هذا التحقيق ينشر بالتعاون مع موقع OVD-info.com
حين كنت طفلة، كان علي أن أحتفظ لنفسي بسرّ كبير: لم أستطع أن أخبر أحداً أن والدي عربي ومسلم.
نشأتُ في بلدة صغيرة في وسط روسيا حيث معظم الناس من أصول روسية، ومسيحيون أرثوذكس. حين بلغت السابعة عشرة وانتقلت إلى موسكو للالتحاق بالجامعة، أجبرتني أمي على إخفاء هذا الجزء من هويتي، حتى عن أقرب أصدقائي. لا أستطيع أن ألومها فقد أرادت أن تحميني، وأنا أفهمها بشكل أفضل مع مرور الوقت.
على الرغم من الحديث الروسي الرسمي عن التعددية الثقافية والوئام بين الأديان ــ وهي سردية الحكومة ــ فإن الواقع على الأرض في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان مختلفاً تماماً. وحتى خلال الحقبة السوفياتية، وفي ظل “صداقة الشعوب” المعلنة، كانت الإسلاموفوبيا متفشّية إلى حد كبير.
نتساءل عما إذا كانت الأمور تحسنت خلال العشرين عاماً الماضية، لكن للأسف، الإجابو هو لا ، بل يمكن القول إن المشكلات تفاقمت، لكن لماذا؟
أحد أبرز الأسباب هو أن الدولة الروسية تغذي الإسلاموفوبيا وتشجع “الترويس” أو تزخيم الهوية الروسية على نحو عدواني، وما تتناوله هذه المقالة، هو كيف تضطهد روسيا المسلمين عادةً خلف الكواليس ومع القليل من اهتمام وسائل الإعلام.
الإسلام والمسلمون في روسيا
لا يقل الإسلام شهرة في روسيا عن المسيحية الأرثوذكسية؟ في الواقع، تعد روسيا موطناً لأكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا.
يقول طالب سعيد باييف، مستشار المفتي الرئيسي للإدارة الروحية لمسلمي روسيا: “يقال صراحة إن روسيا… ليست فقط دولة أرثوذكسية، ولكنها أيضاً دولة إسلامية. يعيش في البلاد اليوم أكثر من 20 مليون مسلم، بما في ذلك أفراد من أكثر من 30 دولة روسية أصلية”، ما يجعل الإسلام ثاني أكبر ديانة بعد الأرثوذكسية.
في عام 2019، توقع المفتي رافيل جينوتين أنه بحلول عام 2030، يمكن أن يصبح ثلث سكان روسيا مسلمين، وأظهر التعداد السكاني لعام 2020 انخفاضاً بنسبة 4.9 في المئة في عدد السكان من أصل روسي مقارنة بالسنوات العشر السابقة. وفي الوقت نفسه، ازداد عدد السكان في المناطق ذات الغالبية المسلمة مثل الشيشان، مع زيادة في تعداد سكان الشيشان بنسبة 17.1 في المئة خلال الفترة نفسها.
ينتشر المسلمون في جميع أنحاء روسيا، لكن يتركز معظمهم في مناطق عدة، كما في شمال القوقاز، بخاصة الشيشان وداغستان وإنغوشيا. ويقيم الكثير من المسلمين أيضاً في تتارستان وباشكورتوستان، الجمهوريتين في منطقة الفولغا. ينحدر المسلمون الروس من مجموعات عرقية مختلفة، بما في ذلك التتار، البشكير، الشيشان، الإنغوش، الآفار، وغيرهم الكثير.
يتبع معظم المسلمين الروس الإسلام السني، بخاصة المذهب الحنفي، لكن للصوفية أيضاً حضور قوي، بخاصة في شمال القوقاز. ويمثل المسلمين السنة مجلس مفتي روسيا، الذي يجمع أتباعه للحديث عن عقيدتهم ومناقشة قضايا المجتمع – مثل الحرية الدينية، أو كيف يتناسب الإسلام مع المجتمع الروسي الحديث.
كان الإسلام جزءاً من تاريخ روسيا لأكثر من ألف عام. ولكن خلال الحقبة السوفياتية، تعرضت الأديان، بما في ذلك الإسلام، للقمع والتهميش. إذ أغلقت الحكومة المساجد والمدارس الدينية، وحاولت بشكل عام قمع الممارسات الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك، حافظت مجتمعات مسلمة عدة على إيمانها سراً، متمسّكة بتقاليدها وهويتها الدينية.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، عاد الإسلام بقوة إلى روسيا. فتم بناء مساجد جديدة، وشهد التعليم الإسلامي انتعاشاً. ولم يكن أي من هذا ممكناً لولا الدستور الروسي الجديد، الذي يعترف رسمياً بحرية الضمير والدين، ويمهد الطريق للتنوع الديني والثقافي.
التشريع الروسي: التعددية الدينية والقومية
“نحن، الشعب المتعدد الجنسيات في الاتحاد الروسي”، إنها الفقرة الأولى من الدستور الروسي الذي أُقر عام 1993. تعريف منطقي لأن روسيا تُعتبر رسمياً واحدة من أكبر الدول متعددة الأعراق في العالم، فهي موطن لأكثر من 190 مجموعة عرقية.
استمد الدستور، الذي تم تبنيه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، روحيته من أفضل الممارسات في دساتير الدول الديمقراطية، واستند بشكل كبير إلى معايير القانون الدولي، فهو يعد بالمساواة في الحقوق بين المجموعات العرقية المختلفة ويضمن احترام حقوق الإنسان بغض النظر عن العرق أو الجنسية أو اللغة أو الأصل أو الانتماء الديني، ويحظر أي شكل من أشكال التمييز.
كما تسمح المادة 26 لكل شخص باختيار جنسيته والإعلان عنها، وهذا تحول كبير عن الحقبة السوفياتية عندما كان ذكر الجنسية في جوازات السفر إلزامياً.
وتضمن المادة 28 حرية الضمير والدين، وتسمح للجميع بممارسة أي دين أو عدم ممارسة أي دين على الإطلاق. ويدعم هذا البند التنوع الغني للأديان في روسيا، بما في ذلك المسيحية الأرثوذكسية والإسلام والبوذية واليهودية وغيرها. من الناحية القانونية، تدعم روسيا وعدها بالتعددية الثقافية بقوانين مثل القانون الاتحادي بشأن حقوق الشعوب الأصلية. تحمي هذه القوانين مجموعات السكان الأصليين والأقليات الأخرى، وتحافظ على تراثهم الثقافي وتمنحهم بعض الاستقلالية.
في حين أن كل شيء يبدو جيداً على الورق، إلا أن هناك فجوة كبيرة بين القانون والممارسة. بالنسبة الى الأقليات الروسية، لا يقتصر الأمر على التراخي في تطبيق القانون، بل إن التمييز هو سياسة ثابتة للنظام الحاكم.
إقرأوا أيضاً:
قمع الثقافات الوطنية و”الترويس” لمكافحة الانفصالية
يلتزم الدستور الروسي بحماية اللغات المحلية والتراث الثقافي، لكن الأقليات العرقية غالباً ما تجد نفسها في وضع مختلف، عادة ما تعطي المدارس الحكومية الأولوية للغة الروسية على لغات الأقليات، الأمر الذي يؤدي ببطء ولكن بثبات إلى تآكل التنوع اللغوي في البلاد.
في الكثير من الأماكن، تدريس اللغات الأصلية في حده الأدنى أو حتى معدوم، على الرغم من أن القانون ينص على وجوب حمايتها.
تنفذ الحكومة الروسية سراً سياسة “الترويس” من خلال الترويج لهوية وطنية روسية واحدة على حساب ثقافات ولغات الأقليات. وتفرض الدولة عمداً اللغة الروسية والثقافة السائدة لتطغى على تقاليد الأقليات وعاداتها. وهذا لا يقوض التنوع الثقافي الروسي النابض بالحياة فحسب، بل يولد أيضاً الاستياء والعزلة بين الأقليات العرقية، ما يخلق أرضاً خصبة للحركات الانفصالية.
مع ذلك، أوضحت الحكومة المركزية في الكرملين لجميع الأقليات العرقية: اسحقوا أي أفكار انفصالية وإلا ستتحول مدنكم إلى أنقاض، تماماً كما حصل لغروزني عاصمة جمهورية الشيشان التي كادت أن تُمحى من الخريطة.
في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت روسيا بعضاً من أعنف الصراعات على أراضيها. ومع ذلك، فإن الكرملين لا يشجعنا، نحن الروس، على تسمية هذه الأحداث بالحروب – ويشار إليها عادةً باسم الحملات الشيشانية.
بدأت حرب الشيشان الأولى (1994-1996) كنزاع انفصالي بعد إعلان الشيشان استقلالها عن روسيا، وانتهت بوقف متوتر لإطلاق النار، إذ لم تسحب الحكومة المركزية قواتها بالكامل.
وفي المقابل، اندلعت حرب الشيشان الثانية (1999-2000) تحت شعار “عملية مكافحة الإرهاب”، وهناك أدلة موثقة تشير إلى أن هذه “العملية” لم تستهدف الإرهابيين فحسب، كما حددهم الكرملين، بل كانت في جوهرها عملية عسكرية واسعة النطاق، شملت قصفاً عشوائياً كثيفاً للمدنيين وهجمات برية.
هدد بوتين بتصفية الشيشان في المراحيض، مُستهدفاً ما يسمى التنظيمات الإرهابية السرية، وقد وثقت منظمات حقوق الإنسان انتهاكات واسعة النطاق، بما في ذلك التعذيب والاختفاء والقتل خارج نطاق القضاء – من كلَي الجانبين.
وفي عهد بوتين، سيطر الكرملين على الجمهورية، ولقمع النزعة الانفصالية، و”اجتثاث الإسلام المتطرف والحفاظ على الاستقرار في المنطقة”، تم اختيار رمضان قديروف، سيئ السمعة، كزعيم لجمهورية الشيشان.
يعرف الكثير من المسلمين حول العالم قديروف كـ”بطل الإسلام وحقوق المسلمين” في روسيا. وفي واقع الأمر، يشكل بوتين التهديد الأعظم ـ أو حتى الكارثة ـ بالنسبة الى الشيشان، إن لم يكن لكل المسلمين الروس، منذ حروب الشيشان.
يستهدف قديروف بقوة “الوهابيين”، وهو المصطلح الذي يستخدمه بشكل فضفاض للإشارة إلى أي مسلم يعارض نظامه. فهو يعذب ويقتل المسلمين الروس، والشيشان على وجه الخصوص، ويصورهم على أنهم عنيفون ووحشيون ولا يرحمون.
الدور الذي يلعبه قديروف وبوتين لا يهدف إلى كسب احترام الشيشان، بل الى إرسال رسالة واضحة إلى العالم الغربي مفادها أن قبول الشيشان كلاجئين قد يكون أمراً خطيراً، يجب أن يقيم الشيشان في الشيشان فقط، حتى أن زعيم حرب العصابات الشيشانية قُتل في برلين على يد عميل للكرملين.
بعد حروب الشيشان، تم التعامل مع المسلمين في روسيا بحذر. إذ كان الشيشان هم كبش الفداء الرئيسي للحكومة الروسية قبل عام 2014، وبعد ضم شبه جزيرة القرم، وجد الكرملين ضحية مريحة جديدة ــ تتار القرم، وهي مجموعة عرقية تركية، غالبيتها من المسلمين.
تتار القرم: الاضطهاد لأسباب دينية وسياسية
بعد مرور 10 سنوات على ضم شبه جزيرة القرم، لا يزال هناك حوالى 180 سجيناً سياسياً في شبه الجزيرة، أكثر من 110 منهم من تتار القرم.
علينا الانتباه الى الجمل الشنيعة التي تضمنتها الأحكام القضائية بحق هؤلاء: السجن 18 سنة لقراءة النصوص الدينية أو الحديث عن الإسلام – سواء في المطبخ أو في المسجد، و8 سنوات للاحتجاج على ضم روسيا الى شبه جزيرة القرم.
وتستهدف معظم المحاكمات في شبه الجزيرة تتار القرم المنتمين إلى “حزب التحرير” (منظمة سياسية إسلامية)، الذي تصنفه روسيا على أنه جماعة إرهابية، ومع ذلك، “حزب التحرير” مشرع قانونياً في أوكرانيا. هذا يعني أنه مع وصول روسيا إلى شبه جزيرة القرم، أصبح أعضاء “حزب التحرير” بين عشية وضحاها إرهابيين.
لا يقتصر الأمر على مؤيدي المنظمة فحسب، فبعد الضم، شهدت شبه الجزيرة عمليات ملاحقة منتظمة للصحافيين المستقلين والناشطين المدنيين وناشطي الحركة الوطنية لتتار القرم، وأعضاء مجلس شعب تتار القرم، بالإضافة إلى أي مسلم مشتبه به في القرم بأن له اتصالات مع “حزب التحرير”.
تتار القرم في غالبيتهم، أو “الإرهابيون الورقيون”، كما أسماهم المحامي القرمي إميل كوربيدينوف، لم يحملوا أسلحة في أيديهم أبداً. في الواقع، في شبه جزيرة القرم، بإمكان أي شخص يمارس الإسلام ويتمتع بموقف مدني نشط أن يندرج تحت “دائرة مكافحة الإرهاب”.
ولا يقتصر الأمر على أحكام السجن فحسب، فقد اختُطف عشرات الناشطين من تتار القرم، ولم يتم العثور على أي منهم حتى يومنا هذا. وتؤكد الحكومة المحلية بوقاحة أنه “لا توجد حالات اختفاء جماعي لتتار القرم في شبه الجزيرة”.
أثر الاضطهاد الجماعي أيضاً على نساء تتار القرم، على سبيل المثال، في آب/ أغسطس 2018. واتُهمت الشاعرة آلي كينجالييفا بـ “إعادة تأهيل النازية” بسبب قصيدة أدانت فيها الحرب في دونباس، كما تُتهم كثيرات من نساء تتار القرم بـ “التحريض على الكراهية أو العداوة” لمجرد الحديث عما يحصل.
وأدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الوضع. ويرى تتار القرم أن التجنيد في الجيش الروسي يعد “إبادة جماعية”. وفي حين أن السلطات الروسية لا تكشف عن بيانات دقيقة حول عدد المجندين الذين تم حشدهم في شبه جزيرة القرم، فإن ناشطي حقوق الإنسان المحليين يزعمون أن تتار القرم تعرضوا لإخطارات تجنيد أكثر بشكل غير متناسب من السكان السلافيين في شبه جزيرة القرم.
وفقاً لحسابات ناشطي حقوق الإنسان من CrimeaSOS، تم إصدار نحو 90 في المئة من مسودات الإشعارات في شبه جزيرة القرم إلى تتار القرم. مع إخلاء قرى القرم، يُدفع تتار القرم الى القتال ضد أوكرانيا – البلد الذي اعتادوا على أن يطلقوا عليه وطنهم قبل 8 سنوات فقط. في الواقع، لا يزال الكثير منهم يفعلون ذلك.
وبما أن الكثير من تتار القرم عارضوا بالفعل ضم شبه جزيرة القرم، فقد حاول الكرملين في البداية التفاوض مع مجلس القرم بل وحتى استمالته، لكن لم ينجح. ثم تم إعلان المجلس “منظمة متطرفة” في روسيا.
ووصفت نتاليا بوكلونسكايا – المعروفة بعدائها لتتار القرم بصفتها المدعي العام السابق – قادة المجلس بأنهم “دمى في أيدي محركي الدمى الغربيين الكبار” الذين يستخدمون شعب تتار القرم “كأوراق مساومة”. وبحسب بوكلونسكايا، فإن المجلس “كان موجهاً حصرياً نحو الأنشطة المناهضة لروسيا”.
وفي نهاية المطاف، بعد حظر المجلس، استخدم الكرملين الترهيب والابتزاز للتفاوض مع الزعماء الروحيين في شبه جزيرة القرم، الذين يعملون الآن في الأساس على إضفاء الشرعية على الوجود الروسي في شبه الجزيرة.
تحاول الحكومة الروسية خلق واجهة للحياة الطبيعية والازدهار بين تتار القرم من خلال تدفق الكثير من الأموال إلى الجمهورية، ولكن هل بإمكان بناء مساجد جديدة أن يعوّض الاضطهاد الجماعي؟
ما مستقبل المسلمين في روسيا؟
من عجيب المفارقات أن هذه الواجهة الروسية للحياة الطبيعية تمتد حتى إلى الدول ذات الغالبية المسلمة والدول العربية. وينجح بوتين في تصوير روسيا باعتبارها قوة مناهضة للاستعمار، ومقارنتها بالغرب، ولكنه رغم ذلك يقمع أقلياته العرقية والدينية.
ولا يدافع بوتين ولا قديروف عن حقوق المسلمين الروس، بل على العكس تماماً. إنهما يستخدمان الإسلاموفوبيا كسلاح، ويستغلان الإسلام وأتباعه لتحقيق مكاسب شخصية، بينما يقومان بلا هوادة بقمع المجتمعات الإسلامية وسحق حقوقهم.
أنا لست من تتار القرم، وهنا في عام 2024، أستطيع أن أقول بحرية إلى حد ما إن والدي مسلم، لكن المخاوف تلوح في الأفق: فأنا أعيش في قلق دائم من أنهم قد يلاحقوننا في يوم من الأيام، لمجرد ممارسة عقيدتنا، أو لقراءة نصوصنا الدينية.
فهل يشك والدي العربي الذي هاجر إلى الاتحاد السوفياتي في الثمانينات في شيء من هذا؟ أنا أشك في ذلك. ومثل كثيرين حول العالم، يستمع إلى الدعاية الروسية، التي تتباهى بأن روسيا متسامحة مع الأديان، وأنا أرفض أن أترك أي أحد، حتى المسلمين، بأن يخدعوا بهذه “المسرحيّة”.