fbpx

الإمامة والحوثيّة… جذور التحريم الديني في اليمن 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في ظل حملة التحريم والقمع ضد الغناء، بما فيه منع بث الأغاني في الإذاعة والتلفزيون، باستثناء الزوامل الحوثية التي تقوم بالتعبئة الأيديولوجية، وتدعو إلى الحشد والتجنيد والقتال في صفوف الجبهات، ترجح الأوساط عودة السلطات الحوثية إلى تنفيذ قرار سابق كان قد صدر في  حزيران/ يونيو 2022، يقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس، التي تقام في صنعاء ومناطق سيطرتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 تأسّست مملكة الإمام يحيى حميد الدين  في عشرينات القرن الماضي، أعقاب انسحاب العثمانيين من شمال اليمن. وبعد وقت قصير من استقراره في العاصمة صنعاء، سيطرت ذهنية التحريم على الحياة العامة، إذ رسّخ الإمام في خطابه صورة إله كثير الانفعال والغضب والحنق من أفعال البشر، ويمكن أن نرصد شكلين من المحرمات في المخيال الديني، كانا يستوجبان التكفير والتقرب إلى الله فوراً، هما الموسيقى والخمر. 

 أثناء حكم الإمامة، حدثت مجاعة في شمال اليمن، فذهب الفقهاء إلى الإمام وأخبروه أن هذه المجاعة سببها انتشار الخمر والمعازف، من ثم أمر الأمام بحبس تجار الخمور وكسر آلات العزف أمام العامة، وعلّق آلة العود في مكان عام من صنعاء تحذيراً من العزف عليها، ورادعاً لكل من تسوّل له نفسه استخدامها لإغراء الجماهير المؤمنة، بحسب تعبير المؤرخ طه فارع. 

جسّد تحطيم آلات الموسيقى وقوارير الخمر إعادة نظر، ليس من الناحية الدينية فحسب، بل ومن الناحية الوجودية أيضاً؛ فقد نُسبت المجاعات إلى غضب الله على كفر البشر، الذين وفقاً لهذا المنطق، أصبحوا أول المسؤولين عنه، ولهذا فإن الموسيقيين ومستهلكي المشروبات الروحية،  كانوا الضحية المعلنة التي ينبغي تقديمها للتكفير عن الخطيئة. 

 بلغ التعصب الديني ضد الموسيقى من الشدة بحيث لم يكن أي عازف من العازفين يجرؤ على ممارسة فنه بشكل علني، باستثناء العازفين المتجولين المعروفين بالمداحين، الذين جمعت أشعارهم بين الغزل الرمزي بالذات الإلهية والمديح النبوي، بحسب الباحث محمد عبده غانم في كتابه “شعر الغناء الصنعاني”. ومع ذلك، لم تسلم من قمع الإمام حتى الأناشيد والترانيم التي تُردَّد في حلقات الذكر الصوفية مصحوبة بالعزف والرقص، إذ يشير مؤرخ اليمن وشاعرها عبدالله البردوني، إلى أن الإمام أحمد أمر بهدم جزء يسير من ضريح الولي الشهير أحمد بن علوان.

طوال سنوات الأئمة على خلاف مراحلهم، أحكمت الإمامة قبضتها على المجتمع، ومنعت جميع الفنون، إذ كانت الرقابة الدينية تداهم جلسات الغناء في المنازل، وتحطم الأدوات الموسيقية، وتقود الجميع إلى السجن بتهمة الأعمال المنافية للأخلاق والدين، وكان عددٌ من المواطنين يفقدون لذلك اعتبارهم أمام بقية المواطنين بحسب طه فارع في كتاب “الأغنية اليمنية المعاصرة”.

 الموسيقى والأغاني في العهد الإمامي لم تكن مُحرَّمة فحسب، بل كانت موضع احتقار وازدراء شديدين من السلطة ذاتها، وبالتالي من الشعب المغلوب على أمره، وفقاً للقاسمي في كتاب “الأواصر الغنائية بين اليمن والخليج”، وهو الأمر الذي اضطرّ عشاق الفن إلى تطوير أساليب لإخفاء الأسطوانات والغراما فونات المعروفة بصناديق الطرب والآلات الموسيقية، ومن ثم إغلاق النوافذ وسدها بالوسائد عند بدء جلسات الغناء.

 أما بالنسبة إلى النساء اليمنيات، فقد كن غير مرئيات في المجتمع، إذ واجهن قمعاً مضاعفاً بين التحريم الديني والاجتماعي، وبالتالي كانت الفنانات يؤدين الأغاني الشفوية في مساحات محدودة على الهامش، ومن هنا هربت ثلاث فنانات في أربعينات القرن الماضي من صنعاء إلى عدن وسط أكياس البضائع، وسجّلن مجموعة من الأغاني على الأسطوانات، وفي إذاعة عدن وبأسماء مستعارة، هي: (المتحجبة، بنت البلد، فاطمة الصنعانية). وتُعتبَر هذه الأغاني أولَ تسجيلات لأصوات نسائية في اليمن، كما يفيد الباحث رفيق العكوري.

 يندر أن نجد كتابات متشدّدة ضد النساء آنذاك، أي في العهد المتوكلي، على غرار كتيّب “الحسبة الزيدية” الذي يحدّد عقوبات عدة لتأديب الموسيقيين، يقضي أهمها بالسجن أو العقاب الجسدي، كما يتتبّع الباحث الفرنسي في الموسيقى جان لامبير. ولكن غياب هذه الكتابات ليس بسبب الانفتاح على المرأة من دون الرجل، أو أن الانحراف الديني بنظر السلطة كان حصراً على الرجال، بل على العكس تماماً، فهو يعني أن المرأة لم تكن فاعلة وإن بشكل رمزي في شمال اليمن، حيث حُرمت من النشاط الفني، وأُقصيت من الحياة العامة، وبالتالي واجهت مصيرها المنزلي، إذ ظلت حبيسة الجدران. وعليه لم يتكلف أحد من رجال الدين والفقهاء عناء التنديد بها أو الشعور بالتهديد منها، وهو ما دفع كثيرات منهن إلى الهروب رفضاً للعزل الاجتماعي والديني والسياسي. 

الخوف من النساء!

بعد قيام الجمهورية في شمال اليمن عام 1962، انخرطت المرأة في الحياة الاجتماعية شيئاً فشيئاً، وساهمت في الحراك الثقافي عبر الإذاعات والمسرحيات والغناء، ومن ثم حضرت ونشطت في الحياة السياسية. وفي الوقت ذاته، تطورت الفوبيا من النساء تدريجياً في كتابات الإماميين الجدد، نظراً إلى الحقوق التي اكتسبنها بعد تحقيق ثورة 26 أيلول/ سبتمبر.

ومع تولّي الوزير عبد الملك الطيب وزارة التربية والتعليم، وهو من مؤسسي التيار الإسلامي، وكانت تربطه علاقة متينة بالسعودية آنذاك، بدأت الشبهات تنتشر حول النساء في المدارس والمسارح والإذاعات، ومن ثم حدثت تغييرات متوالية في المنهج الدراسي الذي كان ولم يزل مصرياً.

 وإذا كانت النساء واجهن في المملكة المتوكلية قسوة الحياة والعزل الاجتماعي، فإنهن بعد انقلاب 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ومن ثم تولي الطيب مطلع السبعينات، أصبحن يواجهن صعود المد الأصولي، إذ مُنع الاختلاط في المدارس، وجُرِّم التمثيل، ووُضع منهج جديد يحرم النشاط الفني والأدبي والثقافي، ومُنعت اللقاءات بين الشابات والشبان في المدارس أو الجامعات. كما كُفّر الكثير من الأدباء والكتاب والمثقفين، ما أدى إلى الحظر والقمع، وكانت السلطات هي من يقوم بذلك بواسطة أجهزة الأمن والدعاة الإسلاميين وهيئة الإخوان والتيار الوهابي، على التعليم والتوجيه والإرشاد في المساجد، ومؤسسات الجيش والأمن. وهنالك الكثير من الوقائع الفردية المؤسفة، كما أسرّ لي شخصياً الأستاذ الباحث ونقيب الصحافيين اليمنيين السابق عبد الباري طاهر.

مسرحيّة “حريق في صنعاء”: نموذج لخطر التشدّد

من هنا، عادت النظرة الدينية المتطرفة مجدداً إلى واجهة المجتمع، ولكن بعناصر جديدة تتضمن النساء والسينما، إلى جانب الخمر والموسيقى، كما في مسرحية “حريق في صنعاء”، وهي إحدى أشهر المسرحيات آنذاك للشاعر والمسرحي محمد الشرفي. 

وتدور المسرحية حول مجموعة من الناس كانوا يشاهدون فيلماً رومانسياً في إحدى صالات السينما، بينهم الشاب أحمد والشابة نجوى، ويربط المؤلف بين قصة الحب في الشاشة وفي مقاعد الجمهور بين أحمد ونجوى، ثم ينتقل الحديث إلى قضايا أوسع بين العاشقين، تتضمن التقدم الحضاري، والقضايا الاجتماعية، والموسيقى، ومحاكمة المجتمع، ويرفض الزوجان هذا المجتمع، ويفضلان أن يغرقا في الفيلم، ولكن تجربة العاشقين تنتهي باقتحام أحد رجال الدين القاعة، حيث يتّجه نحوهما، ويتبعه مرافقوه ومجموعة من الناس، ويصرخ بأن الأفلام كفر ورذيلة فيها الرقص والغناء، ويتهم النساء مردداً: “تباً تباً… ضاع الإسلام وضاع الدين/ الشعب بلا أمطار جفت حتى الآبار/ الجوع تفشى بين الناس”. 

يطالب  رجل الدين بحرق دار السينما، لإرضاء الله ورحمته وغفرانه، إذ يؤكد أنه “إذا أُحرقت السينما، سيُسقط الله الأمطار وتحيا الأرض بعد موتها، وينمو الزرع، ويحصد المؤمنون ويأكلون ويعيشون على إيمان”، وهكذا استمرّت هذه النظرة الدينية التي تم توارثها، من الناحية النفسية، من جيل إلى آخر، كأمانة غير واعية تواصل التأثير على الناس. 

وشهد عقد الثمانينات انفتاحاً على المستوى الاجتماعي، إذ توسعت صالات السينما بظهور سينما حدة وسينما خالدة، وشرعت كلية الآداب في صنعاء أبوابها لعرض بعض الأفلام السينمائية في قاعاتها الرحبة، وكانت النساء يذهبن إلى الجامعات والسينمات بلا حجاب ولا رقيب، لكن ما إن انتصف عقد التسعينات حتى اختفى هذا الانفتاح تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية ودينية، بعد انقلاب علي صالح جنباً إلى جنب حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين)، على شريكه علي سالم البيض والحزب الاشتراكي في جنوب اليمن في صيف 1994.

الفقر لا بسبب النهب بل الحريات!

في أعقاب هذا الاجتياح، سيطر رجال الدين على السلطة والتعليم والفضاء العام، وسرعان ما بدأت بعض الكتابات السلفية تربط ملامح الفقر والطبقية، التي نشأت من النهب وتقويض الديمقراطية، بالانفتاح الاجتماعي، وذلك بالتزامن مع تغيير المنهج التعليمي الجديد، إذ صارت النساء عاراً وعورة ومحض شر، وهو ما دفع الكثير من الممثلات والفنانات إلى التراجع والاختفاء من المشهد الفني، كما في حالة الفنانة مايسة الكتف، التي اعتزلت الغناء نهائياً، أو التزام الحجاب على رؤوسهن، مثل أعضاء فرقة “إنشاد عدن”. 

وهكذا يجد سلوك جماعة الحوثيين وبطشهم، الذي يربط الكوراث السياسية والبيئية بالسخط الإلهي، جذوره في تراث ديني متواصل، ابتداءً بتراث الهادي الرسي مؤسس الدولة الزيدية، وانتهاء بالإمام يحيى. ولكن عوضاً عن السخط الإلهي على المستوى الاجتماعي مثل القحط والمجاعة، أصبحت آثار هذا الغضب الإلهي في عهد الحوثي على المستوى السياسي، مثل تأخير النصر كما يردد أفراد هذه الجماعة .

فبعدما نظم الحوثيون حملة على ملابس النساء بدعوى أنها تؤخّر النصر، ومن ثم فصل التعليم المختلط، وصولاً إلى منع السفر بلا محرم، شنوا  حملات اعتقال عبر عناصر نسائية من “الزينبيات”، استهدفت إحدى قاعات الأعراس في محافظة عمران شمال صنعاء، واقتادوا ثلاث فنانات شعبيات إلى السجن المركزي(سحب) عقب مشاركتهن غنائياً في أحد الأعراس النسائية في المحافظة. وبعد يومين من اعتقالهن، أطلقوا سراحهن، لكنهم استكتبوهن التزامات بعدم الغناء مرة أخرى.

