخ إسرائيلي، فأصيبت بجرح في قدمها اليمنى، ونجا طفلها أحمد وزوجها.
وصلت هالة إلى المستشفى الأهلي العربي المعمداني، وأجريت لها الإسعافات الأولية ثم غادرت إلى منزلها، الذي شرعت بتنظيفه برفقة زوجها، الذي أصيب أيضاً بشظايا في أنحاء جسده.
بعد أسبوع على إصابتها، ليلاً، أصيبت هالة بنزيف مهبلي حاد وبآلام في جسدها، ولم يكن أحد من عائلتها إلى جوارها ليهتم بها ويعرف ماذا يحدث لها، فوالدتها نزحت والعائلة إلى جنوب قطاع غزة.
انتظرت هالة أكثر من 12 ساعة حتى تمكن زوجها من نقلها بعربة يجرها حصان، إلى مستشفى العودة في تل الزعتر شمال القطاع، لعدم توفر السيارات.
تقول هالة لـ”درج”: “مكثت ساعات حتى تمكنت من الدخلو إلى غرفة الفحص، بسبب وجود مئات النساء اللواتي ينتظرن دورهن، وبعد الفحص قرر الطبيب إخضاعي لعملية جراحية لإخراج الجنين من الرحم”.
بعد ست ساعات من العملية قرر الطبيب إخراجها من المستشفى وإعادتها إلى البيت بسبب عدم وجود سرير لها داخل قسم النساء والولادة، نظراً لاكتظاظه بالحالات المشابهة.
زيادة ملحوظة
رئيس قسم النساء والولادة في مستشفى العودة شمال القطاع الطبيب ياسر أبو شعبان، أكد وجود زيادة ملحوظة في حالات الإجهاض في مناطق شمال قطاع غزة، نتيجة القصف الشديد، واستنشاق النساء الحوامل غبار الصواريخ السامة، واستمرار النزوح.
ويتعامل مستشفى العودة؛ وهو واحد من مستشفيين يعملان فقط في الشمال، وفق أبو شعبان، لـ”درج” مع “100 حالة إجهاض شهرياً خلال هذه الحرب، في حين كان يتعامل قبل الحرب مع 30 حالة شهرياً”، ويوضح أن “غالبية حالات الإجهاض التي تصل المستشفى تكون لنساء مصابات بنزيف حاد”.
وغالباً ما تُجري الطواقم الطبية عمليات إجهاض عاجلة للنساء المصابات بالنزيف من أجل الحفاظ على حياتهن.
خلال الحرب، توقفت العيادات الصحية التابعة لـ”الأونروا”، عن تقديم خدمات الرعاية الطبية للنساء قبل الولادة، التي كانت تتضمن فحصاً بدنياً شاملاً، ومتابعات وفحوصات دورية، وتقديم المكملات الغذائية، والواقي الذكري، وتركيب جهاز منع الحمل ” اللولب”.
أرقام أممية وتحدي التعامل مع الدورة الشهرية
تعيش في قطاع غزة أكثر من 690,000 امرأة وفتاة في فترة الحيض، مع إمكانية محدودة للحصول على مستلزمات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وأجبر النقص في هذه المنتجات العديد من النساء والفتيات على ارتجال بدائل، مثل قطع قماش الخيم، مما يعرضهن إلى خطر متزايد للإصابة بالالتهابات وغيرها من المضاعفات الصحية الأخرى، حسب الأمم المتحدة.
وحسب تقديرات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – “الأونروا”، نزح حوالي 80% من سكان غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والعديد منهم نزح أكثر من مرة.
ومما يفاقم الوضع الصحي وجود مرحاض واحد لكل 160 نازحاً، ووحدة استحمام واحدة لكل 700 شخص، ممن يعيشون في مدارسها في جميع أنحاء قطاع غزة، وفقاً لـ”الأونروا”
وبذلك تتحول حياة النازحين إلى كابوس بسبب انعدام الخصوصية ومحدودية قدرة الحفاظ على النظافة الشخصية، إلى جانب ارتفاع معدلات الجوع والعطش وقلة النوم.
تفيد تقارير الأمم المتحدة أنه لا يوجد شخص في غزة غير جائع، نظراً لمحدودية إمكانية الحصول إلى الغذاء، ومن المتوقع ازدياد خطر سوء التغذية والجفاف لدى النساء والفتيات.
وترتفع المخاطر بشكل خاص لدى النساء الحوامل والمرضعات وأطفالهن، حيث إن بعضهن غير قادرات على إرضاع أطفالن بسبب سوء التغذية، ولا حتى على إعداد الحليب الصناعي بسبب نقص المياه النظيفة.
منظمة اليونيسف ووكالة “الأونروا” وصندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة الصحة العالمية، توقعت أن ترتفع وفيات الأمهات في غزة، محذرة من أن الآثار النفسية الناجمة عن الأعمال العدائية، لها أيضاً عواقب مباشرة على الصحة الإنجابية “بما في ذلك ارتفاع حالات الإجهاض الناجم عن التوتر، وحالات الإملاص، والولادات المبكرة”.
وأكدت منظمة الصحة العالمية، أن 95% من النساء الحوامل والمرضعات في غزة يواجهن فقراً غذائياً حاداً.
وفي 19 فبراير/شباط الماضي، حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) من أن الارتفاع الحاد لسوء التغذية بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة يشكل تهديداً خطيراً على صحتهم، خاصة مع استمرار الحرب المدمرة.
كذلك، سبق وأكد الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة أن المزيد من النساء يجهضن أو يذهبن إلى المخاض المبكر، بسبب الصدمة والإجهاد تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي.