رغم شكوك جمّة بخصوص نتائج وأفق الاتفاق الثلاثي بين السعودية وإيران، برعاية الصين، على الملفات السياسية والأمنية، التي تباعد بين الخصمين الإقليميين، إلا أنّ الثابت، حتى الآن، هو درجة التهدئة، لا سيّما الإعلامية، وتنحية “إعلام الحرب” عن متابعة الأوضاع المحلية في الرياض كما في طهران. فالإدارة الإعلامية التي تقوم على التعبئة والتحريض والشحن من جانب كل طرف، تعطلت فجأة وانزوت في هامش غير معلن.
الشروع في إعادة فتح السفارة والقنصلية بين طهران والرياض، ثم التمهيد، ربما، لزيارة محتملة للرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أو بالأحرى الاستجابة لدعوة الملك سلمان بن عبد العزيز، للرياض، آخر تطورات الاتفاق الثلاثي. فضلاً عن تقارب مع حكومة دمشق، الذي تجلى بزيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى الرياض. وثمّة ترجيحات قوية بقبول عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، في ظل تحركات لافتة تقوم بها الأولى بين القاهرة وأبو ظبي والرياض. غير أنّ استحقاقات الحرب في سوريا واليمن، أو نطاق نفوذ طهران في بغداد ولبنان، لا يمكن إنهاء أبعادها الجيوسياسية، وتصفية مساعيها المرتبطة بهياكل تنظيمية من الصعب قبولها بتسوية سريعة وبراغماتية.
وفي إطار عمليات التهدئة، هناك محاولة لتدشين اتفاق وقف إطلاق النار بصفة دائمة، من خلال مبعوثين سعوديين ويمنيين وعُمانيين التقوا في صنعاء مع الحوثيين. لكن حتى هذه المحاولة تخضع لاختبارات عنيفة في ظل مناعة قوية تتصدى لها طبيعة الأجسام السياسية المسلحة التي لا تقبل بمثل هذه التسويات الدائمة. وقد أبدى المجلس الانتقالي، مثلاً، المدعوم من الإمارات، والذي انخرط في الصراع بجانب تحالف “دعم الشرعية” بقيادة السعودية، عدم مرونته تجاه أيّ اتفاق بين الأخيرة والحوثي.
اللافت أنّ هذه التناقضات والتوترات إلى جانب غيرها من الموضوعات الملغمة، منذ لحظة الاتفاق الثلاثي، رُفعت عنها الأقلام وجفت الصحف دفعة واحدة. فالخطاب الإعلامي الموجّه في البلدين، والذي كان متهماً بالتحريض السياسي، توقف عن مباشرة دوره التقليدي. سبق أن اتهمت طهران خصمها الإقليمي بتحريك التظاهرات، بل ودعم مجموعات مسلّحة معارضة، مثل الجناح العسكري لـ”حركة المقاومة البلوشية” المعروف باسم “جيش العدل” في إقليم سيستان وبلوشستان المتاخم للحدود الباكستانية – الأفغانية، وغالبيته من الأقلية القومية (البلوش) والطائفية (السنة).
تسييس أحكام الإعدام، والتي تشهد نمواً حاداً في الرياض كما في طهران، كان أحد مجالات التنافس الإعلامي لتوجيه الهجوم والنقد اللاذع بين البلدين. ففي عام 2020، وجهت طهران اتهاماً للرياض بالتملّص من “الحقائق” وتحميل الآخرين مسؤولية “جرائمها”. جاء ذلك إثر خطاب الملك سلمان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي حمل هجوماً على النظام الإيراني.
وعقّب على خطاب العاهل السعودي الناطق بلسان الخارجية الإيرانية، آنذاك، سعيد خطيب زاده، قائلاً إنّ “السعودية لطالما انتهجت سياسة الإسقاط للهروب من الحقائق وبهدف التنصل من مسؤوليتها تجاه الجرائم التي ترتكبها”. واتهم زاده السعودية بتوفير الملاذات الآمنة لـ”الإرهابيين”، وكذا الدعم المالي واللوجيستي.
تسييس أحكام الإعدام، والتي تشهد نمواً حاداً في الرياض كما في طهران، كان أحد مجالات التنافس الإعلامي لتوجيه الهجوم والنقد اللاذع بين البلدين.
