“لا للمتاجرة باسم فلسطين… ليس باسمنا التسليم لإسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمصطنعة، وليس باسمنا القتل والتشريد والتدمير للسوريين والعراقيين واللبنانيين… تاجروا و”تفاخروا” بتجارتكم باسمكم، بئس هكذا تجارة… لكن ليس باسمنا”، هكذا كان رد فعلي الأولي، فور إعلان ترامب خطوة تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل.
في الحقيقة فإن مثل تلك الخطوة لم تكن مفاجئة، كما لن تشكل أي خطوة مثلها، من قبل أي نظام عربي، مفاجأة لأي فلسطيني، علماً أن توقع شيء ما لا يخفّف من وقع الصدمة التي تحدث، ولا يقلل من شعور الفلسطينيين بانكشافهم، أو باستضعافهم، وبالتنكر لقضيتهم ولحقوقهم كبشر، لأن ذلك الشعور ما زال يلازمهم، أو يسكنهم منذ أكثر من 7 عقود.
ومصدر توقّع “مفاجآت” كهذه صادر عن حقائق مريرة مفادها أن معظم الأنظمة في حالة تطبيع واقعي مع إسرائيل منذ قيامها، وإن بأشكال صامتة، ومتفاوتة، لا سيما منذ ما بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، مع الانتقال من الصراع ضد وجود إسرائيل (ولو لفظياً)، إلى الصراع ضد احتلالها أراضي عربية، ما يعني الاعتراف بوجودها؛ هذا أولاً. ثانياً، يتأتّى ذلك من واقع أن إسرائيل ما كان لها أن تستقر وتتطور، وتتميز على محيطها، لولا تخلف تلك الأنظمة، وهشاشة بناها، وتهميشها مجتمعاتها، وتبديدها مواردها، أي أنها من العوامل الأساسية في تميز إسرائيل في المنطقة. ثالثاً، بينت التجربة أن تلك الأنظمة، التي مرمطت شعب فلسطين، تعاملت مع قضيتهم بطريقة استخدامية، لتعزيز شرعيتها، ومصادرة حقوق مواطنيها وحرياتهم، ولتعزيز أجهزتها الأمنية، ووضع يدها على الموارد، وأيضاً استخدمتها بطريقة مبتذلة في صراعاتها أو مزايداتها البينية، الأمر الذي جعل عبارة “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية”، مجرد كذبة كبيرة، أو مجالاً للتندر.
في أي حال فإن ذهاب دولة الإمارات نحو التطبيع مع إسرائيل يطرح علامات استفهام كثيرة، فهي ليست دولة حدودية، ولا يوجد أي تهديد جدي خارجي لها، وهي تخضع للحماية الأميركية، وتتمتع باقتصاد قوي، أي لا حاجة لها البتة لمثل تلك الخطوة المجانية، والمضرة، والمهينة. أما بخصوص ادعاء أن تلك الخطوة أتت لمصلحة الفلسطينيين، أي مقابل وقف خطة الضم الإسرائيلية، فهي رواية لم تصمد، فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لم يمررها، لا سيما مع تأكيده أن ما حصل هو مجرد تأجيل لخطته، ما يرجح أنه استجاب لطلب أميركي، لغايات انتخابية، وأن إعلان التطبيع برمته جاء لخدمة الدعاية الانتخابية لدونالد ترامب، ما يعني أن خطتي ترامب (صفقة القرن) ونتانياهو (الضم)، كانتا مجرد غطاء لخطوة التطبيع المتبادل،
ثمة عوامل أساسية ساعدت، أو سهّلت، مثل تلك الخطوة، أولاها، التخوّف من تغوّل النفوذ الإيراني، ومحاولة الاستقواء عليه من مدخل العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، علماً أن مخاطر إيران متجسدة أكثر وهي أخطر بكثير في العراق وسوريا ولبنان، وأن تلك الدول لم تفعل شيئاً لدرء الخطر الإيراني في تلك البلدان. وثانيها، حال الانهيار الدولتي والمجتمعي في بلدان المشرق العربي (العراق وسوريا ولبنان)، طبعاً بفعل تغلغل نفوذ إيران وميليشياتها الطائفية المسلحة. وثالثها، ضعف النظام العربي، أو غيابه، إذ لم يعد يعمل بطريقة تعاضدية، أو جمعية، بقدر ما بات يعمل بطريقة تنافسية وصراعية. رابعاً، ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، لا سيما بعد تحولها إلى سلطة، مرتهنة للمساعدات الخارجية، وهنا تتحمل القيادة الفلسطينية بعضاً من المسؤولية عما حصل فهي التي وقعت اتفاقية أوسلو (1993)، التي قزمت قضية فلسطين إلى مجرد أراض محتلة، وحقوق شعب فلسطين إلى مجرد دولة في الضفة وغزة، وهي التي أزاحت الرواية الفلسطينية من ملف النكبة (1948) إلى ملف الاحتلال الذي بدأ في 1967. وهي طبعاً اعترفت بإسرائيل، وبالتالي فتحت الباب أمام مسار التطبيع، الذي رأينا بداياته في اللجان التفاوضية متعددة الطرف التي انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام (1991)، وفي مؤتمرات القمة شرق الأوسطية التي عقدت في منتصف التسعينات في الرباط وعمان والدوحة والقاهرة. خامساً، ثمة سابقة تفيد بتشريع النظام العربي للتطبيع مع إسرائيل، وفقاً للمعادلة التي أقرتها قمة بيروت (2002)، والتي مفادها الانسحاب أو السلام مقابل التطبيع، على رغم أن أطراف ذلك النظام لا تطبع مع مواطنيها، وأن إسرائيل تعاملت بطريقة مهينة مع تلك المبادرة، وتالياً مع الأنظمة العربية التي تبنتها في تلك القمة.
والحال، فإن مثل تلك الخطوة التطبيعية، المجانية والمرفوضة والمضرة، لن تتوقف عند الإمارات، إذ ثمة أنظمة عربية أخرى، على الطريق، وبانتظار اللحظة المناسبة، على الأرجح.
ثمة مسألتان هنا، الأولى، أن البعض سيسارع مغتبطاً إلى إطلاق صيحة: “ألم نقل لكم؟”، في التمهيد لتبرئة صفحة إيران وميليشياتها، لا سيما “حزب الله”، ولاحقاً النظام السوري، لتبرير اصطفافه الجديد، علماً أن ذلك المحور هو أكثر من خدم إسرائيل، على رغم ادعاءاته، وجعلها أكثر دولة آمنة في الشرق الأوسط، بواقع مسؤوليته عن كل هذا الخراب في العراق وسوريا ثم لبنان. وهو محور ينطلق من معادلة خاطئة ومزيفة ومخاتلة مفادها: إما مع إيران أو مع إسرائيل، كأن ذلك قدر محتوم، أو كأن ثمة جريمة تغطي على جريمة أخرى، أو مجرماً يبرئ مجرماً أخر، في حين أن لكل منهما حصته من دمنا وعمراننا وهمومنا، فإسرائيل فعلت ما فعلته بالفلسطينيين، وبغيرهم من دول الجوار في فترات معينة، في حين أن إيران (وميليشياتها) أمعنت قتلاً وتدميراً وتشريداً في العراقيين والسوريين وما زالت.
أما المسألة الثانية، فربما أن تلك المصيبة تولد نقيضها، أي أن ما حصل قد يفتح على مسار جديد يفضي إلى سحب قضية فلسطين، أي تحريرها، من متاجرات وتوظيفات وتلاعبات أنظمة الفساد والاستبداد والتوريث في العالم العربي، ما يضع تلك الأنظمة إزاء التحديات التي تواجهها، وإزاء حقوق مواطنيها، من دون التلويح بالعلم الفلسطيني، أو بادعاء أن الأولوية هي مواجهة إسرائيل. ثمة أهمية كبيرة، بخاصة في هذه الظروف، لسحب قضية فلسطين من دائرة الابتزاز والمزايدة والمتاجرة، سواء من الأنظمة المستسلمة، أو أنظمة “المقاومة” و”الممانعة” المعادية لقيم الحرية والكرامة والعدالة.
المهم ألا يحصل ذلك باسمنا ولا باسم قضيتنا ولا باسم دمائنا ولا باسم حقوقنا… ففلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة والعدالة أيضاً…