وبجوار استهداف الفنانات، اعتقلت جماعة الحوثي عشرات الفنانين والمغنين الشعبيين ومهندسي الصوت ومالكي صالات الأفراح في محافظة عمران، بعد تعميمات بحظر الغناء في الأعراس بحجة حرمته، واستؤنفت الحملة بأوامر من القيادي الحوثي عبد العزيز أبوخرفشة، المعين أخيراً مدير الأمن في المحافظة.

وبحسب المصادر، خُطف الفنانون من منازلهم، أو على نقاط التفتيش، وآخرون بعد عودتهم من حفلات الزفاف، بدعوى رفض المستهدفين تنفيذ قرار سابق يمنع الأغاني في المناسبات والأعراس داخل مدينة عمران، ومن بينهم المغني بسام عداعد وهاشم الشرفي ومحمد أحمد الدحيمي والموزع الموسيقي مبروك الدحيمي، وذلك بتهمة مخالفة القانون، والمشاركة في “الحرب الناعمة” كما تصف قيادات حوثية الغناء.

وفي ظل حملة التحريم والقمع ضد الغناء، بما فيه منع بث الأغاني في الإذاعة والتلفزيون، باستثناء الزوامل الحوثية التي تقوم بالتعبئة الأيديولوجية، وتدعو إلى الحشد والتجنيد والقتال في صفوف الجبهات، ترجح الأوساط عودة السلطات الحوثية إلى تنفيذ قرار سابق كان قد صدر في  حزيران/ يونيو 2022، يقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس، التي تقام في صنعاء ومناطق سيطرتها.

ما سبق استوجب آنذاك تخصيص يوم للأغنية اليمنية في مواجهة الحملة الشرسة التي تشنها حركة الحوثي ضد الفن والفنانين لحفظ التراث والفن من الاندثار. وبطبيعة الحال، فإن هذه الممارسات اليوم لا تتوقف عند حدود الفنانين والفنانات فحسب، بل تشمل المجتمع المدني بكامله. 

بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 06.09.2024

“هالسيارة مش عم تمشي”… لكنها الحرب في ميس الجبل وليس في “ميس الريم”!

نعم، لقد تأخر الجنوبيون بالاعتراف أن هذه الحرب ليست نزهة، بل نكبة أخرى، وأنهم سوف يتجرعون مراراتها إلى أجل غير معروف، فالقافلة المغادرة، لا تعني سوى أن جنوبهم وليس ميس الجبل وحدها، على وشك فقدان الحياة.
03.09.2024
زمن القراءة: 7 minutes

في ظل حملة التحريم والقمع ضد الغناء، بما فيه منع بث الأغاني في الإذاعة والتلفزيون، باستثناء الزوامل الحوثية التي تقوم بالتعبئة الأيديولوجية، وتدعو إلى الحشد والتجنيد والقتال في صفوف الجبهات، ترجح الأوساط عودة السلطات الحوثية إلى تنفيذ قرار سابق كان قد صدر في  حزيران/ يونيو 2022، يقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس، التي تقام في صنعاء ومناطق سيطرتها.

 تأسّست مملكة الإمام يحيى حميد الدين  في عشرينات القرن الماضي، أعقاب انسحاب العثمانيين من شمال اليمن. وبعد وقت قصير من استقراره في العاصمة صنعاء، سيطرت ذهنية التحريم على الحياة العامة، إذ رسّخ الإمام في خطابه صورة إله كثير الانفعال والغضب والحنق من أفعال البشر، ويمكن أن نرصد شكلين من المحرمات في المخيال الديني، كانا يستوجبان التكفير والتقرب إلى الله فوراً، هما الموسيقى والخمر. 

 أثناء حكم الإمامة، حدثت مجاعة في شمال اليمن، فذهب الفقهاء إلى الإمام وأخبروه أن هذه المجاعة سببها انتشار الخمر والمعازف، من ثم أمر الأمام بحبس تجار الخمور وكسر آلات العزف أمام العامة، وعلّق آلة العود في مكان عام من صنعاء تحذيراً من العزف عليها، ورادعاً لكل من تسوّل له نفسه استخدامها لإغراء الجماهير المؤمنة، بحسب تعبير المؤرخ طه فارع. 

جسّد تحطيم آلات الموسيقى وقوارير الخمر إعادة نظر، ليس من الناحية الدينية فحسب، بل ومن الناحية الوجودية أيضاً؛ فقد نُسبت المجاعات إلى غضب الله على كفر البشر، الذين وفقاً لهذا المنطق، أصبحوا أول المسؤولين عنه، ولهذا فإن الموسيقيين ومستهلكي المشروبات الروحية،  كانوا الضحية المعلنة التي ينبغي تقديمها للتكفير عن الخطيئة. 

 بلغ التعصب الديني ضد الموسيقى من الشدة بحيث لم يكن أي عازف من العازفين يجرؤ على ممارسة فنه بشكل علني، باستثناء العازفين المتجولين المعروفين بالمداحين، الذين جمعت أشعارهم بين الغزل الرمزي بالذات الإلهية والمديح النبوي، بحسب الباحث محمد عبده غانم في كتابه “شعر الغناء الصنعاني”. ومع ذلك، لم تسلم من قمع الإمام حتى الأناشيد والترانيم التي تُردَّد في حلقات الذكر الصوفية مصحوبة بالعزف والرقص، إذ يشير مؤرخ اليمن وشاعرها عبدالله البردوني، إلى أن الإمام أحمد أمر بهدم جزء يسير من ضريح الولي الشهير أحمد بن علوان.

طوال سنوات الأئمة على خلاف مراحلهم، أحكمت الإمامة قبضتها على المجتمع، ومنعت جميع الفنون، إذ كانت الرقابة الدينية تداهم جلسات الغناء في المنازل، وتحطم الأدوات الموسيقية، وتقود الجميع إلى السجن بتهمة الأعمال المنافية للأخلاق والدين، وكان عددٌ من المواطنين يفقدون لذلك اعتبارهم أمام بقية المواطنين بحسب طه فارع في كتاب “الأغنية اليمنية المعاصرة”.

 الموسيقى والأغاني في العهد الإمامي لم تكن مُحرَّمة فحسب، بل كانت موضع احتقار وازدراء شديدين من السلطة ذاتها، وبالتالي من الشعب المغلوب على أمره، وفقاً للقاسمي في كتاب “الأواصر الغنائية بين اليمن والخليج”، وهو الأمر الذي اضطرّ عشاق الفن إلى تطوير أساليب لإخفاء الأسطوانات والغراما فونات المعروفة بصناديق الطرب والآلات الموسيقية، ومن ثم إغلاق النوافذ وسدها بالوسائد عند بدء جلسات الغناء.

 أما بالنسبة إلى النساء اليمنيات، فقد كن غير مرئيات في المجتمع، إذ واجهن قمعاً مضاعفاً بين التحريم الديني والاجتماعي، وبالتالي كانت الفنانات يؤدين الأغاني الشفوية في مساحات محدودة على الهامش، ومن هنا هربت ثلاث فنانات في أربعينات القرن الماضي من صنعاء إلى عدن وسط أكياس البضائع، وسجّلن مجموعة من الأغاني على الأسطوانات، وفي إذاعة عدن وبأسماء مستعارة، هي: (المتحجبة، بنت البلد، فاطمة الصنعانية). وتُعتبَر هذه الأغاني أولَ تسجيلات لأصوات نسائية في اليمن، كما يفيد الباحث رفيق العكوري.

 يندر أن نجد كتابات متشدّدة ضد النساء آنذاك، أي في العهد المتوكلي، على غرار كتيّب “الحسبة الزيدية” الذي يحدّد عقوبات عدة لتأديب الموسيقيين، يقضي أهمها بالسجن أو العقاب الجسدي، كما يتتبّع الباحث الفرنسي في الموسيقى جان لامبير. ولكن غياب هذه الكتابات ليس بسبب الانفتاح على المرأة من دون الرجل، أو أن الانحراف الديني بنظر السلطة كان حصراً على الرجال، بل على العكس تماماً، فهو يعني أن المرأة لم تكن فاعلة وإن بشكل رمزي في شمال اليمن، حيث حُرمت من النشاط الفني، وأُقصيت من الحياة العامة، وبالتالي واجهت مصيرها المنزلي، إذ ظلت حبيسة الجدران. وعليه لم يتكلف أحد من رجال الدين والفقهاء عناء التنديد بها أو الشعور بالتهديد منها، وهو ما دفع كثيرات منهن إلى الهروب رفضاً للعزل الاجتماعي والديني والسياسي. 

الخوف من النساء!

بعد قيام الجمهورية في شمال اليمن عام 1962، انخرطت المرأة في الحياة الاجتماعية شيئاً فشيئاً، وساهمت في الحراك الثقافي عبر الإذاعات والمسرحيات والغناء، ومن ثم حضرت ونشطت في الحياة السياسية. وفي الوقت ذاته، تطورت الفوبيا من النساء تدريجياً في كتابات الإماميين الجدد، نظراً إلى الحقوق التي اكتسبنها بعد تحقيق ثورة 26 أيلول/ سبتمبر.

ومع تولّي الوزير عبد الملك الطيب وزارة التربية والتعليم، وهو من مؤسسي التيار الإسلامي، وكانت تربطه علاقة متينة بالسعودية آنذاك، بدأت الشبهات تنتشر حول النساء في المدارس والمسارح والإذاعات، ومن ثم حدثت تغييرات متوالية في المنهج الدراسي الذي كان ولم يزل مصرياً.

 وإذا كانت النساء واجهن في المملكة المتوكلية قسوة الحياة والعزل الاجتماعي، فإنهن بعد انقلاب 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ومن ثم تولي الطيب مطلع السبعينات، أصبحن يواجهن صعود المد الأصولي، إذ مُنع الاختلاط في المدارس، وجُرِّم التمثيل، ووُضع منهج جديد يحرم النشاط الفني والأدبي والثقافي، ومُنعت اللقاءات بين الشابات والشبان في المدارس أو الجامعات. كما كُفّر الكثير من الأدباء والكتاب والمثقفين، ما أدى إلى الحظر والقمع، وكانت السلطات هي من يقوم بذلك بواسطة أجهزة الأمن والدعاة الإسلاميين وهيئة الإخوان والتيار الوهابي، على التعليم والتوجيه والإرشاد في المساجد، ومؤسسات الجيش والأمن. وهنالك الكثير من الوقائع الفردية المؤسفة، كما أسرّ لي شخصياً الأستاذ الباحث ونقيب الصحافيين اليمنيين السابق عبد الباري طاهر.

مسرحيّة “حريق في صنعاء”: نموذج لخطر التشدّد

من هنا، عادت النظرة الدينية المتطرفة مجدداً إلى واجهة المجتمع، ولكن بعناصر جديدة تتضمن النساء والسينما، إلى جانب الخمر والموسيقى، كما في مسرحية “حريق في صنعاء”، وهي إحدى أشهر المسرحيات آنذاك للشاعر والمسرحي محمد الشرفي. 

وتدور المسرحية حول مجموعة من الناس كانوا يشاهدون فيلماً رومانسياً في إحدى صالات السينما، بينهم الشاب أحمد والشابة نجوى، ويربط المؤلف بين قصة الحب في الشاشة وفي مقاعد الجمهور بين أحمد ونجوى، ثم ينتقل الحديث إلى قضايا أوسع بين العاشقين، تتضمن التقدم الحضاري، والقضايا الاجتماعية، والموسيقى، ومحاكمة المجتمع، ويرفض الزوجان هذا المجتمع، ويفضلان أن يغرقا في الفيلم، ولكن تجربة العاشقين تنتهي باقتحام أحد رجال الدين القاعة، حيث يتّجه نحوهما، ويتبعه مرافقوه ومجموعة من الناس، ويصرخ بأن الأفلام كفر ورذيلة فيها الرقص والغناء، ويتهم النساء مردداً: “تباً تباً… ضاع الإسلام وضاع الدين/ الشعب بلا أمطار جفت حتى الآبار/ الجوع تفشى بين الناس”. 

يطالب  رجل الدين بحرق دار السينما، لإرضاء الله ورحمته وغفرانه، إذ يؤكد أنه “إذا أُحرقت السينما، سيُسقط الله الأمطار وتحيا الأرض بعد موتها، وينمو الزرع، ويحصد المؤمنون ويأكلون ويعيشون على إيمان”، وهكذا استمرّت هذه النظرة الدينية التي تم توارثها، من الناحية النفسية، من جيل إلى آخر، كأمانة غير واعية تواصل التأثير على الناس. 

وشهد عقد الثمانينات انفتاحاً على المستوى الاجتماعي، إذ توسعت صالات السينما بظهور سينما حدة وسينما خالدة، وشرعت كلية الآداب في صنعاء أبوابها لعرض بعض الأفلام السينمائية في قاعاتها الرحبة، وكانت النساء يذهبن إلى الجامعات والسينمات بلا حجاب ولا رقيب، لكن ما إن انتصف عقد التسعينات حتى اختفى هذا الانفتاح تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية ودينية، بعد انقلاب علي صالح جنباً إلى جنب حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين)، على شريكه علي سالم البيض والحزب الاشتراكي في جنوب اليمن في صيف 1994.

الفقر لا بسبب النهب بل الحريات!

في أعقاب هذا الاجتياح، سيطر رجال الدين على السلطة والتعليم والفضاء العام، وسرعان ما بدأت بعض الكتابات السلفية تربط ملامح الفقر والطبقية، التي نشأت من النهب وتقويض الديمقراطية، بالانفتاح الاجتماعي، وذلك بالتزامن مع تغيير المنهج التعليمي الجديد، إذ صارت النساء عاراً وعورة ومحض شر، وهو ما دفع الكثير من الممثلات والفنانات إلى التراجع والاختفاء من المشهد الفني، كما في حالة الفنانة مايسة الكتف، التي اعتزلت الغناء نهائياً، أو التزام الحجاب على رؤوسهن، مثل أعضاء فرقة “إنشاد عدن”. 

وهكذا يجد سلوك جماعة الحوثيين وبطشهم، الذي يربط الكوراث السياسية والبيئية بالسخط الإلهي، جذوره في تراث ديني متواصل، ابتداءً بتراث الهادي الرسي مؤسس الدولة الزيدية، وانتهاء بالإمام يحيى. ولكن عوضاً عن السخط الإلهي على المستوى الاجتماعي مثل القحط والمجاعة، أصبحت آثار هذا الغضب الإلهي في عهد الحوثي على المستوى السياسي، مثل تأخير النصر كما يردد أفراد هذه الجماعة .

فبعدما نظم الحوثيون حملة على ملابس النساء بدعوى أنها تؤخّر النصر، ومن ثم فصل التعليم المختلط، وصولاً إلى منع السفر بلا محرم، شنوا  حملات اعتقال عبر عناصر نسائية من “الزينبيات”، استهدفت إحدى قاعات الأعراس في محافظة عمران شمال صنعاء، واقتادوا ثلاث فنانات شعبيات إلى السجن المركزي(سحب) عقب مشاركتهن غنائياً في أحد الأعراس النسائية في المحافظة. وبعد يومين من اعتقالهن، أطلقوا سراحهن، لكنهم استكتبوهن التزامات بعدم الغناء مرة أخرى.

وبجوار استهداف الفنانات، اعتقلت جماعة الحوثي عشرات الفنانين والمغنين الشعبيين ومهندسي الصوت ومالكي صالات الأفراح في محافظة عمران، بعد تعميمات بحظر الغناء في الأعراس بحجة حرمته، واستؤنفت الحملة بأوامر من القيادي الحوثي عبد العزيز أبوخرفشة، المعين أخيراً مدير الأمن في المحافظة.

وبحسب المصادر، خُطف الفنانون من منازلهم، أو على نقاط التفتيش، وآخرون بعد عودتهم من حفلات الزفاف، بدعوى رفض المستهدفين تنفيذ قرار سابق يمنع الأغاني في المناسبات والأعراس داخل مدينة عمران، ومن بينهم المغني بسام عداعد وهاشم الشرفي ومحمد أحمد الدحيمي والموزع الموسيقي مبروك الدحيمي، وذلك بتهمة مخالفة القانون، والمشاركة في “الحرب الناعمة” كما تصف قيادات حوثية الغناء.

وفي ظل حملة التحريم والقمع ضد الغناء، بما فيه منع بث الأغاني في الإذاعة والتلفزيون، باستثناء الزوامل الحوثية التي تقوم بالتعبئة الأيديولوجية، وتدعو إلى الحشد والتجنيد والقتال في صفوف الجبهات، ترجح الأوساط عودة السلطات الحوثية إلى تنفيذ قرار سابق كان قد صدر في  حزيران/ يونيو 2022، يقضي بمنع الفنانين والفنانات من حضور المناسبات والأعراس، التي تقام في صنعاء ومناطق سيطرتها.

ما سبق استوجب آنذاك تخصيص يوم للأغنية اليمنية في مواجهة الحملة الشرسة التي تشنها حركة الحوثي ضد الفن والفنانين لحفظ التراث والفن من الاندثار. وبطبيعة الحال، فإن هذه الممارسات اليوم لا تتوقف عند حدود الفنانين والفنانات فحسب، بل تشمل المجتمع المدني بكامله.