قائمة الاتهامات وتصنيفاتها تكاد لا تختلف في الخطاب الإعلامي بين الطرفين، وتعتمد في غالبيتها على التصنيف الطائفي، السني والشيعي، وتحريك مجموعات مؤدلجة وتسليحها لتطويق مصالح المتنافسين الإقليميين في المنطقة بمربعات أمنية ومذهبية. ووفق وزير الداخلية الإيراني، أحمد وحيدي، فإنّ الرياض توظف شبكة إعلامية ناطقة بالفارسية تابعة للرياض لتعبئة المتظاهرين ضد “الجمهورية الإسلامية” منذ أيلول/ سبتمبر العام الماضي، بعد مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني على يد دورية “شرطة الأخلاق”. وكانت شبكة “إيران إنترناشيونال”، المملوكة لرجال أعمال سعوديين، قد أعلنت قبل فترة وجيزة من الاتفاق الثلاثي، عن نقل مقرها من لندن إلى أميركا على خلفية تهديدات طاولت العاملين فيها. وعزا البعض هذه الخطوة كذلك الى ترتيبات الاتفاق الذي تم برعاية الصين.
نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا” عن وزير الداخلية الإيراني قوله، إنّه “من المثير للاهتمام أن أولئك الذين انتقدوا إيران لدعمها غزة ولبنان، يكيّفون عملهم الآن مع شبكة ناطقة باللغة الفارسية تابعة للسعودية”.
“محاربة الله” أو “الإفساد في الأرض” التي تصل بالمتهمين في إيران الى منصة الإعدام بينما تنال النصيب الأكبر منها الأقليات القومية والدينية، تماثل التهم التي تدين بها السلطات السعودية خصومها في الداخل وتحديداً الأقليات الشيعية. هناك 37 سعودياً تعرضوا للإعدام في غضون ثلاثة أعوام، منهم رجل الدين الشيعي بالسعودية نمر باقر النمر، والذي تسبب في قطيعة مع طهران دامت سبعة أعوام. ووصف بيان الداخلية في الرياض هؤلاء بأنّه يتبنون “الفكر الإرهابي المتطرف وتشكيل خلايا إرهابية للإفساد والإخلال بالأمن وإشاعة الفوضى”.
وتعد الرياض هي الأخرى متّهمة باستخدام الاعتراف القسري ضمن وسائل التعذيب وأنماطه، بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش”. إذ قال مايكل بَيج، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”: “كان الشيعة السعوديون يأملون بأن تؤدي “الإصلاحات” المفترضة لولي العهد محمد بن سلمان إلى الحد من التمييز الراسخ ضدهم، لكنّ المضايقات القضائية للقادة الدينيين والإعدامات الجماعية ليست سوى المعاملة التعسفية ذاتها من جانب السلطات. القمع المتزايد في جميع أنحاء السعودية اليوم جزء لا يتجزأ مما واجهه الشيعة السعوديون لسنوات عدة”.
وتابع: “إنّ الإكراه الذي مارسه القضاء ضد الشيخ الحبيب في السعودية مظلمة أخرى في قائمة المظالم الطويلة التي ترتكبها الحكومة ضد الشيعة السعوديين. يبدو أنّ “رؤية 2030″ السعودية ليست لديها أيّ نيّة للتصدي للتمييز ضد الشيعة السعوديين”.
وفي آذار/ مارس العام الماضي، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”، عن رئيسي، في اجتماع المجلس الأعلى للشباب، أنّ تنفيذ أحكام الإعدام بحق 81 شخصاً في السعودية يفضح “المواقف المزدوجة لهذه الدول المدافعة عن حقوق الإنسان في سياق توظيف حقوق الإنسان لتمرير أجنداتها السياسية على حساب سائر البلدان”.
ومع تسييس هذه الأحكام التي تصدر على خلفية الصراع الإقليمي، وتبني مجموعات محلية أجندة سياسية معارضة في الداخل، من جهة، ومؤيدة لأطراف خارجية وإقليمية، من جهة أخرى، تفاقم وقائع العنف تجاههم. وقد حدث ذلك مع قومية البلوش التي أعلنت دعمها للتحالف السعودي – الإماراتي في اليمن، وتعرّض الكثير من أبنائها للسجن والملاحقات الأمنية والإعدام. ووفق تقارير حقوقية محلية، مطلع العام، فإنّ ثلث الإعدامات في إيران العام الماضي من أقلية “البلوش”.
إقرأوا أيضاً:
القضايا الحقوقية في الرياض، وكذا المشهد الاحتجاجي الممتد في غالبية مدن طهران وأقاليمها في أعقاب مقتل مهسا أميني، الذي يحمل على متنه احتجاجات فئوية مطلبية نتيجة تدني الأوضاع الاقتصادية، غائبة ومغيبة عمداً في الإعلامين السعودي والإيراني. فقط قامت المنصات في البلدين بانعطافة حادة للتركيز على الشأن الخارجي، ممثلاً في تطورات الملف النووي، والصدام أو حروب الظل بين طهران وإسرائيل. فيما عنونت الصحف الإيرانية موضوعاتها بـ”خمسة دروس حول دور الصين في تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية” كما جاء في منصة “الديبلوماسية الإيرانية”، أو “هزيمة مشروع العزلة” الذي تصدّر صحيفة “شهروند”.
ومن بين الأمور التي غابت عن التغطية الإعلامية، بخاصة الناطقة باللغة العربية، إلغاء قرار تسمية الشارع الذي توجد فيه السفارة والقنصلية السعودية بطهران ومدينة مشهد، باسم رجل الدين الشيعي الذي أعدمته السعودية نمر النمر.
وذكر الكاتب المتخصص في الشؤون الدولية، حسن هاني زاده، أنّ إعادة فتح سفارة طهران في الرياض تعد مؤشراً إلى تقدّم اتفاق بكين. وقال في صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية، إنّ اللقاء الذي جمع وزيرا خارجية السعودية وإيران “يشكل آفاقاً واضحة لحل الخلافات بين البلدين والتوجّه نحو التكامل الإقليمي”.
ووفق موقع “العربية” السعودي، فإنّ مجلس الوزراء السعودي تابع “المستجدات بشأن اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما اشتملت عليه المحادثات بين البلدين، التي عقدت في بكين، من الاتفاق والتنسيق حيال الخطوات اللازمة لاستئناف العمل الدبلوماسي والقنصلي بينهما، والتأكيد على أهمية متابعة التنفيذ، بما يعزز الثقة المتبادلة ويوسّع نطاق التعاون ويساهم في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة”.
كما اعتبرت وكالة أنباء “إرنا” الرسمية، أن الاتفاق الثلاثي “يدشن طريقاً للمستقبل، بموازاة تجاوز مرارة الماضي، طريقاً يصب في صالح طهران والرياض وغرب آسيا وشرقها”. بل وقالت الوكالة الرسمية في الإيران إنّ الاتفاق تتويج لفشل القوى العظمى في “مشروع عزل طهران”. وتابعت: “هذه الاتفاقيات تمهّد الأرضية اللازمة لكسر العزلة الاقتصادية. العلاقات مع الجيران يمكن أن تُجهض جزءاً من تهديدات العقوبات على الاقتصاد الإيراني”.
ومثلما جاء تقرير في صحيفة “اندبندنت عربية” السعودية ليرفع من “سقف التوقع” للاتفاق الثلاثي، والذي “قلب الموازين في المنطقة”، بل يؤكد “حسن نوايا” إيران في خفض التصعيد، فإنّ وكالة “إيسنا” الحكومية أكدت أنّ انخراط الصين الدبلوماسي “خلق المزيد من التفاؤل بشأن مستقبل الاتفاق، وعدم تعطّله”.
ونقلت الوكالة عن الدبلوماسي الإيراني السابق، عبد الرضا فرجي راد، قوله: “إذا فعل العراق أو عمان ذلك، فمن المحتمل أن تكون هناك مشكلات في العلاقات، لكن الصين لديها علاقات وثيقة نسبياً مع إيران التي تبيع كل نفطها إلى بكين، وكذلك العلاقات استراتيجية بين السعودية والصين، أيّ أن بكين تستثمر في كلا البلدين”.
تابع قائلاً إنّ الصين “تعتمد على السعودية للمستقبل، وللتنافس الجيوستراتيجي مع أميركا. “إيران بحاجة إلى الصين، ومن جهة أخرى قدمت السعودية تطمينات للصين بأنّها ستعمل بالاتفاق”. ومن ثم، استبعد عودة الرياض إلى مربع الصفر، مرة أخرى، في تطابق للمقاربات الإعلامية السعودية، إنّما “تتقدم إلى الأمام”. وهو التفاؤل ذاته الذي جاء في الصحيفة السعودية التي أشارت إلى أنّ الأمير محمد بن سلمان يؤكد عمق الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن وتحديداً في الجانب الأمني، إلا أنّه لن يضع بلاده رهينة لواشنطن بل سيعمد على تنويع مصادر قوته وشراكاته في آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.