ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“الاستشراق الجهادي”: هيئة تحرير الشام المفرطة في “البراغماتيّة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يرى الكتاب أن أحمد الشرع هو “الكاريزماتي” القادر على القيادة والمهادنة، وصوله إلى دمشق أشبه بالانتقال إلى “نوع من أنواع البونابارتيّة” بعد ثورة دموية، فأبو محمد الجولاني الذي لم يسجنه النظام السوريّ أبداً، تمكن من محاربة الخصوم وتوحيد القوى وضم الفصائل، هو ومن حوله، كعبد الرحيم عطون، الذي يتكرر اسمه في الكتاب، قادوا جهود إنهاء التكفير، والإصلاح الديني، وخلق التوازنات مع المجتمع المحليّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تأخر صدور كتاب “تحوّل بفعل الناس: طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا” مرات عدة قبل أن يُصبح متوافراً للقرّاء، ربما لأن المؤلفَّين، جيروم دريفون وباتريك هيني، أرادا إضافة بعض التعديلات، أو انتهاء معركة “ردع العدوان” التي سقط بعدها النظام السوري، فهما على علاقة وطيدة مع الهيئة، منذ أن كانت جبهةً، ولا بد من “حفظ الودّ”.

صدر الكتاب أخيراً، على غلافه يظهر أحمد الشرع “الذي لم تستهدفه أميركا أبداً في سوريا”، واخترنا أن نبدأ القراءة من الصفحة الأخيرة، لأن الكتاب يقارن تحولات “هيئة تحرير الشام” بـ”مسار الثورة الفرنسية”، بصورة أدق رد فعل مجموعة من النواب الفرنسيين الذين قاموا بثورة ضد حكم ماكسيميليان روبسبيير أو من يُعرفون بـ ترميدورين الذين كان هدفهم “إنهاء الحكم الثوري الراديكالي، والتراجع عن التمسك المتعنّت بالنصوص والمبادئ، وإنهاء حكم الرعب”. هذه المقارنة، تبناها الكاتبان لأن الأدبيات الإسلامية وأدبيات الإسلام السياسي والجهاد “لا تكفي” لقراءة تحولات الهيئة!

إذاً، لم تكف الأدبيات التقليديّة، ونحن أمام مرجعيات الثورة الفرنسية، لذا نبدأ من النهاية لنطلع على “القطاع” الذي تتحرك ضمنه القراءة التي يقدمها الكتاب، لكن ما يثير الانتباه هو “المراجع” المستخدمة، أي مصادر المعلومات والآراء حول تحوّل الهيئة وموقفها، وهنا بعضها: “مقابلة مع ناشط في إدلب، مقابلة مع مسؤول أمني في تركيا، مقابلة مع أحد أعضاء هيئة تحرير الشام، مقابلة عبر واتسآب، لقاء مع أحمد الشرع، مقابلة مع طيف واسع من المدنيين بين 2012 و2015، مقابلة مع عبد الرحيم عطون…الخ”.

نحن أمام طيف واسع من “المقابلات” للحصول على معلومات وآراء على ألسنة مجاهيل أو أشخاص لا يمكن أن نثق بما يقولونه لأسباب كثيرة، وهنا المريب، باحثان يحاولان قراءة تحولات كيان سياسي-جهادي على ألسنة مؤسّسيه! لكن المفارقة، أن “المراجع” عن الثورة الفرنسية لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.

يشير الباحثان في بداية الكتاب إلى الريبة التي قد تحيط بالقرّاء (وأنا منهم) بسبب علاقتهما مع الهيئة، العلاقة التي وصفاها بأنها بدأت من “الأعلى”، أي القيادات، والتي وجدت فيهما “مصداقية” كونهما متخصِّصين في الجهاد والإسلام السياسي.  كما يشير الباحثان الى أنهما يتناولان الهيئة وأداءها السياسي فقط، ولن يكون مركز التحليل “ممارسات الانضباط”، أي “العنف السياسي وحقوق الإنسان”! فالتركيز على “براغماتيّة” الهيئة وقدرتها على التحول إلى نظام حاكم.

وقال له كن “براغماتياً”… فكان!

وصف أحمد الشرع في لقاء معه “البراغماتية” بأنها ذات معانٍ سلبية في اللغة العربية، لكنها ملتصقة بالشرع والهيئة، إذ تتكرر وتصريفاتها في الكتاب ذي الـ300 صفحة ونيف، نحو 55 مرة، أي بمعدل مرة واحدة كل 5 صفحات، معلومة لا قيمة لها هكذا، لكن في سياق الكتاب، يتضح أن معناها غامض، هناك دوماً، تحول براغماتي، خيار براغماتي، ليضيع معنى الكلمة، ما هي “البراغماتية ” المقصودة؟

الواضح أن الكتاب، ليس لقارئ العربيةّ، بل لقارئ “غربي” قد يعجبه تحول الجماعة الراديكالية من أقصى اليمين التكفيري إلى الوسط المحافظ المتشدد، بصورة ما، لا تتحرك الجماعة الجهادية خارج طيف اليمين الإسلامي، والكتاب يركز على الانتقال من جماعة جهادية متشددة (جبهة النصرة) إلى سلطة تحكم وتسيير شؤون الناس  (حكومة الإنقاذ).

وهنا تأتي مقاربة استشراقية (ربما)، ولا نقصد فقط المقارنة بالثورة الفرنسية وتحولاتها، بل غياب معنى واضح للبراغماتية التي يُنعت بها الشرع، في حين رفاق السلاح، كعمر أومسين، ينعتون أبو محمد الجولاني بـ”الثعلب”،  يمتد الأمر إلى نوع من الاحتفاء بـ”فرادة” تجربة الهيئة، بوصفها حققت ما لم تحققه أي جماعة جهادية أخرى، أي التخلي عن الجهاد العالمي، الخطر الأكبر الذي قامت ضده الحرب على الإرهاب، بالإضافة إلى الابتعاد عن السلفية ونيل تأييد “الغالبية الصامتة” وتوطين نفسها ضمن “البيئة المحلية”، التحول سمّاه الباحثان “الثورة الصامتة”، التي قادها الشرع ببراغماتية مفرطة!

رجال حول الشرع

يرى الكتاب أن أحمد الشرع هو “الكاريزماتي” القادر على القيادة والمهادنة، وصوله إلى دمشق أشبه بالانتقال إلى “نوع من أنواع البونابارتيّة” بعد ثورة دموية، فأبو محمد الجولاني الذي لم يسجنه النظام السوريّ أبداً، تمكن من محاربة الخصوم وتوحيد القوى وضم الفصائل، هو ومن حوله، كعبد الرحيم عطون، الذي يتكرر اسمه في الكتاب،  قادوا جهود إنهاء التكفير، والإصلاح الديني، وخلق التوازنات مع المجتمع المحليّ.

الشرع و”رجاله” لم يقطعوا العلاقة مع الجهاد العالمي فقط، بل أيضاً الثورة السورية، وبعد سريان “اتفاق خفض التصعيد” عام 2019،  بدأ التحولات، من معاداة النظام حتى احتواء “الثورة السورية”، وخفض التشدد،  كُلهم “براغماتيون” لأجل إقامة الحكم، وهنا بالضبط المفارقة، لطالما كان تحوّل الميليشيا إلى دولة إشكاليّاً، بل حتى تدخلها بالحكم، حماس وحزب الله والحوثيون كلهم أمثلة شديدة الوضوح. لكن، الهيئة مختلفة، والشرع ورجاله ليسوا كأحد، وطبعاً لا يمكن القيام بانتخابات شعبية في أي مرحلة من المراحل، للحجة ذاتها التي استُخدمت في تعيين أعضاء مجلس الشعب، لا بد من إحصاء!

هذه التقنية في الإبعاد والاحتواء منذ الجبهة حتى حكومة الإنقاذ، تبنّى عبرها الشرع ما سمي بـ”الصبر الاستراتيجي” حسب الكتاب، الذي لم يخلُ من “مناوشات تكتيكية” مع الفصائل الأخرى، لكن ألم تطبق هذه التقنية ولو بصورة مختلفة الآن، بإبعاد حسن صوفان الذي أصبح أقرب الى محامي دفاع فادي صقر، وإبعاد أحمد الدالاتي بعد مجازر السويداء، ألم يُضحِّ الشرع بـ”براغماتية” بقادة “أحرار الشام”؟

لا إنكار أن الهيئة تمكنت من إبعاد الأكثر تشدداً بأساليب متنوعة كما حصل مع تنظيم “حراس الدين” الذي وصل الاتفاق معهم بعد “المناوشات” والاعتقالات والتضييق إلى امتناعهم عن المشاركة في الحياة المدنيّة، وفي حالات أخرى استهداف القادة العسكريين، أو اعتقالهم كما حصل مع أبو مالك التلي، والقوى الضاربة بيد الهيئة ضد “خصومها” هي جهاز الأمن العام، المنبثق من جبهة النصرة وهدفه “محاربة الإرهاب ومطاردة عناصر داعش والقاعدة”، الجهاز ذاته الذي فتح باب التطوع فيه بعد فرار الأسد!

حتى بعد تأسيس حكومة الإنقاذ، بقيت الهيئة في الخلفية، تعيد تشكيل المؤسسات المدنية، وتفوّض لها بعض السلطات، لكن في الوقت ذاته تخلق توازناً بين أحوال الدنيا والفقه، وهذا ما يفسر وجود “شيوخ” في المؤسسات، “شيوخ” ذوو تاريخ جهادي، مهمتهم مراقبة اتساق المعاملات المدنية مع تنويعات الفقه، وقوتهم، نقرأها في عبارة مرعبة على لسان أحد ما في الكتاب: “لدينا تأثير أخلاقي لأن الناس يعرفون هوياتنا”.

قراءة تحولات الهيئة من “الداخل” و “أعلى الهرم” تتركنا أمام مشكلة تصديق أقوالهم أنفسهم، وصحيح هناك إشارة الى التقية، لكن في الوقت ذاته، كيف نصدقهم من دون مقارنة أو مراجعة؟ وهذا بالضبط ما يجعل الكتاب عصياً على القراءة المحايدة، فالاحتفاء بأبو عبدو المسحراتي (وهذا مثال حقيقي ضمن الكتاب) كونه تمكن من العودة لإيقاظ الناس على السحور كإنجاز الهيئة  على نزع التشدّد وتحييده، ليس من السهل أن يغفر قتل صحافيين وناشطين كرائد فارس وحمود جنيد، اللذين يشار إليهما في جملة عابرة في الكتاب.

الأقليات والنساء: الاحتواء عبر التهميش

تحييد النساء في إدلب لم يتم بقرار رسمي أو فقهي (على الأقل علنا)، إذ قُيِّد نشاطهن بسبب المال الغربي، ويشرح الكتاب كيف انتقل نشاط النساء من الحيز العام نحو الخاص، بسبب الداعمين من منظمات المجتمع المدني، الذين يشترط عليهم الممولون عدم الانخراط في السياسة الرسميّة بسبب تصنيف الهيئة كجماعة إرهابية، ما تركهم خارجها للحفاظ على أعمالهم وتمويلهم وقدرة البعض منهن على السفر خارجاً، النتيجة: المهادنة مع الوضع القائم، بصورة ما، استفادت الهيئة من شروط “الناشطية” لمصلحتها، ضمن معادلة، الهيئة لا تمنع النساء من العمل ولهن حرية الانخراط ومقارنة الخسائر.

النساء يظهرن في العلاقة مع الهيئة كطرف خاضع لشروط التهميش ضمن كماشة المال و”التصنيف الإرهابي”، فأبواب السياسة مفتوحة،  وهن لا يردن المخاطرة والتورّط في الحكم أثناء وجودهن في إدلب، لكن هذه الوضعية بالذات بين داعم غربي و”جماعة إرهابية”، تتجاهل إعدام امرأة علناً مثلاً، وفرض الزي الشرعي في المدارس وأشكال الهيمنة المتعددة، بحيث تترك النساء كناشطات يبحثن عن لقمة العيش وخائفات من بطش هنّ مدعوات للمشاركة به!

اللافت في شأن الأقليات في إدلب، أنهم “نقلوا” من قراهم! وحين قرّر الشرع “مصالحتهم” وزيارة القرى الدرزية والمسيحيّة بعد التهجير والتضييق وإجبار البعض على الإسلام، نقرأ عبارة لا نمتلك تعليقاً عليها، عبارة مفادها، حسب الكتاب، أن الشرع طمأن المسيحيين مثلاً حين زار قراهم في إدلب عام 2022 قائلاً: “لن نغوص في الماضي، خصوصاً السياق التاريخي الخاص بالحملات الصليبية وتلاعب النظام بالأقليات”.

هذان هما مرجعية التعامل مع المسيحيين، الحروب الصليبية وتلاعب النظام بهم، لا إرادة وطنية أو سورية لدى “المسيحيين”، ماضيهم مليء بالدماء، أما ماضي الهيئة الجهادية، فقرر الشرع أنه لن يغوص به، هذه هي البراغماتية ربما، وتفسيرات قروسطية ولعب على الخوف مع “المكونات”، أدوات وكأنها نتاج عبقرية من نوع ما، استمرت حتى إسقاط النظام، عبقرية رمزها العقاب، سجناً وشعاراً.

ولادة الفضاء العام: اقتصاد “المول” و مقياس”الآداب العامة”

نتلمّس تسلّل تقنيات عمل الهيئة وحكومة الإنقاذ إلى الحكومة الانتقالية، فأسلوب نزع التشدد الذي يشير إليه الكاتبان ويؤكد فرادة الهيئة، لا يخفي وراءه فقط “سلطة”، بل هيمنة، تختفي وراء صورة “الهيئة” الوسطية، المحاطة بجحافل جهاديين ومتشددين ومقاتلين أجانب وأحزاب دعوية، خصوصاً مع تلاشي الثورة التي لم تعد مرجعاً أخلاقياً ولا أيديولوجياً، وسحق الجيش الحر، مع ذلك، هناك “باقي” سوريا، والسوريون الأقل تشدداً، أولئك الذين لا خيار لهم، سوى أن “يُحكموا”، لكن كيف “يحتضنون” خارج صيغ الدعوة والمؤسسات التعليمية، الحلّ: المول!

يشبّه الباحثان أحمد الشرع بمحمد بن سلمان، في سياق يشار إليه لاحقاً، ويهملان التقنية التي اتبعها الشرع والمقتبسة من بن سلمان، وهي الهيمنة على أماكن التجمع عبر بنية اقتصادية شكلت ميلاد الفضاء العام في إدلب، ونقصد هنا المقاهي والكافيهات و”المولات”، فضاءات التجمع المدنيّة، القائمة على الاستهلاك والترفيه عوضاً عن الفاعلية السياسية.

 هذه الفضاءات شكل من أشكال الحكم من جهة، والأهم، هي مساحات للربح، مطاعم وكافيتريات ومولات، كلها مساحات بُنيت من أجل الاستهلاك، هي تحرك رأس المال المشبوه الذي كانت تتحكم به الهيئة عبر تجارة المعابر، لذلك سعت الى حمايتها، كحديقة الحيوان التي كانت تعود الى “لجنة الغنائم”، والتي يرتبط ملاكها بهيئة تحرير الشام حسب الكتاب. لكن المولات وتجارتها، وبعدها السياسي كفضاء عام هو ما أثار الحفيظة، فـ”مول الحمرا”  في الدانا بإدلب أقام في سنويّته في 8 كانون الأول/ ديسمبر عام 2023 احتفالاً امتد لتسعة أيام، ما أثار انتقادات شديدة، كون السوريين يُقتلون على بعد أميال، في حين تحوي الموسيقى والترفيه والتبرج و”الاختلاط”.

الأساس في فضاء الاختلاط والنقاش المضبوط إذاً هو الربح، وخلق مساحة يطغى فيها الاستهلاك على الحوار، ما يذكرنا بما يحصل الآن، الهيمنة على المساحات العامة قدر المستطاع، وخلق مشاريع استثمارية في الحدائق، ومولات وأبنية طابقية، واستثمارات في جبل قاسيون، وسعي وزارة الأوقاف الى الاستملاك والاستثمار…  نعم، يستحيل ضبط الأماكن العامة في سوريا، لكن خلق مساحات ربحية للاختلاط وضمان الاستهلاك هو ما يحول السياسة إلى فعل استهلاكي، وأسلوب لخلق الطاعة والضبط الاجتماعي.

كان تبرير بعض المتشددين حينها أن “المول” يشابه “السوق” في بدايات الإسلام! أي هو مكان للاختلاط بين الجنسين، لكن نحن أمام مؤسسة ربحية بقيت قائمة مع بعض التنازلات عبر السماح للعائلات فقط، وانتشار الأمن العام لحماية المول/ الاستثمار/ الفضاء العام  كما حصل مع مول الحمرا.

فضاءات التسلية والطاعة أثارت حفيظة المتشددين، حتى أن أحدهم أطلق النار في أحد المولات، وهنا تبرز تقنية جديدة لـ”الحكم”، ويمكن تسميتها “جس النبض”، والتي اتضحت بـ”قانون الآداب العامة”، والتركيز دوماً على النسيج الاجتماعي وضرورة ضبطه.

 هذا القانون الذي يحوي بنوداً تمنع الاختلاط، وممارسة السحر، وإهانة الرموز الدينية…الخ سُرّبت مسودة منه عام 2023، ما أعاد التشدد إلى الواجهة، وانتقادات المانحين الغربيين، بل أعاد نوعاً من الاحتفاء بالنظام، في ما وُصف بـ”طالبانية الهيئة”، لكن القانون لم يقر، والكتاب يقول إن أحمد الشرع لم يهتم بالقانون بداية، ومن قام بحلّ الأمر هو حكومة الإنقاذ، لا هيئة تحرير الشام التي ألغت الحسبة! بصورة ما، منحت الهيئة نفسها وقتاً لدراسة الانتقادات من داخل إدلب وخارجها، وتعديل نص القانون، لكن السؤال، من وضعه؟ ولمَ وضعه؟ ولمَ التدخل المتأخر؟

الأسئلة السابقة تعكس أن الهيئة عبر حكومة الإنقاذ تلعب دور الرقيب على الجماعات الجهادية والمتشددة، وتحاول خلق توازن بين الفصائل والمكونات، الهيئة لا تخاف من الثورة ضدها، بل الانقسامات الداخلية بين الفصائل، و”تجس النبض” عبر التسريبات لترضي المتشددين من جهة ثم تقوم بالتعديل وتضع قوانين غامضة، يمكن ضبط معانيها داخل “الحكومة” و”شيوخها”. ناهيك بسياسة تغيير الأسماء والرموز والعلامات، والأهم الملكية/ الغنيمة؟ وهذا ما تكشفه حكايات الاستحواذ على الأراضي في ريفي حمص وحماة بعد سقوط النظام، وكأن “الغنيمة”، تكتيك سياسي براغماتي!

تصدير “الثورة”؟

الاحتجاجات ضد هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ في إدلب، بين آذار/ مارس 2024 وآب/ أغسطس 2024،  كانت أبرز حراك شعبي ضد أحمد الشرع، والذي رُفعت خلاله شعارات تعيد إلى الذاكرة زمن الثورة عام 2011، وقد امتدّ في عدد من مدن الشمال وقراه.

 اللافت، حين نقرأ الكتاب الآن بعد مجزرتين شهدتهما سوريا الجديدة، هو التقنيات التي طبقتها الهيئة لضبط المتظاهرين حينها، عبر احتواء “الفزعة”، وإقامة الحواجز لعرقلة انتقال المسلحين، وبعض الاعتقالات التي أُفرج بعدها بسرعة عن المعتقلين.

إذاً، احتوت الهيئة “الحراك”، ولم تعتبره “عدواً”، وهنا يرى الكاتبان أن تراجع القبضة الأمنية ليس نتيجة لتراجع التشدد الديني، بل إعادة تموضع للقوى و”مناورات سياسية واستراتيجية مقصودة تتضمن الأطراف”، قام بها الشرع ذو “الصبر الاستراتيجي”، الذي لم يقتبس من دفاتر الأسد والسيسي، ولا حتى محمد بن سلمان، فتخفيف القبضة الدينية لم يترافق مع زيادة القبضة القمعية كما في المملكة، ففي إدلب تم تخفيف الجانبين!  واعتمد الشرع على تراث “الربيع العربي” بعدم مهاجمة التظاهرات، ضمن نظرية “ليس هذا ولا ذاك” أي، لا النظام ولا الجهاد، مع الحفاظ على الوسطية المتشددة، وفكرة الـ”لا بديل”.

سقوط النظام وانتشار الفصائل في أنحاء سوريا، صدّرا المشكلة “الداخلية” إلى معظم أنحاء سوريا،  التي ظهرت فيها تظاهرات عدة تتعلق بالملكية، والقبضة الأمنية، و”الأخطاء الفردية” واحتكار رجالات الهيئة أو من يقم بـ”تسوية” معهم للأعمال، حينها رفعت شعارات “لا الجولاني ولا الأسد، بدنا نعمر البلد”. اليوم، شعار إعمار البلد رفعه الكثيرون في مختلف المدن السورية، لكن لا دعوات لإسقاط أحد… بعد.

حاشية

التحولات التي مرت بها الجبهة حتى تحولت إلى حكومة إنقاذ ثم حكومة مؤقتة، قائمة على عنف متعدد الأنواع، لكن، هل إعلان حلّ الهيئة، وتشكيل حكومة مؤقتة، يعني نسيان الماضي؟ تبدو الجبهة ضمن الكتاب كياناً ما بعد حداثي، قابلاً للتحول والتموضع دائماً، لا شيء ثابت فيها سوى أحمد الشرع ورجاله، القادرين ببساطة على نسيان الماضي، الحجة التي اتضحت بعد كشف فيديوهات وزير العدل سابقاً، شادي الويسي، وهو يطبق حد “الزنا” على امرأة في إدلب، وكان الرد  الرسمي حينها: “العملية تعكس مرحلة تجاوزناها في ظل التحولات القانونية والإجرائية الراهنة، ما يجعل من غير المناسب تعميمها أو استخدامها لتوصيف المرحلة الحالية، نظراً الى اختلاف الظروف والمرجعيات”.

هذه التحولات  والمراحل، التي تمثل كل واحدة منها شبه قطيعة من “الماضي”، قائمة على احتواء “الجهاديين” و”المتشددين” وتسيير أعمال “السوريين” ضمن نماذج اقتصادية هشة، والأهم، غفران من نوع ما، وكأن “جرائم” كل “مرحلة” تجبّ ما قبلها، والشخوص قادرون على التحوّل، بمجرد تغيير الاسم والبذلة، وكأن أحمد الشرع، البرغماتي، في “قصر من زُخرف”، CEO الجهاد العالمي، الذي حول الظاهرة  التي أخافت الغرب من “شركة عابرة للقارات” إلى “شركة محلية قابضة”.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
29.10.2025
زمن القراءة: 10 minutes

يرى الكتاب أن أحمد الشرع هو “الكاريزماتي” القادر على القيادة والمهادنة، وصوله إلى دمشق أشبه بالانتقال إلى “نوع من أنواع البونابارتيّة” بعد ثورة دموية، فأبو محمد الجولاني الذي لم يسجنه النظام السوريّ أبداً، تمكن من محاربة الخصوم وتوحيد القوى وضم الفصائل، هو ومن حوله، كعبد الرحيم عطون، الذي يتكرر اسمه في الكتاب، قادوا جهود إنهاء التكفير، والإصلاح الديني، وخلق التوازنات مع المجتمع المحليّ.

تأخر صدور كتاب “تحوّل بفعل الناس: طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا” مرات عدة قبل أن يُصبح متوافراً للقرّاء، ربما لأن المؤلفَّين، جيروم دريفون وباتريك هيني، أرادا إضافة بعض التعديلات، أو انتهاء معركة “ردع العدوان” التي سقط بعدها النظام السوري، فهما على علاقة وطيدة مع الهيئة، منذ أن كانت جبهةً، ولا بد من “حفظ الودّ”.

صدر الكتاب أخيراً، على غلافه يظهر أحمد الشرع “الذي لم تستهدفه أميركا أبداً في سوريا”، واخترنا أن نبدأ القراءة من الصفحة الأخيرة، لأن الكتاب يقارن تحولات “هيئة تحرير الشام” بـ”مسار الثورة الفرنسية”، بصورة أدق رد فعل مجموعة من النواب الفرنسيين الذين قاموا بثورة ضد حكم ماكسيميليان روبسبيير أو من يُعرفون بـ ترميدورين الذين كان هدفهم “إنهاء الحكم الثوري الراديكالي، والتراجع عن التمسك المتعنّت بالنصوص والمبادئ، وإنهاء حكم الرعب”. هذه المقارنة، تبناها الكاتبان لأن الأدبيات الإسلامية وأدبيات الإسلام السياسي والجهاد “لا تكفي” لقراءة تحولات الهيئة!

إذاً، لم تكف الأدبيات التقليديّة، ونحن أمام مرجعيات الثورة الفرنسية، لذا نبدأ من النهاية لنطلع على “القطاع” الذي تتحرك ضمنه القراءة التي يقدمها الكتاب، لكن ما يثير الانتباه هو “المراجع” المستخدمة، أي مصادر المعلومات والآراء حول تحوّل الهيئة وموقفها، وهنا بعضها: “مقابلة مع ناشط في إدلب، مقابلة مع مسؤول أمني في تركيا، مقابلة مع أحد أعضاء هيئة تحرير الشام، مقابلة عبر واتسآب، لقاء مع أحمد الشرع، مقابلة مع طيف واسع من المدنيين بين 2012 و2015، مقابلة مع عبد الرحيم عطون…الخ”.

نحن أمام طيف واسع من “المقابلات” للحصول على معلومات وآراء على ألسنة مجاهيل أو أشخاص لا يمكن أن نثق بما يقولونه لأسباب كثيرة، وهنا المريب، باحثان يحاولان قراءة تحولات كيان سياسي-جهادي على ألسنة مؤسّسيه! لكن المفارقة، أن “المراجع” عن الثورة الفرنسية لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.

يشير الباحثان في بداية الكتاب إلى الريبة التي قد تحيط بالقرّاء (وأنا منهم) بسبب علاقتهما مع الهيئة، العلاقة التي وصفاها بأنها بدأت من “الأعلى”، أي القيادات، والتي وجدت فيهما “مصداقية” كونهما متخصِّصين في الجهاد والإسلام السياسي.  كما يشير الباحثان الى أنهما يتناولان الهيئة وأداءها السياسي فقط، ولن يكون مركز التحليل “ممارسات الانضباط”، أي “العنف السياسي وحقوق الإنسان”! فالتركيز على “براغماتيّة” الهيئة وقدرتها على التحول إلى نظام حاكم.

وقال له كن “براغماتياً”… فكان!

وصف أحمد الشرع في لقاء معه “البراغماتية” بأنها ذات معانٍ سلبية في اللغة العربية، لكنها ملتصقة بالشرع والهيئة، إذ تتكرر وتصريفاتها في الكتاب ذي الـ300 صفحة ونيف، نحو 55 مرة، أي بمعدل مرة واحدة كل 5 صفحات، معلومة لا قيمة لها هكذا، لكن في سياق الكتاب، يتضح أن معناها غامض، هناك دوماً، تحول براغماتي، خيار براغماتي، ليضيع معنى الكلمة، ما هي “البراغماتية ” المقصودة؟

الواضح أن الكتاب، ليس لقارئ العربيةّ، بل لقارئ “غربي” قد يعجبه تحول الجماعة الراديكالية من أقصى اليمين التكفيري إلى الوسط المحافظ المتشدد، بصورة ما، لا تتحرك الجماعة الجهادية خارج طيف اليمين الإسلامي، والكتاب يركز على الانتقال من جماعة جهادية متشددة (جبهة النصرة) إلى سلطة تحكم وتسيير شؤون الناس  (حكومة الإنقاذ).

وهنا تأتي مقاربة استشراقية (ربما)، ولا نقصد فقط المقارنة بالثورة الفرنسية وتحولاتها، بل غياب معنى واضح للبراغماتية التي يُنعت بها الشرع، في حين رفاق السلاح، كعمر أومسين، ينعتون أبو محمد الجولاني بـ”الثعلب”،  يمتد الأمر إلى نوع من الاحتفاء بـ”فرادة” تجربة الهيئة، بوصفها حققت ما لم تحققه أي جماعة جهادية أخرى، أي التخلي عن الجهاد العالمي، الخطر الأكبر الذي قامت ضده الحرب على الإرهاب، بالإضافة إلى الابتعاد عن السلفية ونيل تأييد “الغالبية الصامتة” وتوطين نفسها ضمن “البيئة المحلية”، التحول سمّاه الباحثان “الثورة الصامتة”، التي قادها الشرع ببراغماتية مفرطة!

رجال حول الشرع

يرى الكتاب أن أحمد الشرع هو “الكاريزماتي” القادر على القيادة والمهادنة، وصوله إلى دمشق أشبه بالانتقال إلى “نوع من أنواع البونابارتيّة” بعد ثورة دموية، فأبو محمد الجولاني الذي لم يسجنه النظام السوريّ أبداً، تمكن من محاربة الخصوم وتوحيد القوى وضم الفصائل، هو ومن حوله، كعبد الرحيم عطون، الذي يتكرر اسمه في الكتاب،  قادوا جهود إنهاء التكفير، والإصلاح الديني، وخلق التوازنات مع المجتمع المحليّ.

الشرع و”رجاله” لم يقطعوا العلاقة مع الجهاد العالمي فقط، بل أيضاً الثورة السورية، وبعد سريان “اتفاق خفض التصعيد” عام 2019،  بدأ التحولات، من معاداة النظام حتى احتواء “الثورة السورية”، وخفض التشدد،  كُلهم “براغماتيون” لأجل إقامة الحكم، وهنا بالضبط المفارقة، لطالما كان تحوّل الميليشيا إلى دولة إشكاليّاً، بل حتى تدخلها بالحكم، حماس وحزب الله والحوثيون كلهم أمثلة شديدة الوضوح. لكن، الهيئة مختلفة، والشرع ورجاله ليسوا كأحد، وطبعاً لا يمكن القيام بانتخابات شعبية في أي مرحلة من المراحل، للحجة ذاتها التي استُخدمت في تعيين أعضاء مجلس الشعب، لا بد من إحصاء!

هذه التقنية في الإبعاد والاحتواء منذ الجبهة حتى حكومة الإنقاذ، تبنّى عبرها الشرع ما سمي بـ”الصبر الاستراتيجي” حسب الكتاب، الذي لم يخلُ من “مناوشات تكتيكية” مع الفصائل الأخرى، لكن ألم تطبق هذه التقنية ولو بصورة مختلفة الآن، بإبعاد حسن صوفان الذي أصبح أقرب الى محامي دفاع فادي صقر، وإبعاد أحمد الدالاتي بعد مجازر السويداء، ألم يُضحِّ الشرع بـ”براغماتية” بقادة “أحرار الشام”؟

لا إنكار أن الهيئة تمكنت من إبعاد الأكثر تشدداً بأساليب متنوعة كما حصل مع تنظيم “حراس الدين” الذي وصل الاتفاق معهم بعد “المناوشات” والاعتقالات والتضييق إلى امتناعهم عن المشاركة في الحياة المدنيّة، وفي حالات أخرى استهداف القادة العسكريين، أو اعتقالهم كما حصل مع أبو مالك التلي، والقوى الضاربة بيد الهيئة ضد “خصومها” هي جهاز الأمن العام، المنبثق من جبهة النصرة وهدفه “محاربة الإرهاب ومطاردة عناصر داعش والقاعدة”، الجهاز ذاته الذي فتح باب التطوع فيه بعد فرار الأسد!

حتى بعد تأسيس حكومة الإنقاذ، بقيت الهيئة في الخلفية، تعيد تشكيل المؤسسات المدنية، وتفوّض لها بعض السلطات، لكن في الوقت ذاته تخلق توازناً بين أحوال الدنيا والفقه، وهذا ما يفسر وجود “شيوخ” في المؤسسات، “شيوخ” ذوو تاريخ جهادي، مهمتهم مراقبة اتساق المعاملات المدنية مع تنويعات الفقه، وقوتهم، نقرأها في عبارة مرعبة على لسان أحد ما في الكتاب: “لدينا تأثير أخلاقي لأن الناس يعرفون هوياتنا”.

قراءة تحولات الهيئة من “الداخل” و “أعلى الهرم” تتركنا أمام مشكلة تصديق أقوالهم أنفسهم، وصحيح هناك إشارة الى التقية، لكن في الوقت ذاته، كيف نصدقهم من دون مقارنة أو مراجعة؟ وهذا بالضبط ما يجعل الكتاب عصياً على القراءة المحايدة، فالاحتفاء بأبو عبدو المسحراتي (وهذا مثال حقيقي ضمن الكتاب) كونه تمكن من العودة لإيقاظ الناس على السحور كإنجاز الهيئة  على نزع التشدّد وتحييده، ليس من السهل أن يغفر قتل صحافيين وناشطين كرائد فارس وحمود جنيد، اللذين يشار إليهما في جملة عابرة في الكتاب.

الأقليات والنساء: الاحتواء عبر التهميش

تحييد النساء في إدلب لم يتم بقرار رسمي أو فقهي (على الأقل علنا)، إذ قُيِّد نشاطهن بسبب المال الغربي، ويشرح الكتاب كيف انتقل نشاط النساء من الحيز العام نحو الخاص، بسبب الداعمين من منظمات المجتمع المدني، الذين يشترط عليهم الممولون عدم الانخراط في السياسة الرسميّة بسبب تصنيف الهيئة كجماعة إرهابية، ما تركهم خارجها للحفاظ على أعمالهم وتمويلهم وقدرة البعض منهن على السفر خارجاً، النتيجة: المهادنة مع الوضع القائم، بصورة ما، استفادت الهيئة من شروط “الناشطية” لمصلحتها، ضمن معادلة، الهيئة لا تمنع النساء من العمل ولهن حرية الانخراط ومقارنة الخسائر.

النساء يظهرن في العلاقة مع الهيئة كطرف خاضع لشروط التهميش ضمن كماشة المال و”التصنيف الإرهابي”، فأبواب السياسة مفتوحة،  وهن لا يردن المخاطرة والتورّط في الحكم أثناء وجودهن في إدلب، لكن هذه الوضعية بالذات بين داعم غربي و”جماعة إرهابية”، تتجاهل إعدام امرأة علناً مثلاً، وفرض الزي الشرعي في المدارس وأشكال الهيمنة المتعددة، بحيث تترك النساء كناشطات يبحثن عن لقمة العيش وخائفات من بطش هنّ مدعوات للمشاركة به!

اللافت في شأن الأقليات في إدلب، أنهم “نقلوا” من قراهم! وحين قرّر الشرع “مصالحتهم” وزيارة القرى الدرزية والمسيحيّة بعد التهجير والتضييق وإجبار البعض على الإسلام، نقرأ عبارة لا نمتلك تعليقاً عليها، عبارة مفادها، حسب الكتاب، أن الشرع طمأن المسيحيين مثلاً حين زار قراهم في إدلب عام 2022 قائلاً: “لن نغوص في الماضي، خصوصاً السياق التاريخي الخاص بالحملات الصليبية وتلاعب النظام بالأقليات”.

هذان هما مرجعية التعامل مع المسيحيين، الحروب الصليبية وتلاعب النظام بهم، لا إرادة وطنية أو سورية لدى “المسيحيين”، ماضيهم مليء بالدماء، أما ماضي الهيئة الجهادية، فقرر الشرع أنه لن يغوص به، هذه هي البراغماتية ربما، وتفسيرات قروسطية ولعب على الخوف مع “المكونات”، أدوات وكأنها نتاج عبقرية من نوع ما، استمرت حتى إسقاط النظام، عبقرية رمزها العقاب، سجناً وشعاراً.

ولادة الفضاء العام: اقتصاد “المول” و مقياس”الآداب العامة”

نتلمّس تسلّل تقنيات عمل الهيئة وحكومة الإنقاذ إلى الحكومة الانتقالية، فأسلوب نزع التشدد الذي يشير إليه الكاتبان ويؤكد فرادة الهيئة، لا يخفي وراءه فقط “سلطة”، بل هيمنة، تختفي وراء صورة “الهيئة” الوسطية، المحاطة بجحافل جهاديين ومتشددين ومقاتلين أجانب وأحزاب دعوية، خصوصاً مع تلاشي الثورة التي لم تعد مرجعاً أخلاقياً ولا أيديولوجياً، وسحق الجيش الحر، مع ذلك، هناك “باقي” سوريا، والسوريون الأقل تشدداً، أولئك الذين لا خيار لهم، سوى أن “يُحكموا”، لكن كيف “يحتضنون” خارج صيغ الدعوة والمؤسسات التعليمية، الحلّ: المول!

يشبّه الباحثان أحمد الشرع بمحمد بن سلمان، في سياق يشار إليه لاحقاً، ويهملان التقنية التي اتبعها الشرع والمقتبسة من بن سلمان، وهي الهيمنة على أماكن التجمع عبر بنية اقتصادية شكلت ميلاد الفضاء العام في إدلب، ونقصد هنا المقاهي والكافيهات و”المولات”، فضاءات التجمع المدنيّة، القائمة على الاستهلاك والترفيه عوضاً عن الفاعلية السياسية.

 هذه الفضاءات شكل من أشكال الحكم من جهة، والأهم، هي مساحات للربح، مطاعم وكافيتريات ومولات، كلها مساحات بُنيت من أجل الاستهلاك، هي تحرك رأس المال المشبوه الذي كانت تتحكم به الهيئة عبر تجارة المعابر، لذلك سعت الى حمايتها، كحديقة الحيوان التي كانت تعود الى “لجنة الغنائم”، والتي يرتبط ملاكها بهيئة تحرير الشام حسب الكتاب. لكن المولات وتجارتها، وبعدها السياسي كفضاء عام هو ما أثار الحفيظة، فـ”مول الحمرا”  في الدانا بإدلب أقام في سنويّته في 8 كانون الأول/ ديسمبر عام 2023 احتفالاً امتد لتسعة أيام، ما أثار انتقادات شديدة، كون السوريين يُقتلون على بعد أميال، في حين تحوي الموسيقى والترفيه والتبرج و”الاختلاط”.

الأساس في فضاء الاختلاط والنقاش المضبوط إذاً هو الربح، وخلق مساحة يطغى فيها الاستهلاك على الحوار، ما يذكرنا بما يحصل الآن، الهيمنة على المساحات العامة قدر المستطاع، وخلق مشاريع استثمارية في الحدائق، ومولات وأبنية طابقية، واستثمارات في جبل قاسيون، وسعي وزارة الأوقاف الى الاستملاك والاستثمار…  نعم، يستحيل ضبط الأماكن العامة في سوريا، لكن خلق مساحات ربحية للاختلاط وضمان الاستهلاك هو ما يحول السياسة إلى فعل استهلاكي، وأسلوب لخلق الطاعة والضبط الاجتماعي.

كان تبرير بعض المتشددين حينها أن “المول” يشابه “السوق” في بدايات الإسلام! أي هو مكان للاختلاط بين الجنسين، لكن نحن أمام مؤسسة ربحية بقيت قائمة مع بعض التنازلات عبر السماح للعائلات فقط، وانتشار الأمن العام لحماية المول/ الاستثمار/ الفضاء العام  كما حصل مع مول الحمرا.

فضاءات التسلية والطاعة أثارت حفيظة المتشددين، حتى أن أحدهم أطلق النار في أحد المولات، وهنا تبرز تقنية جديدة لـ”الحكم”، ويمكن تسميتها “جس النبض”، والتي اتضحت بـ”قانون الآداب العامة”، والتركيز دوماً على النسيج الاجتماعي وضرورة ضبطه.

 هذا القانون الذي يحوي بنوداً تمنع الاختلاط، وممارسة السحر، وإهانة الرموز الدينية…الخ سُرّبت مسودة منه عام 2023، ما أعاد التشدد إلى الواجهة، وانتقادات المانحين الغربيين، بل أعاد نوعاً من الاحتفاء بالنظام، في ما وُصف بـ”طالبانية الهيئة”، لكن القانون لم يقر، والكتاب يقول إن أحمد الشرع لم يهتم بالقانون بداية، ومن قام بحلّ الأمر هو حكومة الإنقاذ، لا هيئة تحرير الشام التي ألغت الحسبة! بصورة ما، منحت الهيئة نفسها وقتاً لدراسة الانتقادات من داخل إدلب وخارجها، وتعديل نص القانون، لكن السؤال، من وضعه؟ ولمَ وضعه؟ ولمَ التدخل المتأخر؟

الأسئلة السابقة تعكس أن الهيئة عبر حكومة الإنقاذ تلعب دور الرقيب على الجماعات الجهادية والمتشددة، وتحاول خلق توازن بين الفصائل والمكونات، الهيئة لا تخاف من الثورة ضدها، بل الانقسامات الداخلية بين الفصائل، و”تجس النبض” عبر التسريبات لترضي المتشددين من جهة ثم تقوم بالتعديل وتضع قوانين غامضة، يمكن ضبط معانيها داخل “الحكومة” و”شيوخها”. ناهيك بسياسة تغيير الأسماء والرموز والعلامات، والأهم الملكية/ الغنيمة؟ وهذا ما تكشفه حكايات الاستحواذ على الأراضي في ريفي حمص وحماة بعد سقوط النظام، وكأن “الغنيمة”، تكتيك سياسي براغماتي!

تصدير “الثورة”؟

الاحتجاجات ضد هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ في إدلب، بين آذار/ مارس 2024 وآب/ أغسطس 2024،  كانت أبرز حراك شعبي ضد أحمد الشرع، والذي رُفعت خلاله شعارات تعيد إلى الذاكرة زمن الثورة عام 2011، وقد امتدّ في عدد من مدن الشمال وقراه.

 اللافت، حين نقرأ الكتاب الآن بعد مجزرتين شهدتهما سوريا الجديدة، هو التقنيات التي طبقتها الهيئة لضبط المتظاهرين حينها، عبر احتواء “الفزعة”، وإقامة الحواجز لعرقلة انتقال المسلحين، وبعض الاعتقالات التي أُفرج بعدها بسرعة عن المعتقلين.

إذاً، احتوت الهيئة “الحراك”، ولم تعتبره “عدواً”، وهنا يرى الكاتبان أن تراجع القبضة الأمنية ليس نتيجة لتراجع التشدد الديني، بل إعادة تموضع للقوى و”مناورات سياسية واستراتيجية مقصودة تتضمن الأطراف”، قام بها الشرع ذو “الصبر الاستراتيجي”، الذي لم يقتبس من دفاتر الأسد والسيسي، ولا حتى محمد بن سلمان، فتخفيف القبضة الدينية لم يترافق مع زيادة القبضة القمعية كما في المملكة، ففي إدلب تم تخفيف الجانبين!  واعتمد الشرع على تراث “الربيع العربي” بعدم مهاجمة التظاهرات، ضمن نظرية “ليس هذا ولا ذاك” أي، لا النظام ولا الجهاد، مع الحفاظ على الوسطية المتشددة، وفكرة الـ”لا بديل”.

سقوط النظام وانتشار الفصائل في أنحاء سوريا، صدّرا المشكلة “الداخلية” إلى معظم أنحاء سوريا،  التي ظهرت فيها تظاهرات عدة تتعلق بالملكية، والقبضة الأمنية، و”الأخطاء الفردية” واحتكار رجالات الهيئة أو من يقم بـ”تسوية” معهم للأعمال، حينها رفعت شعارات “لا الجولاني ولا الأسد، بدنا نعمر البلد”. اليوم، شعار إعمار البلد رفعه الكثيرون في مختلف المدن السورية، لكن لا دعوات لإسقاط أحد… بعد.

حاشية

التحولات التي مرت بها الجبهة حتى تحولت إلى حكومة إنقاذ ثم حكومة مؤقتة، قائمة على عنف متعدد الأنواع، لكن، هل إعلان حلّ الهيئة، وتشكيل حكومة مؤقتة، يعني نسيان الماضي؟ تبدو الجبهة ضمن الكتاب كياناً ما بعد حداثي، قابلاً للتحول والتموضع دائماً، لا شيء ثابت فيها سوى أحمد الشرع ورجاله، القادرين ببساطة على نسيان الماضي، الحجة التي اتضحت بعد كشف فيديوهات وزير العدل سابقاً، شادي الويسي، وهو يطبق حد “الزنا” على امرأة في إدلب، وكان الرد  الرسمي حينها: “العملية تعكس مرحلة تجاوزناها في ظل التحولات القانونية والإجرائية الراهنة، ما يجعل من غير المناسب تعميمها أو استخدامها لتوصيف المرحلة الحالية، نظراً الى اختلاف الظروف والمرجعيات”.

هذه التحولات  والمراحل، التي تمثل كل واحدة منها شبه قطيعة من “الماضي”، قائمة على احتواء “الجهاديين” و”المتشددين” وتسيير أعمال “السوريين” ضمن نماذج اقتصادية هشة، والأهم، غفران من نوع ما، وكأن “جرائم” كل “مرحلة” تجبّ ما قبلها، والشخوص قادرون على التحوّل، بمجرد تغيير الاسم والبذلة، وكأن أحمد الشرع، البرغماتي، في “قصر من زُخرف”، CEO الجهاد العالمي، الذي حول الظاهرة  التي أخافت الغرب من “شركة عابرة للقارات” إلى “شركة محلية قابضة”.

29.10.2025
زمن القراءة: 10 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية