في الخامس والعشرين من أيار/ مايو الماضي، أعلن الناطق باسم “كتائب القسام” التابعة لحركة “حماس” أبو عبيدة، في خطاب مقتضب مسجّل، أن الحركة تمكّنت من قتل مجموعة من الجنود الإسرائيليين وأسرهم، بعد ما وصفه بـ”عملية مركبة” في جباليا.
سرعان ما بدأت “قناة الجزيرة” الفضائية تغطية مفتوحة للخطاب، ولِمَا حاولت الترويج له باعتباره تداعيات هائلة منتظرة للعملية، وتبنّت ما ورد في خطاب الناطق العسكري من “معلومات”، علماً أن “حماس” اكتفت حينها ببث فيديو من عدة ثوان، لسحب ما بدا أنه جثة أو جريح ما، بمعالم مطموسة وثيابٍ ممزقة وبعض الصور الثابتة لأسلحة وملابس عسكرية، من دون ظهور ما يدل على هوية الشخص المسحول ذاك (دع عنك أن الحديث كان عن عدة أسرى وليس عن أسير واحد) ولا تاريخ للفيديو أو ما يوضح مكانه بدقة.
كما دأبت دائماً، بدأت “الجزيرة” ووسائل إعلام أخرى، في ذلك المساء، باستضافة محللين عسكريين وسياسيين تتشابه آراؤهم وتحليلاتهم حد التطابق، بل إن التغطية تحولت إلى ساعات من الترويج الفج ل”حماس” والفصائل الفلسطينية المقاتلة الأخرى، لدرجة أن الأمين العام “للمبادرة الوطنية الفلسطينية” مصطفى البرغوثي أعلن في مداخلة حينها أن “هذه ليلة انهيار الأساطير الإسرائيلية، أسطورة الجيش المتفوق الذي لا يُقهر، أسطورة المناعة الإسرائيلية سواء من حيث المناعة العسكرية أو الاستخباراتية”.
وليس من باب السخرية والتفكّه؛ فالمأساة الغزاوية المفتوحة لا تتحمل أيّاً منهما، القول هنا إن عبارات البرغوثي تتماثل حرفياً مع ما اعتدنا على قراءته في كتب التربية القومية والتاريخ، في مناهج النظام السوري، لدى حديثها عن “منجزات حرب تشرين التحريرية” عام ١٩٧٣.
على العكس تماماً، تثير عبارات البرغوثي الأسى، ذلك أن هذا الكاتب والسياسي الفلسطيني بالتحديد، غير المحسوب على أي من الفصائل المقاتلة، كان يُنتظر منه أن يكون أكثر عقلانية واتزاناً وصدقاً مع نفسه ومع المشاهدين، لا أن ينجرّ إلى تكرار البروباغندا المألوفة، تلك التي تعود في مفرداتها إلى أكثر من خمسين عاماً مضت.
مما يثير الأسى أيضاً، كان أن تلك التغطية الاحتفائية الانتصارية للعملية الغامضة، أتت بعد مرور أكثر من سبعة أشهر ونصف، على اندلاع حرب غزة الأخيرة إثر هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بكل ما شهدته تلك الفترة الممتدة من مآس لا تحصى، ليس اقتراب عدّاد الضحايا الفلسطينيين المؤكدين حينها من ٣٦ ألف شخص، إلا مؤشراً واحداً بالغ الدموية عليها (لاحقاً، نفى الجيش الإسرائيلي وقوع أي من جنوده أسيراً في ذلك اليوم، ولم تعد حماس ولا الجزيرة ومثيلاتها، إلى الكلام مجدداً عن هؤلاء الأسرى المفترضين).
والحال أن تلك التغطية في ذلك المساء، كانت نموذجية لاستقراء أوضاع بعض أبرز وسائل الإعلام العربية، وأسلوبها في مقاربة الشأن الفلسطيني عموماً، والحرب المستمرة على غزة خصوصاً.
إن كانت وسائل إعلام غربية عدة تعرضت، وما زالت تتعرض، لانتقادات محقة وضرورية وملحّة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، سواء في ما يتعلق بخطها التحريري العام بشأن المسألة الفلسطينية، أو بتغطيتها أحداثاً وأخباراً بعينها، أو قيمها الصحافية عموماً، فإن وسائل إعلام عربية رئيسية، وخاصة الجماهيرية منها، بدت بعيدة عن المساءلة المهنية والمراجعة، وأيضاً عن الانتقادات واسعة النطاق المشابهة لما تعرضت له وسائل إعلام غربية، رغم أن ذلك لا يقل ضرورة وإلحاحاً.
ففي تغطية الخطاب البروباغاندي والعملية العسكرية، لم تقم “الجزيرة” وشقيقاتها، بأدنى واجباتها المهنية في التدقيق بمحتوى المعلومات المزعومة في التسجيلات، ولا بوضع نفسها على مسافة من تلك المعلومات، والانتظار حتى التثبت من هويات الأسرى أو القتلى المفترضين، أو الاعتراف الرسمي بهم، أو حديث عائلاتهم عن فقدان التواصل معهم.
وطبعاً، لم تُضمِّن بثّها أي تعدد في الآراء أو مصادر للأخبار، وليس المقصود هنا تضمين وجهة نظر الجيش الإسرائيلي، إنما أية أصوات من غزة وخارجها، فلسطينية وغير فلسطينية، عربية أو غربية، قد تفضل مقاربة ذلك الفيديو المسجل وتلك العملية من وجهة نظر أخرى.
إقرأوا أيضاً:
وإن كانت الحرب المستمرة في غزة، تقدم اليوم أبرز الأمثلة على الخلل في أداء بعض أهم المؤسسات الإعلامية الناطقة بالعربية، فإن تلك الأشكال المتعددة من الخلل تعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وتبدو جزءاً أصيلاً من سياسة تلك المؤسسات والعقليات المشرفة عليها.
فمن الزوايا التحريرية والسياسية، قبل ٧ أكتوبر/ تشرين الأول وبعده، لطالما اتكأت بعض وسائل الإعلام السائدة على الخطابة والإنشاء، بدلاً من المعلومات والتحليل، وإن حضر هذا الأخير، فإنه يكون ممتلئاً بالمغالطات والتجاهل المتعمد للكثير من المعطيات والوقائع، عدا غياب تعدد الآراء والأصوات في قضايا بعينها، بينما يحضر التهاون في مسائل الدقة والتثبت من صحة المعلومات أحياناً، في مقابل انعدام مساءلة بعض أصحاب القرار بحسب الانحيازات الأيديولوجية والسياسية.
وفي الحرب الأخيرة، كما قبلها، واظب العديد من قنواتنا الفضائية وصحفنا على بيع الوهم ودغدغة العواطف والشعبوية، فإسرائيل “قاب قوسين أو أدنى من الفناء”، وهي “أوهن من بيت العنكبوت”، هذا بينما قطاع غزة مغطى بأكثر من ٤٠ مليون طن من الركام، ويبدو لافتاً كيف يعثر بعض الإعلام الناطق بالعربية، على ضالته أحياناً، في كاتب أو مؤرخ غربي أو إسرائيلي، يتنبأ بزوال إسرائيل ليصبح ضيفها الدائم (من باب شهد شاهد من أهلها) من دون النظر في معقولية تنبؤاته، أو على الأقل، الاستماع إلى وجهات نظر أخرى، قد لا تتفق معه تماماً، بحيث تصبح كل وجهات النظر والسيناريوهات المختلفة متاحة أمام المتابعين.
إلى ذلك، لم تتوقف العديد من وسائل إعلامنا، عن امتهان كرامة الضحايا وانتهاك خصوصياتهم، وتطبيع المتابعين مع مشاهد العنف والدماء، عدا التواطؤ المضمر، أو حتى الترويج الخشن، لجهات مارست وتمارس القمع والانتهاكات بحق شعوبها وشعوب أخرى، بل إن محطات تلفزة وصحفاً تقدم نفسها على أنها ناطقة باسم الثورات العربية، لم تجد مانعاً في وصف قتلى “حزب الله” في لبنان مؤخراً، بأنهم “شهداء”، متجاهلة أن هؤلاء أنفسهم كانوا، وما زالوا، جزءاً أساسياً من حرب النظام السوري وحلفائه على السوريين وثورتهم، بما يشمل فلسطينيي سوريا الذين عانوا بدورهم انتهاكات شتّى (وربما تكون الإشارة هنا مناسبة إلى أنه من غير المهني وغير الأخلاقي استخدام بعض وسائل الإعلام كلمة شهداء لوصف الضحايا الفلسطينيين، في مقابل وصف الضحايا السودانيين والعراقيين واليمنيين والسوريين وفي أي مكان بالمنطقة والعالم على أنهم قتلى).
كما سكتت، وتسكت، جهات إعلامية كثيرة في عالمنا، عمّا قد يرقى إلى جرائم حرب وجرائم إبادة، في حال كانت الجهات المرتكبة لهذه الجرائم هي من “جانبنا”، سواء تعلق الأمر بفصائل فلسطينية مقاتلة أو بجهات أخرى، في عراق صدام حسين ولاحقاً الفصائل العراقية المسلحة المقاوِمَة للغزو الأميركي، أو سوريا الأسدية وفصائل المعارضة المسلحة كذلك، أو في دارفور وغيرها.
وفوق هذا وذاك، تبدو بعض وسائل الإعلام لدينا مهووسة بالغرب حدّ المرض، وتقوم بمقارباتها على أساليب مكررة، فمثلاً، يُنسب أي نجاح لشخصية من أصول مسلمة أو عربية في العالم الغربي على أنه نجاح مزدوج، عام منسوب إلى الثقافة الإسلامية أو العربية من جهة، وفردي منسوب إلى تلك الشخصية من جهة أخرى، من دون أي اعتبار للمنظومة السياسية والقانونية والثقافية “الغربية”، التي أتاحت لهذا الفرد النجاح، بغض النظر عن أصوله، أو حتى بسببها في بعض الحالات.
في المقابل، يتم تقديم أي حادث أو تمييز عنصري يتعرض له عرب ومسلمون في أي بلد غربي، على أنه حالة شاملة وعامة وجوهرانية ثابتة، تشمل جميع بلدان الغرب بلا استثناء، وفي كل الأوقات والمناطق، وبغض النظر عن أية تغيرات سياسية وثقافية واقتصادية.
بعيد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وُضع الإعلام الغربي كله في سلة واحدة، ولم يجر التمييز بين إعلام أميركي أو فرنسي أو إيطالي، بين يساري ويميني، وبين يميني ويمني متطرف، بين محطات تلفزة وصحف، بين إعلام مملوك لشركات كبرى أو تابع لحكومات، بين جرائد “تابلويد” و”mainstream”، بين “الغارديان” و”فوكس نيوز”، بين مواقع إلكترونية ومراكز بحثية، بين إعلام متخصص وآخر شامل، بين بيرس مورغان وكريستيان أمانبور، ومع ذلك، كانت وما زالت العديد من الانتقادات الموجهة لوسائل الإعلام تلك، ضرورية ومحقة ومطلوبة، وأسهمت الانتقادات؛ في تقديري، بضبط خطاب بعض وسائل الإعلام، ومنع انجرافها باتجاه تبني وجهة نظر واحدة ورواية وحيدة، ودفعتها في حالات محددة إلى تقديم اعتذارات واضحة وصريحة عن بعض تقاريرها ومحتواها.
لكن في المقابل، تندر من جانبنا الأصوات المنتقدة لأداء وسائل إعلامنا، وتكاد تغيب المراجعات بشأن خطابها ومهنيتها وتوازنها ومعاييرها، فلم نسمع عن وسيلة إعلام عربية قدمت مؤخراً اعتذاراً للمشاهدين عن أخطاء أوردتها أو عن انحيازاتها (بعيد ٧ أكتوبر/ تشرين الأول، عممت وسيلة إعلام عربية متخصصة بالتحقق من صحة الأخبار على موظفيها، عدم إيراد أي خبر ينفي رواية الجانب الفلسطيني عن حدث ما، رغم أن ذلك يتعارض بشكل جذري مع مفاهيم وغايات ومبادئ منصات التثبت من صحة الأخبار والمعلومات).
لم نسمع مجدداً عن الأسرى الإسرائيليين المزعومين في تسجيل أبو عبيدة أواخر أيار/ مايو الماضي، لكننا نسمع يومياً خبراً جديداً عن المجزرة المفتوحة في مقارباتنا الإعلامية نفسها.
إقرأوا أيضاً: