fbpx

الاحتباس الحراري… نهاية حيوان جائع ومَسعور!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يريد منا العلماء كي نحيا ونستمر أن نشعر بالمسؤولية تجاه أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه، ونكون ناضجين في التعامل مع جوعنا وبلادة أحاسيسنا وفراغ أرواحنا الشديد، وهذي هي المشكلة!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نعيش في عالم متحلّل، فاسد، يتداعى من كل جانب من جوانبه، تَحكمه غرائز وانفعالات، يكاد لا يكون للحكمة فيه أي متّسع أو مكان، يَدين للتنافس والتدافع بدل التكافل والانسجام، ينشغل فيه البشر حتى أخمص أقدامهم لتحقيق ما هو مفرط في ذاتيّته، ولأجله يبذلون الغالي والنفيس، وقد أفسد ذلك عقولهم وأفسَدَ العالم الذي يعيشون فيه؛ ولأننا لن نستطيع -قبل فوات الأوان- تحقيق وعي وهويّة كونيّة للإنسان، فقد انتهى أمرنا تماماً. 

الحقيقة هي أن نوعنا “الذكي” على أبواب انقراض جماعي، لن تستطيع لا آلهة ولا أقوى الأمم، ولا أذكاها، ولا أكثرها تحضّراً وتطوّراً أن تحرفه عن مساره.

إننا في خضم أزمة عالمية، جادّة، معقّدة، كبيرة، وخطيرة، ينبغي أن تكون حاضرة في كل نقاشاتكم؛ لا معنى لكل ما ندّعي السعي إليه، لا معنى للتاريخ بكل ما فيه، لا معنى لـ “الحضارة” التي لا تعدو أن تكون طبقة من الماكياج الرخيص. لا معنى لـ “التقدّم” الذي يستعبدُ بعضكم بعضاً بحجّة السّعي إليه، لا معنى لمستقبل البشرية إن كانت هذه “البشرية” معزولة في كوكب يستحيل أن تغادره، وفي الوقت نفسه تَستحقر ما يجعل الحياة فيه ممكنة، وتسير بنفسها نحو الموت الذي لا قيامة بعده!

لا يفتقر البشر إلى التقنيّة، بل يفتقرون إلى الحكمة الكافية لتجاوز أزمة المناخ؛ لقد فشل البشر لشدة الذكاء وبلادة الشعور بالجمال والمسؤولية إزاء الحياة والطبيعة، وهذه شهادة وفاتهم. لقد أعلن نيتشه موت الإله، وعلى أحدهم عاجلاً أم آجلاً أن يعلن موت الإنسان. 

مثير للسخرية كيف وقَع الناس -وكأنّه شغفُ المراهقين- في غرام صور التلسكوب التي انتشرت قبل مدة والتي تظهر الكون!  بَدا البشر لوهلة وكأنّهم جادّون في رغبتهم بمعرفة كيف بدأ الكون! وخيالهم يَسرح: إلى أيّ الكواكب الصالحة للعيش يا ترى ستأخذنا حكوماتنا لإعمارها ونشر الحضارة؟!  في حين أن المنزل الوحيد، المهيّأ سَلَفاً بكل ما يحتاجون إليه، يحترق!

هل الإنسان جادّ حقاً؟ هل يجرؤ ويريد فعلاً النظر إلى نفسه وعالمه من الأعلى؟ هل هو مستعد ليُعيد النظر في مسائل وجوده، أن يعيد ابتكار نفسه، هويّته، حياتِه القصيرة، مُستقبلِهِ، سعادته، على ضوء ما تكشفه الصورة الكبيرة؟ هل يجرؤ على النظر لوحدهِ بمعزل عن إملاءات سلطة سكان الأرض بكل أشكالها عليه؟ حسناً ماذا يرى؟ 

بكتيريا تستوطن مكاناً رطباً يطفو بالقرب من نجم “متوسّط” الحجم، تفوح منّا ومن عالمنا رائحة العفن والرطوبة، هذه حقيقتنا التي لا يستطيع أحد أن ينكرها.

وجودنا الرطب هذا مَدين لعلاقات توازن دقيقة جداً، تشمل الظروف الخارجية للأرض، ويستمرّ تأثيرها حتى يطرأ على كل الأحياء والأشياء داخلها، فلا الأرض قريبة من الشمس لتحترق وتذوب، ولا هي بعيدة كي تتجمّد من البرد والوحدة.

هذا التوازن إذاً هو “الله” الحقيقي الذي يحمي هذا العالم من أن ينهار، بدونهِ لم يكن شيء ليوجد على الإطلاق، لا إله إلا هو.

والتوازن يعني المساواة والعدالة في توزّع القوّة، غير أن الإنسان، لشدة جهله وكسله وجشعهِ غافلٌ عن حقيقة العالم الذي يعيش فيه، لذا يُخِلّ بتوازن القوّة الإلهيّ الدقيق هذا، ويُؤذِن بانهيار كل شيء.

يَعزو العلماءُ الأسبابَ التقنية لمشكلة الاحتباس الحراري إلى ارتفاع نسبة الكربون وجملة من الغازات الدفيئة الأخرى كالميثان في الغلاف الجوي، الأمر الذي يتسبب باحتباس الحرارة، ويَحول دون قدرة النظام الطبيعي للأرض على تبريدها، ما يؤذن بخطر انحسار جليد القطبين، ارتفاع مستوى سطح البحر، اضطرابات الأمطار والفصول، توسّع الصحراء، انتشار الحرائق والفيضانات، دفع الأنواع الأخرى باتجاه الانقراض، فقدان التنوّع البيولوجي، وبالتالي تدهْوُر النظام الطبيعي للأرض، وتحوُّلها إلى بيئة عدائية غير داعمة للحياة.

خمس حالات انقراض جماعي حدثت في تاريخ الأرض جميعها كانت مرتبطة بزيادة نسبة الكربون في غلافها الجوي؛ سابقاً كانت البراكين هي المُسبّب لحالة الانهيار الحيوي، وكانت العملية تتطلب نشاطاً بركانياً مستمراً لملايين السنين؛ اليوم تُطلق مصانعنا ومزارع تربية الحيوانات من ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة ما تسبّب -خلال أقل من 200 عام فقط- بإحداث خلل في بنية النظام الطبيعي. 

يتحدّث العلماء أيضاً عن بصيص أمل، عن باب بالكاد لا يزال مفتوحاً لتجنّب الكارثة خلال عقد من الزمن كحد أقصى، وذلك عبر خفض انبعاثاتنا من الكربون والغازات الدفيئة عن طريق التخلي عن الوقود الأحفوري، والتوقف عن تدمير الطبيعة، والتخلّي عن شبقنا الحادّ تجاه البروتين الحيواني، وترشيد استهلاكنا واستنزافنا الموارد الطبيعية… 

بعبارة أخرى يريد منا العلماء كي نحيا ونستمر أن نشعر بالمسؤولية تجاه أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه، ونكون ناضجين في التعامل مع جوعنا وبلادة أحاسيسنا وفراغ أرواحنا الشديد، وهذي هي المشكلة!

لعلّ أخطر ما يميّز أزمة الاحتباس الحراري ليس عالميّتها، هناك الكثير من الأزمات ذات الطابع العالمي، غير أن هذه الأزمة العالمية بالذات هي شخصية جداً تمسّ صميم العلاقة بين الإنسان والعالم، إنها أزمة تبدأ من الفرد، ويتحمّل مسؤوليتها كل واحد منا على انفراد، وتدور كل تجلّياتها حول سؤال رئيسي ومفصلي: ماذا تريد أيها الإنسان؟ وبأيّ ثمن؟!  

العالم متصل ببعضه بشكل وثيق، ومصير الإنسان فيه واحد، وتصوّرات كل واحد منا فيه، والطريقة التي يحيا بها كل شخص منا تنعكس على شكل العالم ككل. اسأل الناس عن حقيقة ما يريدون وستعرف مستقبل الاقتصاد والسياسة، وبالتالي مستقبل النوع والحياة كلها.

يريد الناس استهلاك المزيد والمزيد من البروتين الحيواني، والمزيد من الطاقة لجني المال وتشغيل المنزل والسيارة، والكثير من الألبسة والأشياء غير النافعة التي تدور في فلك استعراض الذات والتي سيتركونها وراءهم بعد أن يموتوا، يدفعون المال الذي حصلوا عليه بشقّ الأنفس، وتجني الشركة المنتجة والدولة الكثير من الأرباح، ثم يدفع كل سكان الأرض لاحقاً فاتورتها الحقيقية على شكل غاز سام يلوث الهواء الذي يتنفسونه، وبالتالي انهيار في طبيعة النظام الحيوي. 

لا ينبغي النظر إلى مشكلة الاحتباس الحراري على أنها ازدياد في نسبة الكربون والغازات الدفيئة في الغلاف الجوي فحسب، بل على العكس تماماً، هذه مجرّد نتيجة، عرض من أعراض مرض ذاتي أكثر خطورة، إن مشكلة الاحتباس الحراري هي مشكلة روحية في المقام الأول.

الحضارة الإنسانية مصابة بالسرطان في وجدانها، وهي اليوم تواجه خطر الانهيار الكامل بسبب الهوية المزيّفة للإنسان، جوعه الشديد، أنانيته المفرطة، تنافسه الشرس، جشعه البغيض، افتقاره للنضج، قلة إحساسه بالجمال، عدم قدرته على التعاطف، همجيّته، هوَسِه بذاته، احتقاره للعالم الطبيعي، وعبادته المتفانية للشهوة واللذة والمال. 

يدّعي الناس أنهم من وراء هذا يُريدون “السعادة”، لكنّ واقع الأمر يوحي بأنهم يتخلّون عنها لِيَجنوا التعاسة والألم، فالتعريف الذي يدّعونه للسعادة غير نابع من أنفسهم، بل تمّت صياغته برعاية الحكومة وتلقينهم إياه، وهنا بالضبط يكمن السبب الأكثر شخصيّة لأزمة الاحتباس الحراري، ألا وهو عدم استقلالية الوعي والضمير الإنساني، وقبول العالم مثلما هو عليه بدل مُساءَلته والشك فيه، والذي بدوره ناجم عن خوف الناس وجُبنهم وكسلهم عن استخدام عقلهم الخاص، والاعتماد في الكشف عن حقيقة (مَن نحن؟ وماذا يجب أن نفعل؟ وكيف يجب أن نعيش الحياة؟) على ما يُلقّنه إيّانا الآخرون.

تبدأ قصة تَبَعيّة الوعي والضمير الإنساني -التي هي بدورها القصة الأكثر شخصية لأزمة الاحتباس الحراري- تبدأ بمجرّد أن نُولد أطفالاً، حيث تبدأ عملية تدجيننا، يعلّموننا اللغة لتسهيل عملية تعبئتنا وشحننا بكل أنواع الهراء الكلامي المقدَّس وغير المقدّس، يُلقّنوننا تلقيناً، ليس هناك جهاز تعليمي واحد في الدولة يجرؤ على تعليمنا الشك فيما يدّعي، يُعلّموننا الولاء مثلما يُعلّمون الكلاب، للأسرة التي وُلدنا لها مصادفةً، واللون الذي اختارته الحياة لنا، والمكان الجغرافي الذي صادفَ أنْ خرجنا فيه من أرحام أمهاتنا.

تملأ السلطة -التي تبدأ من الأسرة- عبر جهازها اللغوي المعقّد (قوامُه مجموعة من القصص والأساطير عن عائلة ودِين وأمة خير من باقي الأمم) رؤوسَنا بالهراء الذي سيشكّل لاحقاً هويتنا الصغيرة، والصندوق الذي ينبغي أن تُشكِّلَ حُدودُهُ حدودَ العالم الذي نعيش فيه. 

بعدها يبدأ تثقيفنا اقتصادياً: المال، معناه، قيمته الإلهية، وقدرته العجيبة على جعل الأشياء تحدث. ثم نتلقّى التشجيع لأجل “إثبات أنفسنا” من خلال السعي والتنافس الشرس لتحصيله واحترام أهله، فإما أن نصير -وفق هذا المعنى الضيق- رابحين للمال وبالتالي ناجحين، أو خاسرين فاشلين؛ ومن ورائنا تعمل السلطة الكبيرة الاقتصادية وممثلوها السياسيون على سنّ قواعد اللعبة.

ولفهم الموضوع أكثر نحتاج أن نمرّ على بُنية النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يحتاج لأموال الأغنياء كي يعمل، فمن خلال الضرائب التي يجنيها منهم يموّل المدارس والمشافي والنظام الاجتماعي بأكمله. 

للدولة مصلحة عند هؤلاء الكبار/النخبة/الناجحين الذين بدون أموالهم لا يستمر النظام ولا يعمل، إنهم فراعنة مصر المميّزون الأقوياء، إنهم عبيد الجَشَع الذي يحمل نظام هذا العالم الفاسد ويُديره، بدونهم لا وجود للأهرامات، أو ما يصطلح الناس على تسميته بـ “الحضارة”. 

تتوارث هذه النخبة -ويا للسخرية، حتى في المجتمعات الديموقراطية- المال/القوة مثلما يتوارث الملوك السلطة، جيلاً بعد جيل!! أما بقية المواطنين فيجب أن يبدؤوا من الصفر، أو حتى دونه، قيمة وجودهم مرهونة بالقدرة على حَمْل الطوب لبناء الهرم الأكبر، أو درّ الحليب.

للدولة الحديثة مصلحة في أن تزداد أعداد النخبة/الأغنياء وتزداد أموالهم، فتسنّ لصالحهم القوانين، وتدعمهم كي يزدادوا ثراءً واستفحالاً وقوة هذا في أحسن أحوال الدول “المتطورة” طبعاً. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قصة أكثر إثارة للاشمئزاز والقرف.  

إقرأوا أيضاً:

بروباغندا الدولة والدين

لكي تُقنع الدولة المواطنينَ- أطفالها السذّج- بالانصياع لهذه القواعد والالتزامات يتم تسخير المدارس، والجامعات، وأجهزة الإعلام، والصحافة، والدعاية والإعلان، والمحتوى المرئي والمسموع، إضافة إلى الشركاء الروحيين قادة الأديان الذين كانت ولا تزال تستعين بهم منذ فجر التاريخ، يعملون جميعاً كبروباغندا واحدة على قلب فاسد واحد لصياغة هويتنا الصغيرة، والغرض من وجودنا في العالم، ويُمثّل قبولنا بكل هذه الترّهات اختياراً نتحمّل مسؤوليته بأنفسنا حتى الموت.  

ولكي يَجمع النخبة/ التجّار المزيد والمزيد من المال الذي تُحبّه الدولة تتم الاستعانة بأهل العِلم والمعرفة، علماء النفس ورجال العلاقات العامة وخبراء تحليل بيانات السوق، هؤلاء هم عصب النظام الاقتصادي في العصر الحديث، تتم الاستعانة بهم لأجل هندسة وعيكم، ولا وعيكم حتى، يصنعون الرغبات الجديدة لكم كل يوم، يُغرقون بها شوارعكم وشاشاتكم وحتى مناماتكم، كي تتمسّكوا بالعالم، كي تتوقّفوا عن البكاء مثلما كنتم تفعلون حين كنتم صغاراً، كي تهربوا من أنفسكم إلى الأشياء، كي تواسوا أنفسكم جراء الوجود في العالم، كي لا تقتلوا أنفسكم، يُشجّعونكم ويُحرّضونكم من خلالها على عبادة المال، واحترام أهله، والتباهي به، والتنافس الحيواني الشرس لأجل حبّه وتحصيله، كي تُنفقوه على الشراء، فيستمرّ هو بالربح، ويستمر النظام، وتحصلون في المقابل على ما تسمّونه “السعادة”. 

ولأجل المال ينبغي أن تبيعوا أرواحكم، وسنين عمركم التي تُعاش لمرة واحدة فقط؛ والآن بعد أن أيقظ النظام الرأسمالي العالمي الشهوة النائمة داخلكم حتى صرتم مهووسين بذواتكم، ولأنّكم جوعى، وجوعكم يتم تحفيزه بالصوت والصورة، تحتاجون بالتالي إلى المزيد والمزيد من المال، وفي أحسن أحوال الدول “المتطوّرة” تحصلون على قرض من البنك، هناك توقّعون على سند عبوديتكم من أجل شراء ما ستتركونه وراءكم بعد الموت؛ يسمّي الفرنسيون هذا اللهاث داخل عجلة الفأر بـ “Gagner sa vie” أي: أن تكسب حياتك. 

هكذا يكسب إنسان العصر حياته، بأن يعيش فأراً، عبداً لمصلحة رغبة وهميّة أقحمَها النظام في رأسه، عبداً مفتوناً بصورتهِ الشخصية أمام العبيد الآخرين، يستمد طاقته من فهم محدود للهوية، ومن رغبة شديدة للتنافس، ومن عدم قدرته على الشكّ في أي شيء لأن الجميع حوله يفعلون ما يفعل، ومن عنجهيّة وجوع شديد للمال وإنفاقه، حتى لو كلّفه هذا السعي المحموم حياته ووجوده. 

هكذا يتألّم إنسان العصر، ينفق عمره ليشتري الأشياء، تُحرّكه الدعاية بمباركة النظام والدولة فيزداد جوعاً وفراغاً بقدر ما يزداد لذّة، يبحث عن سعادة لم يَعرفها بنفسه، عن لذّة آنية موجودة في الخارج تتطلّب اللهاث والألم بدل أن يبحث عنها في نفسه، هكذا يحتقر أنه يعيش بصحّة جيدة، ويحتقر أن الحياة نادرة وأنّ أثمن ما فيها هو الوقت، وبسبب غفلته هذه يزداد إلحاحاً وتطلّباً على الطبيعة ومواردها، فيدمّر حياته، ويدمّر كل شيء. 

لقد تخلى الناس عما يحتاجون، لمصلحة ما يريدون، وفرّطوا بما يملكون، لأجل ما يشتهون ويحلمون.

كيف لإنسان بهوية بحجم صندوق، وبمعرفة لا تتجاوز حدود اللغة والمال وخرائط الجغرافيا، وبفراغ روحي غائر وكأنه الثقب الأسود، وبلذّة أنانية جامحة لا يكاد يُشبعها شيء، كيف لانسان مُدجَّن أن يكون على دراية بالأبعاد الحقيقية التي تترتّب عن سلوكه المُفسد للعالم كله؟ إنه يبيع عمره لأجل الوهم، ويجلب لنفسه الشقاء دون أن يدري، إنه عبد لشهوته، يتخلى عن حرّيته والمسؤولية تجاه نفسه، فما بالك أن يكون واعياً للضرر الذي تُحدثه رغبته على الآخرين أو المناخ؟!

يريد شعب الصين وبقية شعوب العالم أيضاً أن يعيشوا بالطريقة التي يعيش بها أقرانهم الأميركيون والأوروبيون، يريد سكان العالم أن يعانوا بدورهم السكري والبدانة جراء شبق الألبان واللحوم، لينفقوا خزينة الدولة في ما بعد على الرعاية الصحية لإصلاح ما أفسده “ماكدونالدز” والآخرون، يريدون الاقتداء بالتعريف الأوروبي- الأميركي للسعادة، ولن يكفي كوكب أرض واحد، نحتاج إلى كواكب أخرى لسد الفراغ العميق الكامن في قلب هذا الكائن المسعور وضميره.

تعريف الإنسان المعاصر للسعادة هو سبب رئيسي لمشكلة الاحتباس الحراري، كل ما يتجلّى بعد ذلك في الواقع العملي من غازات وإشعاعات وتلويث وتدمير… ما هو إلا نتيجة لهذه المشكلة السلوكية/ الذهنية/ النفسية/ الروحية العميقة. 

الطريق إلى الزهد…

نظريّاً، إذا ما أراد النوع البشري أن يستمرّ وقتاً أطول، وإذا ما أرادت “الحضارة” أن تكون متحضّرة فعلاً فعليها أن تتوازن سياسياً واقتصاديّاً، وأن يتقشّف سكان العالم ويكونوا زاهدين، ويخفّضوا استهلاكهم إلى الحدّ الأدنى من كل شيء، بحيث يقتصر على أكثر ما يحتاجون إليه إلحاحاً، لا على ما يرغبون. 

بهذه الطريقة يقل استنزاف الناس للموارد، وتقلّ حاجتهم للمال، ويقل اضطرارهم لبيع المزيد من جهدهم، وبالتالي يكسبون الصحة النفسية والجسدية، والأهم يكسبون المزيد من الوقت للتأمل في أحوال الكواكب والنجوم. وقت الفراغ أثمن من كل شيء، وما الحياة إلا المزيد من الوقت الذي يُعاش مرة واحدة فقط.

يتضمّن هذا التقشّف أن يتّبع البشر نظاماً غذائياً نباتياً بشكل صارم ونهائي، فالمصدر الحيواني للتغذية فاتورته على الطبيعة كبيرة وخطيرة، هذا علاوة على الضرر الصحي الذي يتسبّب به؛ كذلك ينبغي أن يتخلى الناس عن السيارة، ويعتمدوا على مصادر الطاقة الأقل ضرراً، ويتوقّفوا عن شراء المزيد من الأثاث والثياب لغرض التباهي.

لكن، لأجل تحقيق هذا ينبغي على الناس أولاً أن يكونوا أحراراً، أسياد أنفسهم، وأصحاب القرار على حياتهم، يجب أن تتحرّر عقولهم عن إملاءات السلطة عليهم، وأن يعيدوا النظر في كل شيء، حرّيتهم، نطاق مسؤوليتهم، حياتهم، الغرض منها، وكيف ينبغي أن تعاش الحياة، وما هي السعادة. قد يقدّم كتاب شوبنهاور “فن العيش الحكيم” الكثير من المساعدة، بعبارة أخرى: ما عساه يكون الترياق لكل أوجاع الإنسان إن لم تكن الفلسفة؟! 

يجب أن يفهم الناس أيضاً أنهم جميعاً سواسية، يعيشون معزولين في كوكب واحد، ويربطهم مصير واحد مشترك، وأن مصلحة بنغلادش والفلبين مثلاً من مصلحة أميركا وأوروبا؛ يجب ألا ينتظروا حتى تحترق الغابات، وتغرق المدن، ويتضرر الطلب العالمي على الماء والغذاء، وتبدأ مواسم الهجرة لكي يفهموا ذلك، عليهم أن يفهموا ذلك الآن.   

عمليّاً، سيبوء كل هذا بالفشل، ولن يتمكّنوا من تجنّب خطر الانقراض الجماعي، وذلك لأسباب عدة:

أولاً: لن يتقشّف الناس، ولن تخفّ وتيرة جوعِهم وتَطلُّبِهم، لأنهم مغرّر بهم، لأنهم يُولدون أطفالاً، كسالى، عُرضة للتلاعب والتوجيه، كل شيء حولهم هو عبارة عن ماكينة للتلقين، وينطوي على خديعة تصبّ في مصلحة النظام الاقتصادي السياسي، لقد سلبوهم القدرة على الشك، سلبوهم حتى الوقت للتوقف وإعادة النظر في حياتهم وابتكارها. دولُ العالم كانت ولا تزال أشبه بالحظائر، الفروق بينها فروق تقنية.

كي يكتشف الناس أنفسهم ويعيدوا النظر في كل شيء يحتاجون إلى الفلسفة، لكن كيف؟ والمنظومة التعليمية في دول العالم تَعتبرُ التلقينَ تعليماً؟ تُخرّج مدارس العالم وجامعاتها عمالاً وموظفين، رؤساء شركات ومرؤوسين، لكنّها لا تُخرّج الحكماء ولا تتبنّى الحكمة.

ثانياً، حتى إن تفلسفَ الناس، وأعادوا ابتكار حياتهم، واكتشفوا أن هويتهم عالميّة وأن للإنسان مصير واحد، فلن يسمح النظام الاقتصادي لهم بذلك، لن يرضى بالتوازن في القوة، لأنه رأسمالي.

لن يخاطر نظام اقتصادي تقوم ثروتهُ على مبدأ التفرقة واستغلال الطبيعة والجهد الإنساني بنفسه وببقائه وبآلية عمله وبمصلحة أغنيائه لأجل مصلحة الأجيال القادمة، لن يتخلى الأقوياء عن قوة صنعوها وتوارثوها بحجّة أن الكوكب في خطر.

لن تقوم الدولة بالمساهمة في إقناع الناس بعدم الانصياع للدعاية التي يوجّههم من خلالها أصحاب رؤوس الأموال، لن تقوم الدولة بتشجيع الناس على الحد من استهلاكهم للبضائع والسلع لأنها مستفيدة ومتورطة، ولأن هذا قد يعرّض الدولة لخطر توقّف الناس عن الاقتراض والعمل، إذ لماذا سيعمل الناس إن لم يكن هناك حاجات أو رغبات مادّية في حياتهم؟ وكيف سيعمل الناس إن أغلقت المصانع أبوابها؟ 

هل يمكن إصلاح نظام اقتصادي يشجّع على التنافس والأنانية والجشع لغرض مراكمة الثروة والتباهي، وجعله أكثر حكمة واستدامة؟ هل يمكن للرأسمالية أن تكون بيئة للتكافل والحب؟ 

إنها مُغلقة من كل النواحي، لا الفرد يمتلك زمام حياته بعد أن تم تلقينه بما يجب أكله وشربه وفعله، ولا للدولة مصلحة في تعليمه الشكّ فيما تلقّنه إياه، ولا للرأسمالية مصلحة في أن يكف الناس عن الاقتراض والاستهلاك، وبالتالي لن يتمكّن أحد من خفض انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة. ولأن الجميع أبرياء وعاجزون فقد انتهى أمرنا تماماً. 

مَن قال إن الناس يريدون الحياة؟ هذا ادّعاء يفتقر للأدلة، إنهم يتعاملون مع الحياة، لكنهم لا يريدونها. من يريد الحياة يجب أن يكون متيقَظاً للأسباب التي تؤدي إلى انهيارها، والناس غير متيقّظين، ليس هناك دليل واحد يؤكد هذا، الظاهر أنهم يريدون أن تمر الحياة بأسرع وقت ممكن، لأنه كلما طال وجودهم في هذا العالم، ازداد الفقراء ألماً، وازداد الأغنياء ضجراً وكآبة. 

لقد هربَ الناس، من أنفسهم، إلى الوهم؛ هربوا، من حقيقة أن الوجود الإنساني مؤلم، إلى الوهم الذي يبيعهم إياه الآخرون، لهذا فلا مفرّ. طالما أن الناس ضعفاء أمام النفس، ضعفاء أمام حبهم لكل ما في العالم من تسالي وأوهام عدا الحياة نفسها، وهذا الضعف أمام النفس هو الموت بعينه. 

من يراقب الناس وقت التنزيلات على البضائع، يستطيع أن يعرف أي مستقبل ينتظرهم، خُوفهم من التوقّف والشكّ أكبر من خوفهم من الموت. 

لا يفتقر البشر إلى التقنيّة، بل يفتقرون إلى الحكمة الكافية لتجاوز أزمة المناخ؛ لقد فشل البشر لشدة الذكاء وبلادة الشعور بالجمال والمسؤولية إزاء الحياة والطبيعة، وهذه شهادة وفاتهم. لقد أعلن نيتشه موت الإله، وعلى أحدهم عاجلاً أم آجلاً أن يعلن موت الإنسان. 

لقد احتقر البشر الإله الحقيقي الذي يجعل الحياة ممكنة، ألا وهو توازن النظام الطبيعي. تطوّرَ البشر تقنياً، لكنهم لم يتطورواً أخلاقياً، ليس هناك جنس الحكمة والتوازن في علاقة الإنسان بالعالم، كان المفروض أن يتفاعل البشر مع بعضهم والعالم بطريقة متناغمة مستدامة طالما أن الكون يعمل بطريقة متناغمة، لكنهم سقطوا في هوياتهم الجغرافية الدينية العرقية الطائفية الصغيرة، ولن يستطيع أحد أن ينقذهم. كل الآلهة تفشل أمام حماقة هذا الحيوان الجاحد المتحزّب الذي نخجل أن ننتمي إليه.

أرجو أن يكون هناك ولو بصيص ضوء صغير يعلّق عليه الناس آمال حياتهم ويبررون به ألمهم والمعاناة، أتمنّى لو تكون أزمة الاحتباس الحراري أزمة تقنيّة لا تتطلّب أكثر من مجرّد حلّ تقنيّ، وألا يضطر الناس صاغرين أن يُعيدوا النظر في سلوكهم السياسي والاقتصادي وعلاقتهم مع الطبيعة والعالم… لكن للأسف، يبدو أنهم سيتألمون أكثر، ولن يستطيع حتى إله أن ينقذهم، لا مِن بلادتهم ولا من أزمة خطيرة كالتي يُقبلون عليها، لقد تعرّضوا للخديعة، هذه مسؤوليتهم، ولا يسعني إزاءها إلا أن أراقب بحزن، وأراقب بغضب. 

إقرأوا أيضاً:

21.08.2022
زمن القراءة: 13 minutes

يريد منا العلماء كي نحيا ونستمر أن نشعر بالمسؤولية تجاه أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه، ونكون ناضجين في التعامل مع جوعنا وبلادة أحاسيسنا وفراغ أرواحنا الشديد، وهذي هي المشكلة!

نعيش في عالم متحلّل، فاسد، يتداعى من كل جانب من جوانبه، تَحكمه غرائز وانفعالات، يكاد لا يكون للحكمة فيه أي متّسع أو مكان، يَدين للتنافس والتدافع بدل التكافل والانسجام، ينشغل فيه البشر حتى أخمص أقدامهم لتحقيق ما هو مفرط في ذاتيّته، ولأجله يبذلون الغالي والنفيس، وقد أفسد ذلك عقولهم وأفسَدَ العالم الذي يعيشون فيه؛ ولأننا لن نستطيع -قبل فوات الأوان- تحقيق وعي وهويّة كونيّة للإنسان، فقد انتهى أمرنا تماماً. 

الحقيقة هي أن نوعنا “الذكي” على أبواب انقراض جماعي، لن تستطيع لا آلهة ولا أقوى الأمم، ولا أذكاها، ولا أكثرها تحضّراً وتطوّراً أن تحرفه عن مساره.

إننا في خضم أزمة عالمية، جادّة، معقّدة، كبيرة، وخطيرة، ينبغي أن تكون حاضرة في كل نقاشاتكم؛ لا معنى لكل ما ندّعي السعي إليه، لا معنى للتاريخ بكل ما فيه، لا معنى لـ “الحضارة” التي لا تعدو أن تكون طبقة من الماكياج الرخيص. لا معنى لـ “التقدّم” الذي يستعبدُ بعضكم بعضاً بحجّة السّعي إليه، لا معنى لمستقبل البشرية إن كانت هذه “البشرية” معزولة في كوكب يستحيل أن تغادره، وفي الوقت نفسه تَستحقر ما يجعل الحياة فيه ممكنة، وتسير بنفسها نحو الموت الذي لا قيامة بعده!

لا يفتقر البشر إلى التقنيّة، بل يفتقرون إلى الحكمة الكافية لتجاوز أزمة المناخ؛ لقد فشل البشر لشدة الذكاء وبلادة الشعور بالجمال والمسؤولية إزاء الحياة والطبيعة، وهذه شهادة وفاتهم. لقد أعلن نيتشه موت الإله، وعلى أحدهم عاجلاً أم آجلاً أن يعلن موت الإنسان. 

مثير للسخرية كيف وقَع الناس -وكأنّه شغفُ المراهقين- في غرام صور التلسكوب التي انتشرت قبل مدة والتي تظهر الكون!  بَدا البشر لوهلة وكأنّهم جادّون في رغبتهم بمعرفة كيف بدأ الكون! وخيالهم يَسرح: إلى أيّ الكواكب الصالحة للعيش يا ترى ستأخذنا حكوماتنا لإعمارها ونشر الحضارة؟!  في حين أن المنزل الوحيد، المهيّأ سَلَفاً بكل ما يحتاجون إليه، يحترق!

هل الإنسان جادّ حقاً؟ هل يجرؤ ويريد فعلاً النظر إلى نفسه وعالمه من الأعلى؟ هل هو مستعد ليُعيد النظر في مسائل وجوده، أن يعيد ابتكار نفسه، هويّته، حياتِه القصيرة، مُستقبلِهِ، سعادته، على ضوء ما تكشفه الصورة الكبيرة؟ هل يجرؤ على النظر لوحدهِ بمعزل عن إملاءات سلطة سكان الأرض بكل أشكالها عليه؟ حسناً ماذا يرى؟ 

بكتيريا تستوطن مكاناً رطباً يطفو بالقرب من نجم “متوسّط” الحجم، تفوح منّا ومن عالمنا رائحة العفن والرطوبة، هذه حقيقتنا التي لا يستطيع أحد أن ينكرها.

وجودنا الرطب هذا مَدين لعلاقات توازن دقيقة جداً، تشمل الظروف الخارجية للأرض، ويستمرّ تأثيرها حتى يطرأ على كل الأحياء والأشياء داخلها، فلا الأرض قريبة من الشمس لتحترق وتذوب، ولا هي بعيدة كي تتجمّد من البرد والوحدة.

هذا التوازن إذاً هو “الله” الحقيقي الذي يحمي هذا العالم من أن ينهار، بدونهِ لم يكن شيء ليوجد على الإطلاق، لا إله إلا هو.

والتوازن يعني المساواة والعدالة في توزّع القوّة، غير أن الإنسان، لشدة جهله وكسله وجشعهِ غافلٌ عن حقيقة العالم الذي يعيش فيه، لذا يُخِلّ بتوازن القوّة الإلهيّ الدقيق هذا، ويُؤذِن بانهيار كل شيء.

يَعزو العلماءُ الأسبابَ التقنية لمشكلة الاحتباس الحراري إلى ارتفاع نسبة الكربون وجملة من الغازات الدفيئة الأخرى كالميثان في الغلاف الجوي، الأمر الذي يتسبب باحتباس الحرارة، ويَحول دون قدرة النظام الطبيعي للأرض على تبريدها، ما يؤذن بخطر انحسار جليد القطبين، ارتفاع مستوى سطح البحر، اضطرابات الأمطار والفصول، توسّع الصحراء، انتشار الحرائق والفيضانات، دفع الأنواع الأخرى باتجاه الانقراض، فقدان التنوّع البيولوجي، وبالتالي تدهْوُر النظام الطبيعي للأرض، وتحوُّلها إلى بيئة عدائية غير داعمة للحياة.

خمس حالات انقراض جماعي حدثت في تاريخ الأرض جميعها كانت مرتبطة بزيادة نسبة الكربون في غلافها الجوي؛ سابقاً كانت البراكين هي المُسبّب لحالة الانهيار الحيوي، وكانت العملية تتطلب نشاطاً بركانياً مستمراً لملايين السنين؛ اليوم تُطلق مصانعنا ومزارع تربية الحيوانات من ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة ما تسبّب -خلال أقل من 200 عام فقط- بإحداث خلل في بنية النظام الطبيعي. 

يتحدّث العلماء أيضاً عن بصيص أمل، عن باب بالكاد لا يزال مفتوحاً لتجنّب الكارثة خلال عقد من الزمن كحد أقصى، وذلك عبر خفض انبعاثاتنا من الكربون والغازات الدفيئة عن طريق التخلي عن الوقود الأحفوري، والتوقف عن تدمير الطبيعة، والتخلّي عن شبقنا الحادّ تجاه البروتين الحيواني، وترشيد استهلاكنا واستنزافنا الموارد الطبيعية… 

بعبارة أخرى يريد منا العلماء كي نحيا ونستمر أن نشعر بالمسؤولية تجاه أنفسنا والمكان الذي نعيش فيه، ونكون ناضجين في التعامل مع جوعنا وبلادة أحاسيسنا وفراغ أرواحنا الشديد، وهذي هي المشكلة!

لعلّ أخطر ما يميّز أزمة الاحتباس الحراري ليس عالميّتها، هناك الكثير من الأزمات ذات الطابع العالمي، غير أن هذه الأزمة العالمية بالذات هي شخصية جداً تمسّ صميم العلاقة بين الإنسان والعالم، إنها أزمة تبدأ من الفرد، ويتحمّل مسؤوليتها كل واحد منا على انفراد، وتدور كل تجلّياتها حول سؤال رئيسي ومفصلي: ماذا تريد أيها الإنسان؟ وبأيّ ثمن؟!  

العالم متصل ببعضه بشكل وثيق، ومصير الإنسان فيه واحد، وتصوّرات كل واحد منا فيه، والطريقة التي يحيا بها كل شخص منا تنعكس على شكل العالم ككل. اسأل الناس عن حقيقة ما يريدون وستعرف مستقبل الاقتصاد والسياسة، وبالتالي مستقبل النوع والحياة كلها.

يريد الناس استهلاك المزيد والمزيد من البروتين الحيواني، والمزيد من الطاقة لجني المال وتشغيل المنزل والسيارة، والكثير من الألبسة والأشياء غير النافعة التي تدور في فلك استعراض الذات والتي سيتركونها وراءهم بعد أن يموتوا، يدفعون المال الذي حصلوا عليه بشقّ الأنفس، وتجني الشركة المنتجة والدولة الكثير من الأرباح، ثم يدفع كل سكان الأرض لاحقاً فاتورتها الحقيقية على شكل غاز سام يلوث الهواء الذي يتنفسونه، وبالتالي انهيار في طبيعة النظام الحيوي. 

لا ينبغي النظر إلى مشكلة الاحتباس الحراري على أنها ازدياد في نسبة الكربون والغازات الدفيئة في الغلاف الجوي فحسب، بل على العكس تماماً، هذه مجرّد نتيجة، عرض من أعراض مرض ذاتي أكثر خطورة، إن مشكلة الاحتباس الحراري هي مشكلة روحية في المقام الأول.

الحضارة الإنسانية مصابة بالسرطان في وجدانها، وهي اليوم تواجه خطر الانهيار الكامل بسبب الهوية المزيّفة للإنسان، جوعه الشديد، أنانيته المفرطة، تنافسه الشرس، جشعه البغيض، افتقاره للنضج، قلة إحساسه بالجمال، عدم قدرته على التعاطف، همجيّته، هوَسِه بذاته، احتقاره للعالم الطبيعي، وعبادته المتفانية للشهوة واللذة والمال. 

يدّعي الناس أنهم من وراء هذا يُريدون “السعادة”، لكنّ واقع الأمر يوحي بأنهم يتخلّون عنها لِيَجنوا التعاسة والألم، فالتعريف الذي يدّعونه للسعادة غير نابع من أنفسهم، بل تمّت صياغته برعاية الحكومة وتلقينهم إياه، وهنا بالضبط يكمن السبب الأكثر شخصيّة لأزمة الاحتباس الحراري، ألا وهو عدم استقلالية الوعي والضمير الإنساني، وقبول العالم مثلما هو عليه بدل مُساءَلته والشك فيه، والذي بدوره ناجم عن خوف الناس وجُبنهم وكسلهم عن استخدام عقلهم الخاص، والاعتماد في الكشف عن حقيقة (مَن نحن؟ وماذا يجب أن نفعل؟ وكيف يجب أن نعيش الحياة؟) على ما يُلقّنه إيّانا الآخرون.

تبدأ قصة تَبَعيّة الوعي والضمير الإنساني -التي هي بدورها القصة الأكثر شخصية لأزمة الاحتباس الحراري- تبدأ بمجرّد أن نُولد أطفالاً، حيث تبدأ عملية تدجيننا، يعلّموننا اللغة لتسهيل عملية تعبئتنا وشحننا بكل أنواع الهراء الكلامي المقدَّس وغير المقدّس، يُلقّنوننا تلقيناً، ليس هناك جهاز تعليمي واحد في الدولة يجرؤ على تعليمنا الشك فيما يدّعي، يُعلّموننا الولاء مثلما يُعلّمون الكلاب، للأسرة التي وُلدنا لها مصادفةً، واللون الذي اختارته الحياة لنا، والمكان الجغرافي الذي صادفَ أنْ خرجنا فيه من أرحام أمهاتنا.

تملأ السلطة -التي تبدأ من الأسرة- عبر جهازها اللغوي المعقّد (قوامُه مجموعة من القصص والأساطير عن عائلة ودِين وأمة خير من باقي الأمم) رؤوسَنا بالهراء الذي سيشكّل لاحقاً هويتنا الصغيرة، والصندوق الذي ينبغي أن تُشكِّلَ حُدودُهُ حدودَ العالم الذي نعيش فيه. 

بعدها يبدأ تثقيفنا اقتصادياً: المال، معناه، قيمته الإلهية، وقدرته العجيبة على جعل الأشياء تحدث. ثم نتلقّى التشجيع لأجل “إثبات أنفسنا” من خلال السعي والتنافس الشرس لتحصيله واحترام أهله، فإما أن نصير -وفق هذا المعنى الضيق- رابحين للمال وبالتالي ناجحين، أو خاسرين فاشلين؛ ومن ورائنا تعمل السلطة الكبيرة الاقتصادية وممثلوها السياسيون على سنّ قواعد اللعبة.

ولفهم الموضوع أكثر نحتاج أن نمرّ على بُنية النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يحتاج لأموال الأغنياء كي يعمل، فمن خلال الضرائب التي يجنيها منهم يموّل المدارس والمشافي والنظام الاجتماعي بأكمله. 

للدولة مصلحة عند هؤلاء الكبار/النخبة/الناجحين الذين بدون أموالهم لا يستمر النظام ولا يعمل، إنهم فراعنة مصر المميّزون الأقوياء، إنهم عبيد الجَشَع الذي يحمل نظام هذا العالم الفاسد ويُديره، بدونهم لا وجود للأهرامات، أو ما يصطلح الناس على تسميته بـ “الحضارة”. 

تتوارث هذه النخبة -ويا للسخرية، حتى في المجتمعات الديموقراطية- المال/القوة مثلما يتوارث الملوك السلطة، جيلاً بعد جيل!! أما بقية المواطنين فيجب أن يبدؤوا من الصفر، أو حتى دونه، قيمة وجودهم مرهونة بالقدرة على حَمْل الطوب لبناء الهرم الأكبر، أو درّ الحليب.

للدولة الحديثة مصلحة في أن تزداد أعداد النخبة/الأغنياء وتزداد أموالهم، فتسنّ لصالحهم القوانين، وتدعمهم كي يزدادوا ثراءً واستفحالاً وقوة هذا في أحسن أحوال الدول “المتطورة” طبعاً. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قصة أكثر إثارة للاشمئزاز والقرف.  

إقرأوا أيضاً:

بروباغندا الدولة والدين

لكي تُقنع الدولة المواطنينَ- أطفالها السذّج- بالانصياع لهذه القواعد والالتزامات يتم تسخير المدارس، والجامعات، وأجهزة الإعلام، والصحافة، والدعاية والإعلان، والمحتوى المرئي والمسموع، إضافة إلى الشركاء الروحيين قادة الأديان الذين كانت ولا تزال تستعين بهم منذ فجر التاريخ، يعملون جميعاً كبروباغندا واحدة على قلب فاسد واحد لصياغة هويتنا الصغيرة، والغرض من وجودنا في العالم، ويُمثّل قبولنا بكل هذه الترّهات اختياراً نتحمّل مسؤوليته بأنفسنا حتى الموت.  

ولكي يَجمع النخبة/ التجّار المزيد والمزيد من المال الذي تُحبّه الدولة تتم الاستعانة بأهل العِلم والمعرفة، علماء النفس ورجال العلاقات العامة وخبراء تحليل بيانات السوق، هؤلاء هم عصب النظام الاقتصادي في العصر الحديث، تتم الاستعانة بهم لأجل هندسة وعيكم، ولا وعيكم حتى، يصنعون الرغبات الجديدة لكم كل يوم، يُغرقون بها شوارعكم وشاشاتكم وحتى مناماتكم، كي تتمسّكوا بالعالم، كي تتوقّفوا عن البكاء مثلما كنتم تفعلون حين كنتم صغاراً، كي تهربوا من أنفسكم إلى الأشياء، كي تواسوا أنفسكم جراء الوجود في العالم، كي لا تقتلوا أنفسكم، يُشجّعونكم ويُحرّضونكم من خلالها على عبادة المال، واحترام أهله، والتباهي به، والتنافس الحيواني الشرس لأجل حبّه وتحصيله، كي تُنفقوه على الشراء، فيستمرّ هو بالربح، ويستمر النظام، وتحصلون في المقابل على ما تسمّونه “السعادة”. 

ولأجل المال ينبغي أن تبيعوا أرواحكم، وسنين عمركم التي تُعاش لمرة واحدة فقط؛ والآن بعد أن أيقظ النظام الرأسمالي العالمي الشهوة النائمة داخلكم حتى صرتم مهووسين بذواتكم، ولأنّكم جوعى، وجوعكم يتم تحفيزه بالصوت والصورة، تحتاجون بالتالي إلى المزيد والمزيد من المال، وفي أحسن أحوال الدول “المتطوّرة” تحصلون على قرض من البنك، هناك توقّعون على سند عبوديتكم من أجل شراء ما ستتركونه وراءكم بعد الموت؛ يسمّي الفرنسيون هذا اللهاث داخل عجلة الفأر بـ “Gagner sa vie” أي: أن تكسب حياتك. 

هكذا يكسب إنسان العصر حياته، بأن يعيش فأراً، عبداً لمصلحة رغبة وهميّة أقحمَها النظام في رأسه، عبداً مفتوناً بصورتهِ الشخصية أمام العبيد الآخرين، يستمد طاقته من فهم محدود للهوية، ومن رغبة شديدة للتنافس، ومن عدم قدرته على الشكّ في أي شيء لأن الجميع حوله يفعلون ما يفعل، ومن عنجهيّة وجوع شديد للمال وإنفاقه، حتى لو كلّفه هذا السعي المحموم حياته ووجوده. 

هكذا يتألّم إنسان العصر، ينفق عمره ليشتري الأشياء، تُحرّكه الدعاية بمباركة النظام والدولة فيزداد جوعاً وفراغاً بقدر ما يزداد لذّة، يبحث عن سعادة لم يَعرفها بنفسه، عن لذّة آنية موجودة في الخارج تتطلّب اللهاث والألم بدل أن يبحث عنها في نفسه، هكذا يحتقر أنه يعيش بصحّة جيدة، ويحتقر أن الحياة نادرة وأنّ أثمن ما فيها هو الوقت، وبسبب غفلته هذه يزداد إلحاحاً وتطلّباً على الطبيعة ومواردها، فيدمّر حياته، ويدمّر كل شيء. 

لقد تخلى الناس عما يحتاجون، لمصلحة ما يريدون، وفرّطوا بما يملكون، لأجل ما يشتهون ويحلمون.

كيف لإنسان بهوية بحجم صندوق، وبمعرفة لا تتجاوز حدود اللغة والمال وخرائط الجغرافيا، وبفراغ روحي غائر وكأنه الثقب الأسود، وبلذّة أنانية جامحة لا يكاد يُشبعها شيء، كيف لانسان مُدجَّن أن يكون على دراية بالأبعاد الحقيقية التي تترتّب عن سلوكه المُفسد للعالم كله؟ إنه يبيع عمره لأجل الوهم، ويجلب لنفسه الشقاء دون أن يدري، إنه عبد لشهوته، يتخلى عن حرّيته والمسؤولية تجاه نفسه، فما بالك أن يكون واعياً للضرر الذي تُحدثه رغبته على الآخرين أو المناخ؟!

يريد شعب الصين وبقية شعوب العالم أيضاً أن يعيشوا بالطريقة التي يعيش بها أقرانهم الأميركيون والأوروبيون، يريد سكان العالم أن يعانوا بدورهم السكري والبدانة جراء شبق الألبان واللحوم، لينفقوا خزينة الدولة في ما بعد على الرعاية الصحية لإصلاح ما أفسده “ماكدونالدز” والآخرون، يريدون الاقتداء بالتعريف الأوروبي- الأميركي للسعادة، ولن يكفي كوكب أرض واحد، نحتاج إلى كواكب أخرى لسد الفراغ العميق الكامن في قلب هذا الكائن المسعور وضميره.

تعريف الإنسان المعاصر للسعادة هو سبب رئيسي لمشكلة الاحتباس الحراري، كل ما يتجلّى بعد ذلك في الواقع العملي من غازات وإشعاعات وتلويث وتدمير… ما هو إلا نتيجة لهذه المشكلة السلوكية/ الذهنية/ النفسية/ الروحية العميقة. 

الطريق إلى الزهد…

نظريّاً، إذا ما أراد النوع البشري أن يستمرّ وقتاً أطول، وإذا ما أرادت “الحضارة” أن تكون متحضّرة فعلاً فعليها أن تتوازن سياسياً واقتصاديّاً، وأن يتقشّف سكان العالم ويكونوا زاهدين، ويخفّضوا استهلاكهم إلى الحدّ الأدنى من كل شيء، بحيث يقتصر على أكثر ما يحتاجون إليه إلحاحاً، لا على ما يرغبون. 

بهذه الطريقة يقل استنزاف الناس للموارد، وتقلّ حاجتهم للمال، ويقل اضطرارهم لبيع المزيد من جهدهم، وبالتالي يكسبون الصحة النفسية والجسدية، والأهم يكسبون المزيد من الوقت للتأمل في أحوال الكواكب والنجوم. وقت الفراغ أثمن من كل شيء، وما الحياة إلا المزيد من الوقت الذي يُعاش مرة واحدة فقط.

يتضمّن هذا التقشّف أن يتّبع البشر نظاماً غذائياً نباتياً بشكل صارم ونهائي، فالمصدر الحيواني للتغذية فاتورته على الطبيعة كبيرة وخطيرة، هذا علاوة على الضرر الصحي الذي يتسبّب به؛ كذلك ينبغي أن يتخلى الناس عن السيارة، ويعتمدوا على مصادر الطاقة الأقل ضرراً، ويتوقّفوا عن شراء المزيد من الأثاث والثياب لغرض التباهي.

لكن، لأجل تحقيق هذا ينبغي على الناس أولاً أن يكونوا أحراراً، أسياد أنفسهم، وأصحاب القرار على حياتهم، يجب أن تتحرّر عقولهم عن إملاءات السلطة عليهم، وأن يعيدوا النظر في كل شيء، حرّيتهم، نطاق مسؤوليتهم، حياتهم، الغرض منها، وكيف ينبغي أن تعاش الحياة، وما هي السعادة. قد يقدّم كتاب شوبنهاور “فن العيش الحكيم” الكثير من المساعدة، بعبارة أخرى: ما عساه يكون الترياق لكل أوجاع الإنسان إن لم تكن الفلسفة؟! 

يجب أن يفهم الناس أيضاً أنهم جميعاً سواسية، يعيشون معزولين في كوكب واحد، ويربطهم مصير واحد مشترك، وأن مصلحة بنغلادش والفلبين مثلاً من مصلحة أميركا وأوروبا؛ يجب ألا ينتظروا حتى تحترق الغابات، وتغرق المدن، ويتضرر الطلب العالمي على الماء والغذاء، وتبدأ مواسم الهجرة لكي يفهموا ذلك، عليهم أن يفهموا ذلك الآن.   

عمليّاً، سيبوء كل هذا بالفشل، ولن يتمكّنوا من تجنّب خطر الانقراض الجماعي، وذلك لأسباب عدة:

أولاً: لن يتقشّف الناس، ولن تخفّ وتيرة جوعِهم وتَطلُّبِهم، لأنهم مغرّر بهم، لأنهم يُولدون أطفالاً، كسالى، عُرضة للتلاعب والتوجيه، كل شيء حولهم هو عبارة عن ماكينة للتلقين، وينطوي على خديعة تصبّ في مصلحة النظام الاقتصادي السياسي، لقد سلبوهم القدرة على الشك، سلبوهم حتى الوقت للتوقف وإعادة النظر في حياتهم وابتكارها. دولُ العالم كانت ولا تزال أشبه بالحظائر، الفروق بينها فروق تقنية.

كي يكتشف الناس أنفسهم ويعيدوا النظر في كل شيء يحتاجون إلى الفلسفة، لكن كيف؟ والمنظومة التعليمية في دول العالم تَعتبرُ التلقينَ تعليماً؟ تُخرّج مدارس العالم وجامعاتها عمالاً وموظفين، رؤساء شركات ومرؤوسين، لكنّها لا تُخرّج الحكماء ولا تتبنّى الحكمة.

ثانياً، حتى إن تفلسفَ الناس، وأعادوا ابتكار حياتهم، واكتشفوا أن هويتهم عالميّة وأن للإنسان مصير واحد، فلن يسمح النظام الاقتصادي لهم بذلك، لن يرضى بالتوازن في القوة، لأنه رأسمالي.

لن يخاطر نظام اقتصادي تقوم ثروتهُ على مبدأ التفرقة واستغلال الطبيعة والجهد الإنساني بنفسه وببقائه وبآلية عمله وبمصلحة أغنيائه لأجل مصلحة الأجيال القادمة، لن يتخلى الأقوياء عن قوة صنعوها وتوارثوها بحجّة أن الكوكب في خطر.

لن تقوم الدولة بالمساهمة في إقناع الناس بعدم الانصياع للدعاية التي يوجّههم من خلالها أصحاب رؤوس الأموال، لن تقوم الدولة بتشجيع الناس على الحد من استهلاكهم للبضائع والسلع لأنها مستفيدة ومتورطة، ولأن هذا قد يعرّض الدولة لخطر توقّف الناس عن الاقتراض والعمل، إذ لماذا سيعمل الناس إن لم يكن هناك حاجات أو رغبات مادّية في حياتهم؟ وكيف سيعمل الناس إن أغلقت المصانع أبوابها؟ 

هل يمكن إصلاح نظام اقتصادي يشجّع على التنافس والأنانية والجشع لغرض مراكمة الثروة والتباهي، وجعله أكثر حكمة واستدامة؟ هل يمكن للرأسمالية أن تكون بيئة للتكافل والحب؟ 

إنها مُغلقة من كل النواحي، لا الفرد يمتلك زمام حياته بعد أن تم تلقينه بما يجب أكله وشربه وفعله، ولا للدولة مصلحة في تعليمه الشكّ فيما تلقّنه إياه، ولا للرأسمالية مصلحة في أن يكف الناس عن الاقتراض والاستهلاك، وبالتالي لن يتمكّن أحد من خفض انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة. ولأن الجميع أبرياء وعاجزون فقد انتهى أمرنا تماماً. 

مَن قال إن الناس يريدون الحياة؟ هذا ادّعاء يفتقر للأدلة، إنهم يتعاملون مع الحياة، لكنهم لا يريدونها. من يريد الحياة يجب أن يكون متيقَظاً للأسباب التي تؤدي إلى انهيارها، والناس غير متيقّظين، ليس هناك دليل واحد يؤكد هذا، الظاهر أنهم يريدون أن تمر الحياة بأسرع وقت ممكن، لأنه كلما طال وجودهم في هذا العالم، ازداد الفقراء ألماً، وازداد الأغنياء ضجراً وكآبة. 

لقد هربَ الناس، من أنفسهم، إلى الوهم؛ هربوا، من حقيقة أن الوجود الإنساني مؤلم، إلى الوهم الذي يبيعهم إياه الآخرون، لهذا فلا مفرّ. طالما أن الناس ضعفاء أمام النفس، ضعفاء أمام حبهم لكل ما في العالم من تسالي وأوهام عدا الحياة نفسها، وهذا الضعف أمام النفس هو الموت بعينه. 

من يراقب الناس وقت التنزيلات على البضائع، يستطيع أن يعرف أي مستقبل ينتظرهم، خُوفهم من التوقّف والشكّ أكبر من خوفهم من الموت. 

لا يفتقر البشر إلى التقنيّة، بل يفتقرون إلى الحكمة الكافية لتجاوز أزمة المناخ؛ لقد فشل البشر لشدة الذكاء وبلادة الشعور بالجمال والمسؤولية إزاء الحياة والطبيعة، وهذه شهادة وفاتهم. لقد أعلن نيتشه موت الإله، وعلى أحدهم عاجلاً أم آجلاً أن يعلن موت الإنسان. 

لقد احتقر البشر الإله الحقيقي الذي يجعل الحياة ممكنة، ألا وهو توازن النظام الطبيعي. تطوّرَ البشر تقنياً، لكنهم لم يتطورواً أخلاقياً، ليس هناك جنس الحكمة والتوازن في علاقة الإنسان بالعالم، كان المفروض أن يتفاعل البشر مع بعضهم والعالم بطريقة متناغمة مستدامة طالما أن الكون يعمل بطريقة متناغمة، لكنهم سقطوا في هوياتهم الجغرافية الدينية العرقية الطائفية الصغيرة، ولن يستطيع أحد أن ينقذهم. كل الآلهة تفشل أمام حماقة هذا الحيوان الجاحد المتحزّب الذي نخجل أن ننتمي إليه.

أرجو أن يكون هناك ولو بصيص ضوء صغير يعلّق عليه الناس آمال حياتهم ويبررون به ألمهم والمعاناة، أتمنّى لو تكون أزمة الاحتباس الحراري أزمة تقنيّة لا تتطلّب أكثر من مجرّد حلّ تقنيّ، وألا يضطر الناس صاغرين أن يُعيدوا النظر في سلوكهم السياسي والاقتصادي وعلاقتهم مع الطبيعة والعالم… لكن للأسف، يبدو أنهم سيتألمون أكثر، ولن يستطيع حتى إله أن ينقذهم، لا مِن بلادتهم ولا من أزمة خطيرة كالتي يُقبلون عليها، لقد تعرّضوا للخديعة، هذه مسؤوليتهم، ولا يسعني إزاءها إلا أن أراقب بحزن، وأراقب بغضب. 

إقرأوا أيضاً:

21.08.2022
زمن القراءة: 13 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية