عندما عاد ابراهيم (17 سنة) سنة من سوريا إلى الدنمارك عام 2013، أرسله زوج أمه فوراً إلى الشرطة. فابراهيم اختفى قبل عودته 6 أشهر؛ قبل موعد امتحاناته مباشرةً. ويقول إنه أمضى تلك الفترة، يعمل في الإغاثة في شمال سوريا. لكن قصته غير متجانسة؛ إذ إن إبراهيم يؤكد أنه لا يتذكر حتى اسم المؤسسة الخيرية التي عمل فيها.
لم تقتنع الشرطة تماماً بأنه كان يقول الحقيقة. لكنها مع ذلك لم تستطع مقاضاته؛ إذ لم يكن هناك دليلٌ على تورطه مع أي جماعة إرهابية. لكنها ظلت غير راغبة في إطلاق العنان له، وكلفته العمل في برنامج متخصص لمكافحة التطرف، تماماً كحال آلاف الشباب الأوروبيين، الذين تعتقد السلطات أنهم معرضون بغالبيتهم لخطر التطرف. لكن بعضهم فعل ما هو أكثر من مجرد التفاخر على شبكة الإنترنت أو تصفح المواقع المريبة، كما فعل ابراهيم على الأرجح، فبعضهم قاتل، أو حاول القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية.
فيما تتهاوى آخر بقايا تنظيم الدولة الإسلامية، صار ما يحدث لهؤلاء الشباب والشابات قضية مؤلمة في أوروبا.
وأدى انسحاب القوات الأميركية المستمر من سوريا إلى جعل القضية أكثر إلحاحاً. وفاقم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأمر، عندما هدد في وقت سابقٍ من هذا الشهر، بالإفراج عن أكثر من 800 مقاتل أوروبي تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية، إذا ما كانت بلدانهم على استعداد لإعادتهم إلى الوطن للمثول أمام المحاكم. وإذا تمكن هؤلاء المقاتلون من التجمع في سوريا، فإنهم قد يشكلون تهديداً أمنياً خطيراً في المستقبل.
بيد أن المشكلة هنا لا تقتصر على المقاتلين المحنكين. إذ إن هناك فارقاً ضخماً بين من يصنع القنابل ومن يُقدم دعماً غير فعال. كما أن معظم من غادروا أوروبا للانضمام إلى “داعش”، كانوا من النساء اللواتي لم يشاركن مباشرةً في أعمال العنف، وكان البعض الآخر مجرد مراهقين في حين غادروا. توضح حالة شاميما بيجوم تعقيدات المشكلة. فقد توسلت بيجوم–التي غادرت لندن لتنضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية عندما كانت طالبة في الخامسة عشرة من عمرها- أن يُسمح لها بالرجوع إلى المملكة المتحدة بعدما أنجبت طفلها بأيامٍ فقط. أثار صغر سنها الشفقة، لكن انعدام شعورها بالندم استرعى الحنق. سرعان ما سحب ساجد جافيد، وزير الداخلية البريطاني الجنسية من بيجوم، تاركاً إياها بلا جنسية، وهو إجراء غير مشروع بموجب القانون الدولي، لكن جافيد برره بأنها مؤهلة من الناحية الفنية للحصول على الجنسية البنغلادشية. أما أعضاء البرلمان فعارضوا ذلك القرار، محتجين بأنه من الواجب أن تخضع بيجوم للعدالة في المملكة المتحدة، البلد الذي تحولت فيه إلى متطرفة.
أثار الحل الذي توصل إليه جافيد انتقادات حادة من الناحية القانونية، بينما نال ترحيباً من جانب الشعب. إلا أنه من غير المُمكن جعل غالبية مجندي “داعش” الأوروبيين، وبعضهم من البيض المتحولين إلى الإسلام، ببساطة مشكلة دولة أخرى. بحلول أيار/ مايو من العام الماضي، عاد حوالى 30 في المئة من الذين غادروا إلى سوريا، إلى الوطن، وفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن البرلمان الأوروبي. وواجه بعضهم محاكمات، لكن هناك حالات أخرى – مثل إبراهيم- أكثر غموضاً. والكثير من الذين سجنوا لن يبقوا خلف القضبان إلى الأبد. فهل تُمكن إعادة تأهيل هؤلاء المجندين الشباب لكي ينتهي الخطر الذي يُشكلونه؟ وهل يمكن أن يندمجوا في المجتمع مرة أخرى؟
الإجابة في حالاتٍ كثيرة هي نعم. إذ إنها ليست المرة الأولى التي تتعامل فيها أوروبا مع شباب وشابات غاضبين أو متعصبين.
بدايةً من الفوضويين الذي ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، وتجلت حالتهم بوضوح في رواية هنري جيمس “الأميرة كازاماسيما”، وحتى الحركات القومية العنيفة التي ظهرت في أواخر القرن العشرين، ليس الإرهاب غريباً على أوروبا. فتفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي في المملكة المتحدة قوبلت بعنفٍ مماثل من جانب منظمة إيتا –مجموعة يسارية باسكية متطرفة في إسبانيا تخضع لاتفاق وقف إطلاق النار منذ عام 2010- وحركة النظام الجديد (Ordine Nuovo) الفاشية في إيطاليا. لكن الإرهابيين سبق أن تركوا الإرهاب وراءهم وعادوا إلى المجتمع الأوروبي، على رغم أنها لم تكن عملية سريعة أو سهلة. واستغرقت عملية إعادة دمج المقاتلين السابقين في إيرلندا عقوداً. وأُطلق سراح أدريانا فراندي عام 1994 بعدما قضت 15 عاماً في السجن لدورها في جماعة الألوية الحمراء الشيوعية الإيطالية العنيفة. ووصفت في وقت لاحق انفصالها عن المجموعة بأنها “عملية نضجت بشكل تدريجي للغاية… من ألف مرحلة صغيرة”.
يقول بعض مجندي تنظيم الدولة الإسلامية المراهقين إنهم تغيروا بالفعل. فقد قالت هدى موثانا، التي انضمت إلى التنظيم في أواخر عام 2014 عندما كانت في التاسعة عشرة، إنها “نادمة بشدة” على قرارها، ووصفت نفسها بأنها كانت “جاهلة ومتعجرفة”. وهي ترغب في العودة إلى الولايات المتحدة للمثول أمام القضاء.
وقد يسهل الأمر عندما يبدي المجندون الشباب –مثل موثانا- رغبتهم في تحمل مسؤولية اختياراتهم، إذ عادةً ما يقال إن مجندي تنظيم الدولة الإسلامية الشباب، تم “إعدادهم”، إلا أن هؤلاء الذين تواصلت معهم، تحدثوا بدلاً من ذلك عن اتخاذهم قراراتٍ سياسية واعية –على رغم كونها ساذجة- بالانضمام إلى التنظيم. يصف دانيال كولر، وهو خبير في التطرف، التشدد بأنه عملية من “التوحد”؛ إذ تبدأ برؤية العالم من وجهة نظر واحدة. قد يتصور الجهادي أن هناك حرباً مُنسقة ضد المسلمين، والشخص المتعصب للعرق الأبيض قد يشعر بأن زوال عرقه صار وشيكاً. ويقتضي الطابع الملح الذي تتصف به المشكلة رداً سريعاً: فيبدو العنف مُبرراً في سبيل السعي إلى هدفٍ نبيل.
يمكن أن تنطوي عملية إعادة الدمج على محاولة علاج تطرف المتشددين العنيفين. وحاولت بعض البرامج فعل ذلك من خلال “إعادة قراءة” نظرة المتطرف إلى العالم. كما طور كولر نهجاً إرشادياً عائلياً يعمل على ذلك الأساس؛ يبني الاختصاصي المعالج الثقة مع أفراد عائلة الشخص المتطرف، موجهاً إياهم إلى تقديم وجهة نظرهم المختلفة إليه بهدوء. وبناء الثقة مع عائلة متطرفٍ عنيفٍ يوفر ضماناً كذلك؛ إذ غالباً ما يُلقي من يخطط لعملٍ إرهابي بتلميحات إلى أفراد عائلته وأصدقائه، ما يُمكنهم من تنبيه السلطات.
يسلك نموذج آرهوس في الدنمارك نهجاً مشابهاً، لكن مع المتطرف مباشرةً هذه المرة. وقد دخل إبراهيم إلى هذا البرنامج؛ تم تقديمه إلى موجهٍ متطوع هو محامٍ هادئ شاب يُسمى حسن. في البداية، راود القلق إبراهيم من أن يكون حسن جاسوساً، لكن الأخير فأمضى شهوراً يكتسب ثقته، وعندما أعرب ابراهيم في النهاية عن غضبه من المجتمع الدنماركي، استمع حسن له وتعاطف معه، لكنه أيضاً طرح بلطف بعض وجهات النظر الأخرى. يقول ابراهيم: “قال لي أموراً من وجهات نظرٍ أخرى لم أفكر فيها من قبل”، وأضاف: “بإمكانك مثلاً أن تكون مسلماً ناجحاً وأيضاً تتعلم وتساعد الناس”. يتدرب ابراهيم حالياً ليكون معالجاً نفسانياً.
لكن على رغم نجاح المحاولات الدمثة لمعالجة التطرف أحياناً، يمكن أن تؤدي الطرائق الدينية الصدامية التي تتبناها بعض الحكومات إلى ضررٍ أكبر. تُستخدم البرامج المماثلة لمعالجة التطرف في ماليزيا وإندونيسيا والسعودية والمملكة المتحدة. ليس من المستغرب أن تحاول بلاد لديها صورة معتمدة حكومياً للإسلام “تصحيح” جهادييها المبتدعين، لكن التزام المملكة المتحدة تقديم النصح الديني للمتطرفين أمرٌ محير.
في أحد البرامج البريطانية عام 2015، شرح أحد الموجهين للمتطرفين الصغار، كيف أنهم ببساطة أساءوا فهم الإسلام، وقدم لهم تفسيراً بديلاً أكثر اعتدالاً. تحدثتُ إلى أحد المشاركين والذي ترسخت مشاعره المتطرفة أكثر بدلاً من أن تُعالج. وأخبرني مشاركون في معالجة التطرف، أنه من واقع خبرتهم غالباً ما يكون رد المتطرفين إزاء الأساليب الأيديولوجية الصدامية، دفاعياً.
لكن الواقع أن الإرهابيين السابقين لا يحتاجون بالضرورة إلى نبذ جميع معتقداتهم المتطرفة كي يندمجوا في المجتمع مرة أخرى. أجرى جون هورغان، الخبير في الإرهاب، مقابلاتٍ مع أعضاء سابقين في منظمات القوميين البيض ومجموعات إيرلندية شمالية إرهابية والقاعدة أيضاً. ويوضح أنه شرع في بحثه مفترضاً أن الذين تركوا الإرهاب خلفهم واستقروا في حيواتٍ مسالمة، هم أشخاص تغيروا وينظرون إلى ماضيهم بندم، “لكن كثيرين ممن تحدثتُ معهم لا يزالون محتفظين بآرائهم المتطرفة”. يُفرّق هورغان بين الانفصال عن الإرهاب ومعالجة التطرف، فتغيير السلوك لا يعني بالضرورة تغيير المعتقدات.
بعد كل شيء، ينضم الناس إلى الجماعات الإرهابية لأسباب شتى غير الأيديولوجيات، منها أسباب مالية واجتماعية ونفسية. يشير مارك ساغمان، الخبير في مكافحة الإرهاب، أن الأسرة والأصدقاء غالباً ما يكون لهم دور مهم في تهيئة انخراط الشخص في الإرهاب. عندما سافرت شميمة بيغوم وصديقتاها إلى سوريا، كنّ يتبعن صديقة لهن من المدرسة التحقت بالدولة الإسلامية.
في المقابل، يمكن أن تحفز تلك الدوافع المالية والاجتماعية والنفسية ذاتها، الشخص على الانفصال عن الإرهاب، من دون التخلي بالضرورة عن معتقداته المتطرفة. على سبيل المثال، تلعب الروابط العائلية وروابط الصداقة دوراً مهماً في سحب الشباب من العصابات العنيفة ومساعدتهم في بناء حياة أخرى. وينطبق الشيء نفسه على الإرهابيين. في دراسة حالة تم نشرها، ساعد الدور الاجتماعي الجديد لإحدى النساء، على الانفصال من إحدى مجموعات القوميين البييض الإرهابية.
الحلول السحرية؟
يقول العاملون في إعادة دمج الإرهابيين السابقين في المجتمع إنه لا يوجد حلٌ وحيد سحري للمشكلة، فلكل فرد دوافعه وظروفه الخاصة، وليس من المرجح أن ينفع نهجٌ واحد للجميع. نحتاج إلى إجراء مزيدٍ من البحث لنفهم بدقة ما ينفع أكثر مع كل حالةٍ مختلفة. كما ينبغي أن تجعل الحكومات برامج إعادة التأهيل الخاصة بها أكثر شفافية وأن تسمح بالتقييم الخارجي إذا أرادت أن تُحرز تقدماً. إذ ليس البرنامج سيئ التصميم مضيعاً للوقت فحسب، بل يمكن أن تكون له نتائج عكسية تزيد الأمور سوءاً.
خلاصة القول أن المتطرفين قد يتركون الجماعات الإرهابية، ولا ينظرون إلى الخلف مرة أخرى، لذا يجب أن توفر المجتمعات أساليب للخروج من الإرهاب. لا يعني ذلك عدم محاكمة من ارتكبوا أفعالاً سيئة؛ فالسجن قد يمنح وقتاً ومكاناً للتغيير، كما فعل لفراندا. ولا يغير ذلك أيضاً حقيقة أن الأمر في نهاية المطاف راجعٌ إلى المتطرفين أنفسهم كي يختاروا المثول أمام العدالة والعمل للاندماج في المجتمع مجدداً.
لكن دعم من يبذلون جهوداً صادقة من أجل الاندماج مرة أخرى، أمرٌ شديد الأهمية. وهناك شيء واحد مؤكد: ما لم يوفر المجتمع فرصاً للإرهابيين الشباب للتغيير، فلن يتغيروا أبداً.
الموضوع مترجم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي.