fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الانتخابات البلديّة: 6 سنوات جديدة من حكم “آل محاصصة” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحكم العملَ البلدي في لبنان قانونٌ قديم لم يواكب التحولات التنموية عالمياً. ولا يتناسب قانون البلديات مع أهداف التنمية المستدامة التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2016. فبينما تُشدد هذه الأهداف على ضرورة بناء مجتمعات شاملة ومستقرة بحلول عام 2030، يظل الإطار القانوني البلدي عاجزاً عن توفير الأدوات المناسبة لذلك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يا جبل ما يهزك ريح، لما بتوقف بتبيّن ولما بتقعد بتزيّن، الهيبة إلا رجالها، لا تليق إلا بك، الكل بيسمعلك: هيبة وأدب. بهذه الكلمات ترفع العائلات والأجبَاب، والقرى والأحياء، شعاراتها لدعم مرشح للانتخابات البلدية. لكن ما إن ينتهي الاستحقاق الانتخابي حتى ينكسر الوهم ويعود الناخبون إلى الحقيقة والواقع: لا مخطط تنموي ولا شبكة مياه نظيفة ولا معالجة لحرق النفايات في الهواء الطلق. بدلاً من ذلك يكتفي المجلس البلدي بترقيع جورة أو إقامة مطبات أو تقديم كيس ترابة لإسكات الناخبين.

تقرر إجراء الانتخابات البلدية بين 4 و25 أيار/ مايو 2025، لتكون أوّل استحقاق انتخابي على مستوى البلديات منذ عام 2016، بعدما تأجّلت ثلاث مرات متتالية. ففي عام 2022، تذرعت الحكومة بالصعوبات اللوجستية والتداخل مع الانتخابات النيابية لتأجيلها. وفي عام 2023، اتخذت الأزمة المالية ذريعة للتأجيل. ومدّد مجلس النواب في نيسان/ أبريل 2024 ولاية المجالس البلدية والاختيارية حتى أيار/ مايو 2025 تحت ذريعة “المخاوف الأمنية” الناجمة عن الحرب مع إسرائيل.

لطالما شهدت الانتخابات البلدية في لبنان تأخيرات متكرّرة. فقد أُجريت آخر انتخابات بلدية قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1964، ولم تُعقد الانتخابات التالية إلا عام 1998. ووفقاً للمركز اللبناني للدراسات، فقد أُجريت 6 انتخابات بلدية فقط خلال الـ72 سنة الماضية، على رغم أنه كان من المفترض تنظيم 13 دورة انتخابية منذ عام 1952 وحتى اليوم.

وقبل أيام قليلة من انطلاق العملية الانتخابية، كانت هناك محاولات لتأجيلها. فقد أُدرج على جدول أعمال جلسة مجلس النواب المنعقدة يوم الخميس 24 نيسان/ أبريل 2025، مشروع قانون يتيح تأجيل الانتخابات لمدة أربعة أشهر، بذريعة تعديل القوانين لاعتماد نظام اللائحة المقفلة. 

أول انتخابات منذ 9 سنوات

“على رغم أهمية إجراء الانتخابات البلدية باعتبارها استحقاقاً دستورياً وديمقراطياً، إلا أنني لا أتوقّع حدوث تغيير جذري في المشهد البلدي”، يقول أندريه سليمان، الخبير في مجال الحوكمة والسياسات العامة، في مقابلة مع موقع “درج”. غالباً، تجتمع العائلات لتوزيع المقاعد في المجلس البلدي في ما بينها، ثم تتشاور لاختيار الشخصيات التي تراها مناسبة لشغلها. وهكذا تُخاض الانتخابات البلدية على قاعدة “بدنا مرشح من كل عيلة”، ما يُكرّس مبدأ المحاصصة العائلية على حساب التنافس الفعلي حول مشاريع بلدية أو خطط إنمائية واضحة. 

وعلى رغم انطلاق الاستحقاق الدستوري، لا تزال هناك لوائح غير مكتملة في عدد من القرى والبلدات اللبنانية. في هذا السياق، يقول سليمان إن “عامل الوقت لا يسمح بتشكيل لوائح خارج الاصطفافات التقليدية، سواء كانت سياسية أو عائلية. وهذا يصب في مصلحة العائلات التي تتمكّن من الدفع بمرشح من كل بيت وتشكيل لائحة بسرعة، كما تستفيد منه الأحزاب أيضاً، حتى وإن لم تكن تسيطر بالكامل على اللعبة البلدية، فهي تضمن على الأقل وجود تمثيل لها ضمن لوائح محسوبة عليها”.

“أنا بصوّت ضد لائحة ابن عمي”، و”أنا رايحة صوّت لأنو خالتي مرشحة”، عبارات تختصر مشهد الانتخابات البلدية في القرى اللبنانية. مرة كل 6 سنوات، يتحوّل المواطن من مُطالب بخطط ومشاريع تنموية في بلدته إلى ناخب تحكمه الاعتبارات العائلية والشخصية، فتُخاض الانتخابات على قاعدة الولاءات العائلية لا البرامج الإنمائية، وبالتالي تفتقد العملية الانتخابية معناها كأداة للمحاسبة والتغيير. 

يعيد النظام الانتخابي إنتاج الفشل في المجالس البلدية، بحيث ينص على اقتراع الناخبين في مكان القيد بدلاً من مكان السكن. وغالباً ما تنتج الولاءات مجالس بلدية فاشلة يرأسها “وجهاء القرى”، فتتحوّل البلديات من مجالس محلّية تُعنى بالخدمة العامة إلى عمل عائلي أو Family Business يدار لحساب الأحباء والأقرباء. في هذا السياق، يقول أندريه سليمان إن “الانتخابات هي الأساس، وعندما ينتخب أعضاء المجلس البلدي فقط بسبب صلة القرابة أو تجنباً لإغضاب بعض الأطراف، فمن الطبيعي أن يكون المجلس بلا قدرة حقيقية على التعامل مع الشأن الإنمائي”.

نصوص قديمة وحاجات جديدة

يحكم العملَ البلدي في لبنان قانونٌ قديم لم يواكب التحولات التنموية عالمياً. ولا يتناسب قانون البلديات مع أهداف التنمية المستدامة التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2016. فبينما تُشدد هذه الأهداف على ضرورة بناء مجتمعات شاملة ومستقرة بحلول عام 2030، يظل الإطار القانوني البلدي عاجزاً عن توفير الأدوات المناسبة لذلك.

وفقاً للأمم المتحدة، فإن “المشاركة النشطة للشباب في جهود التنمية المستدامة تُعَدُّ أمراً أساسياً لتحقيق مجتمعات مستدامة وشاملة ومستقرة بحلول عام 2030”. في هذا السياق، أشار الناشط قصي خالد من بلدة عكار العتيقة لموقع “درج”، إلى أن مشاركة الشباب كان لها أثر إيجابي في قريته، إذ ساعدوا البلدية في تعبئة الاستمارات للمشاريع التنموية وتوعية أبناء البلدة على أهمية الفرز من المصدر، والمساهمة في دفع الرسوم  لمعالجة ملف النفايات بطريقة سليمة وبيئية ومستدامة. “اقترحنا على رئيس البلدية إنشاء صندوق مخصص لجمع رسوم معالجة النفايات، بحيث يُطلب من المنازل دفع دولارين أميركيين، بينما تُفرض رسوم تتراوح بين 5 إلى 6 دولارات على المؤسسات التجارية وفقاً لحجمها”، بحسب ما قال خالد. 

وأوضح الناشط قصي خالد لـ “درج” إن المعايير العائلية والفعاليات تُهيمن على انتخابات البلدية. وأضاف: “بمجرد ترشح أحد الشباب لرئاسة البلدية، علت الأصوات المعارضة لترشيحه على أساس أن عائلته لم تتبنَّ ترشيحه رسمياً”. يقول أندريه سليمان، الخبير في مجال الحوكمة والسياسات العامة، إن “غياب الشباب عن المجالس البلدية ناتج من سلوك انتخابي سائد في القرى، حيث يتم اختيار ممثل العائلة من كبار السن، باعتباره الشخص ‘القادر على التواصل مع الجميع’ وصاحب العلاقات الأوسع”. ويتابع سليمان: “هذه المقاربة تغلّب الاعتبارات التقليدية على معايير الكفاءة، وبالتالي تقصي فئة الشباب وتبعدهم عن مواقع القرار”.

إلى جانب تفعيل دور الشباب في العمل البلدي، تبرز أهمية إشراك المرأة أيضاً، لكن تواجهها تحديات قانونية وجندرية. تقدمت جمعية “فيفتي فيفتي” باقتراح قانون يرمي إلى تحقيق المناصفة الجندرية في المجالس البلدية من خلال تعديل بعض مواد القانون رقم 665/1997 ولكن تعذر إقراره. في هذا السياق وجدت الجمعية إن الحل هو إتفاقية سلمة-سوا للمساواة، وهي التزام معنوي لدعم وإيصال 30 في المئة من النساء على الأقل إلى المجالس البلدية والاختيارية. المحامي نجيب فرحات قال لـ “درج” إنه “يجب أن تكون هناك كوتا جندرية في البلديات وهناك إقتراح قانون مقدّم من النائبين بولا يعقوبيان وياسين ياسين، يفرض وجود كوتا بنسبة 50 في المئة لكلَي الجنسين وكوتا لذوي الاحتياجات الإضافية بمقدار عضوين على الأقل في كل بلدية”.

تقول علوم عودة، رئيسة جمعية “حقي أورث” والمرشحة للانتخابات البلدية في قرية الخضر- قضاء بعلبك، في مقابلة مع “درج”، إن ترشيحها كامرأة لا يشكّل عائقاً؛ فهي ناشطة في الشأن العام، لا سيما في قضايا حقّ المرأة في الإرث.  وتشير إلى أن قرية الخضر كانت من أكثر القرى تضرراً في الحرب الأخيرة، مضيفةً : “في حال فوزي بعضوية المجلس البلدي، سأعمل على تفعيل اللجان وإشراك المرأة والشباب، في جميع جوانب العمل البلدي لضمان مشاركة فعّالة وشاملة”.  وتختتم: “لديّ برنامج متكامل للنظافة عبر فرز النفايات من المصدر والتسبيخ”.

انتخابات على الأنقاض

تواجه البلديات اللبنانية الجنوبية والبقاعية خصوصاً، تحديات تقنية ولوجستية غير مسبوقة لناحية تنظيم الانتخابات البلدية نتيجة للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تضررت مباني البلديات واتحادات البلديات أثناء الحرب بمستويات مختلفة،  فقد وصل عدد المباني التي دُمرت جزئياً إلى 75 مبنى، بينما بلغ عدد المباني التي تضررت كلياً 11 مبنى. 

سبق وأن طُرح موضوع الميغاسنتر كتوجّه إصلاحي لكنه محكوم أيضاً بالقانون الانتخابي. وتقدم النائبان مارك ضو ووضاح الصادق باقتراح قانون يرمي إلى “إنشاء منصة إلكترونية لتسجيل الراغبين في التصويت في مدن وبلدات خارج القرى المدمرة كلياً أو جزئياً ومحددة من وزارة الداخلية بمعدل مركزين أو أكثر في كل قضاء”. وعلى الرغم من وجود 37 قرية جنوبية مدمرة بالكامل ما يعيق حصول العملية الانتخابية، لم يتم إقرار هذا القانون. ورداً على اقتراحات تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري “إن أمكن وضع أقلام الاقتراع فيها فليكن، وإذا ما تعذّر ذلك سنضع أقلام الاقتراع في أماكن أخرى، حتى في بناية في بلدة قريبة، أو في شقة أو غرفة… سننتخب حتى ولو كان على التراب”.  ويقول أندريه سليمان “لا تُجرى الانتخابات في خيام، فهي لا تستوفي شروط النزاهة والاستقلالية والشفافية، إذ لا يمكن ضبط دخول الناخبين أو معرفة من يتحرّك خلف الستائر. لذا يُفضّل إقامة مراكز اقتراع ثابتة في مناطق آمنة”. 

تتجه الأنظار إلى انتخابات الجنوب، أولاً لأنها الاستحقاق الأول بعد ثورة 17 تشرين التي عبّرت عن نقمة واسعة ضد الثنائي الشيعي، وثانياً بسبب التحديات التنموية التي فرضتها الحرب الأخيرة. “ما نشهده اليوم هو نتيجة لسلسلة من الفشل المستدام وتراكم الأزمات على مدى أكثر من 27 عاماً، سيطر فيها ولا يزال الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) على بلديات الجنوب”، يقول علي بدر الدين، المرشح لعضوية المجلس البلدي في مدينة النبطية.

يشرح بدر الدين أن “القرارات الخاطئة والخلافات السياسية بين حركة أمل وحزب الله أدّت باستمرار إلى تعطيل العمل البلدي”، متابعاً أن “تشكيل مجلس بلدي مستقل وقادر على التواصل مع المجتمع الدولي قد يساهم في جذب الدعم لتنفيذ مشاريع تنموية”. ويؤكد أن “مدينة النبطية، بما تملكه من سوق تجاري نشط يؤمّن عائدات من الضرائب والمستحقات، تمتلك الموارد المالية الكافية للانطلاق في مسار إصلاحي جاد لتحقيق المنفعة العامة وتعزيز الإنماء المتوازن في مختلف أحياء المدينة”. ويضيف: “القرى الجنوبية اليوم بأمسّ الحاجة إلى خطة إنمائية شاملة، بعد سنوات من الصراع على النفوذ والسيطرة”، واصفاً الواقع بالقول: “نحن ما عنا قانون، عنا تلفون”.

استحقاق دستوري وديمقراطي محكوم بالفشل

مع انتهاء العملية الانتخابية في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، ينطلق العمل البلدي مجدداً لكنه محكوم بقانون عمره نصف قرن. ومن أبرز التحديات التي أنتجها هذا القانون آلية إنشاء البلديات. “بحسب القانون، تُنشَأ البلديات بقرار من وزير الداخليّة والبلديات، من دون أن يُحدّد صراحةً عدد سكّان البلدة اللازم لإنشائها. إلّا أنّ المادة 24 أشارت إلى أنَّ المجلس البلدي يتألّف من تسعة أعضاء للبلديات التي يقل عدد سكّانها عن 2000 شخص، أي إنّ القانون سمح بإنشاء بلديات في هذه الحالات”، بحسب ما قال المحامي نجيب فرحات لموقع “درج”.

يعاني لبنان من تضخّم في عدد البلديات التي وصل عددها إلى 1064 بلدية، ما يعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ووفقاً لـ “الدولية للمعلومات”، فإن ما يقارب نصف هذه البلديات يعاني من شلل إداري، إذ إن 640 بلدية لديها رئيس وأعضاء مجلس بلدي لكنها لا تعقد اجتماعات، كما توجد 125 بلدية أصبحت منحلّة، أي أنها تحت الإدارة المباشرة للمحافظ أوالقائمقام. 

وقالت الدولية للمعلومات إنه “بالإضافة إلى الوضع المادي، فإن الشأن الجغرافي والخدماتي وعدد السكان يحتّمان دمج البلديّات بحيث يزداد دخلها وتشترك بالكهرباء والمياه والطرقات والمدارس والتنظيم المدني رؤيةً وموازنات. وهذا يستدعي أيضاً اعتماد النظام النسبي في الانتخابات البلديّة وتحديد سقف إنفاق، أي إننا بحاجة الى قانون بلدي جديد”.

وبحسب “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية”، فإن دمج البلديات في دول مجاورة مثل الأردن، الذي تقلص فيه عدد البلديات من 328 إلى 100 بلدية، ساهم في تعزيز الكفاءة وتخفيف الأعباء المالية. وفي هذا السياق، أوضح أندريه سليمان لـ “درج”  إنه “يمكن الحدّ من عدد البلديات من خلال اعتماد سياسة الدمج، كما هو معمول به في عدد من الدول، وذلك استناداً إلى معايير الجوار والتواصل الجغرافي”. وأضاف أن “العمل ضمن نطاق بلدي أوسع يُنظَّم عادة على أساس برامج إنمائية واضحة، وليس وفق اعتبارات ضيّقة”. 

اللامركزية الإدارية والمالية

تُجمع حصص البلديات من الضرائب والرسوم في مصرف لبنان ضمن ما يُعرف بـ “الصندوق البلدي المستقل”. لكن وفقاً للمحامي نجيب فرحات، “تُشكّل آلية التوزيع والإجراءات الإدارية، لا سيما اشتراط صدور مرسوم حكومي، عائقاً كبيراً أمام استفادة البلديات من هذه الأموال”.

وكشفت دراسة “الدولية للمعلومات”، المستندة إلى الأرقام الواردة في المرسوم رقم 14492 الصادر بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر، “توزيع عائدات الصندوق البلدي المستقل عن عام  “2022، أن حصة 529 بلدية، أي ما يقارب نصف عدد بلديات لبنان، من عائدات الصندوق تقلّ عن 250 مليون ليرة لبنانية، ما يعادل نحو 2,778 دولاراً أميركياً، وفق سعر 89,950 ليرة للدولار الواحد.

في هذا السياق، قال رئيف يونان، رئيس بلدية مغدوشة، لـ”درج”، إن “البلدية، مثل معظم البلديات اللبنانية، تواجه تحديات كبيرة على صعيد التمويل والتحصيل الضريبي، إضافة إلى غياب القوانين الحديثة التي تمكّن البلديات من أداء واجباتها وتنفيذ خططها التنموية”. وأضاف يونان أن “الأزمة الاقتصادية أدت إلى شحّ الموارد وارتفاع معدلات التضخّم، ما أفقد المخصصات من الصندوق البلدي المستقل قيمتها الحقيقية. وتابع  يونان، “فقدت البلدية القدرة على التخطيط أو تنفيذ المشاريع المعتمدة سابقاً، ما انعكس سلباً على استمرارية العمل الإداري والتنموي في البلدة”.

في سياق الحديث عن الصندوق البلدي المستقل، يقول أندريه سليمان إن “الحديث عن أموال الصندوق أمر شائع ولكن ما قيمة هذه الحصة؟ خمسة آلاف دولار؟ عشرون ألفاً؟ خمسون ألفاً؟ ماذا يمكن أن تُنجز هذه المبالغ؟ بالكاد تُغطي رواتب موظفين اثنين أو ثلاثة لمدة عام”.  ويضيف: “يبدو أن البعض مرتاح لهذا الواقع، خشية أن يؤدي التغيير إلى زعزعة التوازن السياسي والمؤسساتي. فلتضعف البلديات، ولتُسحب منها الصلاحيات تدريجياً، ولتُحتكَر القرارات داخل الوزارات، حيث يُمثَّل الوزراء من الأحزاب والزعامات التي تستحوذ على ثروات الدولة ومفاصل السلطة. وهذا هو جوهر الأزمة”.

تضمّن البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام التزاماً بالعمل على تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة. 

يوضح المحامي نجيب فرحات في مقابلة مع “درج”، أن “اللامركزية الإدارية تُعدّ من الإصلاحات الأساسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، وتقوم على إنشاء مجالس محلية منتخبة على مستوى يتجاوز حدود البلدة أو المدينة، مثل الأقضية أو المحافظات، ما يفتح المجال أمام تخطيط إنمائي أكثر شمولاً وتوازناً”. وأشار الى أنه “على الرغم من طرح الكثير من المشاريع والاقتراحات المتعلقة باللامركزية منذ توقيع اتفاق الطائف، إلا أن أياً منها لم يُدرس بجدّية، ولم يصل إلى نتيجة ملموسة داخل مجلس النواب. “هذا المسار يواجه الكثير من المعوّقات، أبرزها الخوف السياسي من أن تتحوّل اللامركزية إلى شكل من أشكال الفيدرالية”، يقول فرحات.

لن تُحدث هذه الانتخابات فرقاً كبيراً، إذ لن تتمكّن البلديات بعددها ومواردها الحالية من إدارة العمل البلدي بفعالية. لكنها تبقى شرطاً أساسياً لاستمرارية العمل الدستوري والمؤسساتي. يحتاج القانون الحالي إلى طفرة تشريعية تشمل اللامركزية الإدارية والمالية، لتمكين البلديات من تنفيذ مشاريع تنموية حقيقية. كما يستدعي تعديلاً جذرياً يجعل من العمل البلدي مسؤولية مجتمعية لا مجرد نشاط عائلي. في هذا السياق، يؤكد أندريه سليمان لـ”درج” أنّ “القانون يجب أن يُلزم الرئيس ونائبه بالتفرغ التامّ لمهامّهما، ويشترط استقالتهما من أي منصب آخر تجنّباً لتضارب المصالح. كما ينبغي إلزامهما بالدوام الفعلي في مقر البلدية”. ويضيف سليمان: “لا يمكن إجراء هذه التعديلات بمعزل عن مراجعة شاملة لنظام التعويضات، إذ إن الرئيس حالياً يتقاضى فقط بدل تمثيل أو انتقال، وهو مبلغ لا يكفي لضمان تفرّغه الكامل”.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
07.05.2025
زمن القراءة: 10 minutes

يحكم العملَ البلدي في لبنان قانونٌ قديم لم يواكب التحولات التنموية عالمياً. ولا يتناسب قانون البلديات مع أهداف التنمية المستدامة التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2016. فبينما تُشدد هذه الأهداف على ضرورة بناء مجتمعات شاملة ومستقرة بحلول عام 2030، يظل الإطار القانوني البلدي عاجزاً عن توفير الأدوات المناسبة لذلك.

يا جبل ما يهزك ريح، لما بتوقف بتبيّن ولما بتقعد بتزيّن، الهيبة إلا رجالها، لا تليق إلا بك، الكل بيسمعلك: هيبة وأدب. بهذه الكلمات ترفع العائلات والأجبَاب، والقرى والأحياء، شعاراتها لدعم مرشح للانتخابات البلدية. لكن ما إن ينتهي الاستحقاق الانتخابي حتى ينكسر الوهم ويعود الناخبون إلى الحقيقة والواقع: لا مخطط تنموي ولا شبكة مياه نظيفة ولا معالجة لحرق النفايات في الهواء الطلق. بدلاً من ذلك يكتفي المجلس البلدي بترقيع جورة أو إقامة مطبات أو تقديم كيس ترابة لإسكات الناخبين.

تقرر إجراء الانتخابات البلدية بين 4 و25 أيار/ مايو 2025، لتكون أوّل استحقاق انتخابي على مستوى البلديات منذ عام 2016، بعدما تأجّلت ثلاث مرات متتالية. ففي عام 2022، تذرعت الحكومة بالصعوبات اللوجستية والتداخل مع الانتخابات النيابية لتأجيلها. وفي عام 2023، اتخذت الأزمة المالية ذريعة للتأجيل. ومدّد مجلس النواب في نيسان/ أبريل 2024 ولاية المجالس البلدية والاختيارية حتى أيار/ مايو 2025 تحت ذريعة “المخاوف الأمنية” الناجمة عن الحرب مع إسرائيل.

لطالما شهدت الانتخابات البلدية في لبنان تأخيرات متكرّرة. فقد أُجريت آخر انتخابات بلدية قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1964، ولم تُعقد الانتخابات التالية إلا عام 1998. ووفقاً للمركز اللبناني للدراسات، فقد أُجريت 6 انتخابات بلدية فقط خلال الـ72 سنة الماضية، على رغم أنه كان من المفترض تنظيم 13 دورة انتخابية منذ عام 1952 وحتى اليوم.

وقبل أيام قليلة من انطلاق العملية الانتخابية، كانت هناك محاولات لتأجيلها. فقد أُدرج على جدول أعمال جلسة مجلس النواب المنعقدة يوم الخميس 24 نيسان/ أبريل 2025، مشروع قانون يتيح تأجيل الانتخابات لمدة أربعة أشهر، بذريعة تعديل القوانين لاعتماد نظام اللائحة المقفلة. 

أول انتخابات منذ 9 سنوات

“على رغم أهمية إجراء الانتخابات البلدية باعتبارها استحقاقاً دستورياً وديمقراطياً، إلا أنني لا أتوقّع حدوث تغيير جذري في المشهد البلدي”، يقول أندريه سليمان، الخبير في مجال الحوكمة والسياسات العامة، في مقابلة مع موقع “درج”. غالباً، تجتمع العائلات لتوزيع المقاعد في المجلس البلدي في ما بينها، ثم تتشاور لاختيار الشخصيات التي تراها مناسبة لشغلها. وهكذا تُخاض الانتخابات البلدية على قاعدة “بدنا مرشح من كل عيلة”، ما يُكرّس مبدأ المحاصصة العائلية على حساب التنافس الفعلي حول مشاريع بلدية أو خطط إنمائية واضحة. 

وعلى رغم انطلاق الاستحقاق الدستوري، لا تزال هناك لوائح غير مكتملة في عدد من القرى والبلدات اللبنانية. في هذا السياق، يقول سليمان إن “عامل الوقت لا يسمح بتشكيل لوائح خارج الاصطفافات التقليدية، سواء كانت سياسية أو عائلية. وهذا يصب في مصلحة العائلات التي تتمكّن من الدفع بمرشح من كل بيت وتشكيل لائحة بسرعة، كما تستفيد منه الأحزاب أيضاً، حتى وإن لم تكن تسيطر بالكامل على اللعبة البلدية، فهي تضمن على الأقل وجود تمثيل لها ضمن لوائح محسوبة عليها”.

“أنا بصوّت ضد لائحة ابن عمي”، و”أنا رايحة صوّت لأنو خالتي مرشحة”، عبارات تختصر مشهد الانتخابات البلدية في القرى اللبنانية. مرة كل 6 سنوات، يتحوّل المواطن من مُطالب بخطط ومشاريع تنموية في بلدته إلى ناخب تحكمه الاعتبارات العائلية والشخصية، فتُخاض الانتخابات على قاعدة الولاءات العائلية لا البرامج الإنمائية، وبالتالي تفتقد العملية الانتخابية معناها كأداة للمحاسبة والتغيير. 

يعيد النظام الانتخابي إنتاج الفشل في المجالس البلدية، بحيث ينص على اقتراع الناخبين في مكان القيد بدلاً من مكان السكن. وغالباً ما تنتج الولاءات مجالس بلدية فاشلة يرأسها “وجهاء القرى”، فتتحوّل البلديات من مجالس محلّية تُعنى بالخدمة العامة إلى عمل عائلي أو Family Business يدار لحساب الأحباء والأقرباء. في هذا السياق، يقول أندريه سليمان إن “الانتخابات هي الأساس، وعندما ينتخب أعضاء المجلس البلدي فقط بسبب صلة القرابة أو تجنباً لإغضاب بعض الأطراف، فمن الطبيعي أن يكون المجلس بلا قدرة حقيقية على التعامل مع الشأن الإنمائي”.

نصوص قديمة وحاجات جديدة

يحكم العملَ البلدي في لبنان قانونٌ قديم لم يواكب التحولات التنموية عالمياً. ولا يتناسب قانون البلديات مع أهداف التنمية المستدامة التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2016. فبينما تُشدد هذه الأهداف على ضرورة بناء مجتمعات شاملة ومستقرة بحلول عام 2030، يظل الإطار القانوني البلدي عاجزاً عن توفير الأدوات المناسبة لذلك.

وفقاً للأمم المتحدة، فإن “المشاركة النشطة للشباب في جهود التنمية المستدامة تُعَدُّ أمراً أساسياً لتحقيق مجتمعات مستدامة وشاملة ومستقرة بحلول عام 2030”. في هذا السياق، أشار الناشط قصي خالد من بلدة عكار العتيقة لموقع “درج”، إلى أن مشاركة الشباب كان لها أثر إيجابي في قريته، إذ ساعدوا البلدية في تعبئة الاستمارات للمشاريع التنموية وتوعية أبناء البلدة على أهمية الفرز من المصدر، والمساهمة في دفع الرسوم  لمعالجة ملف النفايات بطريقة سليمة وبيئية ومستدامة. “اقترحنا على رئيس البلدية إنشاء صندوق مخصص لجمع رسوم معالجة النفايات، بحيث يُطلب من المنازل دفع دولارين أميركيين، بينما تُفرض رسوم تتراوح بين 5 إلى 6 دولارات على المؤسسات التجارية وفقاً لحجمها”، بحسب ما قال خالد. 

وأوضح الناشط قصي خالد لـ “درج” إن المعايير العائلية والفعاليات تُهيمن على انتخابات البلدية. وأضاف: “بمجرد ترشح أحد الشباب لرئاسة البلدية، علت الأصوات المعارضة لترشيحه على أساس أن عائلته لم تتبنَّ ترشيحه رسمياً”. يقول أندريه سليمان، الخبير في مجال الحوكمة والسياسات العامة، إن “غياب الشباب عن المجالس البلدية ناتج من سلوك انتخابي سائد في القرى، حيث يتم اختيار ممثل العائلة من كبار السن، باعتباره الشخص ‘القادر على التواصل مع الجميع’ وصاحب العلاقات الأوسع”. ويتابع سليمان: “هذه المقاربة تغلّب الاعتبارات التقليدية على معايير الكفاءة، وبالتالي تقصي فئة الشباب وتبعدهم عن مواقع القرار”.

إلى جانب تفعيل دور الشباب في العمل البلدي، تبرز أهمية إشراك المرأة أيضاً، لكن تواجهها تحديات قانونية وجندرية. تقدمت جمعية “فيفتي فيفتي” باقتراح قانون يرمي إلى تحقيق المناصفة الجندرية في المجالس البلدية من خلال تعديل بعض مواد القانون رقم 665/1997 ولكن تعذر إقراره. في هذا السياق وجدت الجمعية إن الحل هو إتفاقية سلمة-سوا للمساواة، وهي التزام معنوي لدعم وإيصال 30 في المئة من النساء على الأقل إلى المجالس البلدية والاختيارية. المحامي نجيب فرحات قال لـ “درج” إنه “يجب أن تكون هناك كوتا جندرية في البلديات وهناك إقتراح قانون مقدّم من النائبين بولا يعقوبيان وياسين ياسين، يفرض وجود كوتا بنسبة 50 في المئة لكلَي الجنسين وكوتا لذوي الاحتياجات الإضافية بمقدار عضوين على الأقل في كل بلدية”.

تقول علوم عودة، رئيسة جمعية “حقي أورث” والمرشحة للانتخابات البلدية في قرية الخضر- قضاء بعلبك، في مقابلة مع “درج”، إن ترشيحها كامرأة لا يشكّل عائقاً؛ فهي ناشطة في الشأن العام، لا سيما في قضايا حقّ المرأة في الإرث.  وتشير إلى أن قرية الخضر كانت من أكثر القرى تضرراً في الحرب الأخيرة، مضيفةً : “في حال فوزي بعضوية المجلس البلدي، سأعمل على تفعيل اللجان وإشراك المرأة والشباب، في جميع جوانب العمل البلدي لضمان مشاركة فعّالة وشاملة”.  وتختتم: “لديّ برنامج متكامل للنظافة عبر فرز النفايات من المصدر والتسبيخ”.

انتخابات على الأنقاض

تواجه البلديات اللبنانية الجنوبية والبقاعية خصوصاً، تحديات تقنية ولوجستية غير مسبوقة لناحية تنظيم الانتخابات البلدية نتيجة للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تضررت مباني البلديات واتحادات البلديات أثناء الحرب بمستويات مختلفة،  فقد وصل عدد المباني التي دُمرت جزئياً إلى 75 مبنى، بينما بلغ عدد المباني التي تضررت كلياً 11 مبنى. 

سبق وأن طُرح موضوع الميغاسنتر كتوجّه إصلاحي لكنه محكوم أيضاً بالقانون الانتخابي. وتقدم النائبان مارك ضو ووضاح الصادق باقتراح قانون يرمي إلى “إنشاء منصة إلكترونية لتسجيل الراغبين في التصويت في مدن وبلدات خارج القرى المدمرة كلياً أو جزئياً ومحددة من وزارة الداخلية بمعدل مركزين أو أكثر في كل قضاء”. وعلى الرغم من وجود 37 قرية جنوبية مدمرة بالكامل ما يعيق حصول العملية الانتخابية، لم يتم إقرار هذا القانون. ورداً على اقتراحات تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري “إن أمكن وضع أقلام الاقتراع فيها فليكن، وإذا ما تعذّر ذلك سنضع أقلام الاقتراع في أماكن أخرى، حتى في بناية في بلدة قريبة، أو في شقة أو غرفة… سننتخب حتى ولو كان على التراب”.  ويقول أندريه سليمان “لا تُجرى الانتخابات في خيام، فهي لا تستوفي شروط النزاهة والاستقلالية والشفافية، إذ لا يمكن ضبط دخول الناخبين أو معرفة من يتحرّك خلف الستائر. لذا يُفضّل إقامة مراكز اقتراع ثابتة في مناطق آمنة”. 

تتجه الأنظار إلى انتخابات الجنوب، أولاً لأنها الاستحقاق الأول بعد ثورة 17 تشرين التي عبّرت عن نقمة واسعة ضد الثنائي الشيعي، وثانياً بسبب التحديات التنموية التي فرضتها الحرب الأخيرة. “ما نشهده اليوم هو نتيجة لسلسلة من الفشل المستدام وتراكم الأزمات على مدى أكثر من 27 عاماً، سيطر فيها ولا يزال الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) على بلديات الجنوب”، يقول علي بدر الدين، المرشح لعضوية المجلس البلدي في مدينة النبطية.

يشرح بدر الدين أن “القرارات الخاطئة والخلافات السياسية بين حركة أمل وحزب الله أدّت باستمرار إلى تعطيل العمل البلدي”، متابعاً أن “تشكيل مجلس بلدي مستقل وقادر على التواصل مع المجتمع الدولي قد يساهم في جذب الدعم لتنفيذ مشاريع تنموية”. ويؤكد أن “مدينة النبطية، بما تملكه من سوق تجاري نشط يؤمّن عائدات من الضرائب والمستحقات، تمتلك الموارد المالية الكافية للانطلاق في مسار إصلاحي جاد لتحقيق المنفعة العامة وتعزيز الإنماء المتوازن في مختلف أحياء المدينة”. ويضيف: “القرى الجنوبية اليوم بأمسّ الحاجة إلى خطة إنمائية شاملة، بعد سنوات من الصراع على النفوذ والسيطرة”، واصفاً الواقع بالقول: “نحن ما عنا قانون، عنا تلفون”.

استحقاق دستوري وديمقراطي محكوم بالفشل

مع انتهاء العملية الانتخابية في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، ينطلق العمل البلدي مجدداً لكنه محكوم بقانون عمره نصف قرن. ومن أبرز التحديات التي أنتجها هذا القانون آلية إنشاء البلديات. “بحسب القانون، تُنشَأ البلديات بقرار من وزير الداخليّة والبلديات، من دون أن يُحدّد صراحةً عدد سكّان البلدة اللازم لإنشائها. إلّا أنّ المادة 24 أشارت إلى أنَّ المجلس البلدي يتألّف من تسعة أعضاء للبلديات التي يقل عدد سكّانها عن 2000 شخص، أي إنّ القانون سمح بإنشاء بلديات في هذه الحالات”، بحسب ما قال المحامي نجيب فرحات لموقع “درج”.

يعاني لبنان من تضخّم في عدد البلديات التي وصل عددها إلى 1064 بلدية، ما يعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ووفقاً لـ “الدولية للمعلومات”، فإن ما يقارب نصف هذه البلديات يعاني من شلل إداري، إذ إن 640 بلدية لديها رئيس وأعضاء مجلس بلدي لكنها لا تعقد اجتماعات، كما توجد 125 بلدية أصبحت منحلّة، أي أنها تحت الإدارة المباشرة للمحافظ أوالقائمقام. 

وقالت الدولية للمعلومات إنه “بالإضافة إلى الوضع المادي، فإن الشأن الجغرافي والخدماتي وعدد السكان يحتّمان دمج البلديّات بحيث يزداد دخلها وتشترك بالكهرباء والمياه والطرقات والمدارس والتنظيم المدني رؤيةً وموازنات. وهذا يستدعي أيضاً اعتماد النظام النسبي في الانتخابات البلديّة وتحديد سقف إنفاق، أي إننا بحاجة الى قانون بلدي جديد”.

وبحسب “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية”، فإن دمج البلديات في دول مجاورة مثل الأردن، الذي تقلص فيه عدد البلديات من 328 إلى 100 بلدية، ساهم في تعزيز الكفاءة وتخفيف الأعباء المالية. وفي هذا السياق، أوضح أندريه سليمان لـ “درج”  إنه “يمكن الحدّ من عدد البلديات من خلال اعتماد سياسة الدمج، كما هو معمول به في عدد من الدول، وذلك استناداً إلى معايير الجوار والتواصل الجغرافي”. وأضاف أن “العمل ضمن نطاق بلدي أوسع يُنظَّم عادة على أساس برامج إنمائية واضحة، وليس وفق اعتبارات ضيّقة”. 

اللامركزية الإدارية والمالية

تُجمع حصص البلديات من الضرائب والرسوم في مصرف لبنان ضمن ما يُعرف بـ “الصندوق البلدي المستقل”. لكن وفقاً للمحامي نجيب فرحات، “تُشكّل آلية التوزيع والإجراءات الإدارية، لا سيما اشتراط صدور مرسوم حكومي، عائقاً كبيراً أمام استفادة البلديات من هذه الأموال”.

وكشفت دراسة “الدولية للمعلومات”، المستندة إلى الأرقام الواردة في المرسوم رقم 14492 الصادر بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر، “توزيع عائدات الصندوق البلدي المستقل عن عام  “2022، أن حصة 529 بلدية، أي ما يقارب نصف عدد بلديات لبنان، من عائدات الصندوق تقلّ عن 250 مليون ليرة لبنانية، ما يعادل نحو 2,778 دولاراً أميركياً، وفق سعر 89,950 ليرة للدولار الواحد.

في هذا السياق، قال رئيف يونان، رئيس بلدية مغدوشة، لـ”درج”، إن “البلدية، مثل معظم البلديات اللبنانية، تواجه تحديات كبيرة على صعيد التمويل والتحصيل الضريبي، إضافة إلى غياب القوانين الحديثة التي تمكّن البلديات من أداء واجباتها وتنفيذ خططها التنموية”. وأضاف يونان أن “الأزمة الاقتصادية أدت إلى شحّ الموارد وارتفاع معدلات التضخّم، ما أفقد المخصصات من الصندوق البلدي المستقل قيمتها الحقيقية. وتابع  يونان، “فقدت البلدية القدرة على التخطيط أو تنفيذ المشاريع المعتمدة سابقاً، ما انعكس سلباً على استمرارية العمل الإداري والتنموي في البلدة”.

في سياق الحديث عن الصندوق البلدي المستقل، يقول أندريه سليمان إن “الحديث عن أموال الصندوق أمر شائع ولكن ما قيمة هذه الحصة؟ خمسة آلاف دولار؟ عشرون ألفاً؟ خمسون ألفاً؟ ماذا يمكن أن تُنجز هذه المبالغ؟ بالكاد تُغطي رواتب موظفين اثنين أو ثلاثة لمدة عام”.  ويضيف: “يبدو أن البعض مرتاح لهذا الواقع، خشية أن يؤدي التغيير إلى زعزعة التوازن السياسي والمؤسساتي. فلتضعف البلديات، ولتُسحب منها الصلاحيات تدريجياً، ولتُحتكَر القرارات داخل الوزارات، حيث يُمثَّل الوزراء من الأحزاب والزعامات التي تستحوذ على ثروات الدولة ومفاصل السلطة. وهذا هو جوهر الأزمة”.

تضمّن البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام التزاماً بالعمل على تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة. 

يوضح المحامي نجيب فرحات في مقابلة مع “درج”، أن “اللامركزية الإدارية تُعدّ من الإصلاحات الأساسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، وتقوم على إنشاء مجالس محلية منتخبة على مستوى يتجاوز حدود البلدة أو المدينة، مثل الأقضية أو المحافظات، ما يفتح المجال أمام تخطيط إنمائي أكثر شمولاً وتوازناً”. وأشار الى أنه “على الرغم من طرح الكثير من المشاريع والاقتراحات المتعلقة باللامركزية منذ توقيع اتفاق الطائف، إلا أن أياً منها لم يُدرس بجدّية، ولم يصل إلى نتيجة ملموسة داخل مجلس النواب. “هذا المسار يواجه الكثير من المعوّقات، أبرزها الخوف السياسي من أن تتحوّل اللامركزية إلى شكل من أشكال الفيدرالية”، يقول فرحات.

لن تُحدث هذه الانتخابات فرقاً كبيراً، إذ لن تتمكّن البلديات بعددها ومواردها الحالية من إدارة العمل البلدي بفعالية. لكنها تبقى شرطاً أساسياً لاستمرارية العمل الدستوري والمؤسساتي. يحتاج القانون الحالي إلى طفرة تشريعية تشمل اللامركزية الإدارية والمالية، لتمكين البلديات من تنفيذ مشاريع تنموية حقيقية. كما يستدعي تعديلاً جذرياً يجعل من العمل البلدي مسؤولية مجتمعية لا مجرد نشاط عائلي. في هذا السياق، يؤكد أندريه سليمان لـ”درج” أنّ “القانون يجب أن يُلزم الرئيس ونائبه بالتفرغ التامّ لمهامّهما، ويشترط استقالتهما من أي منصب آخر تجنّباً لتضارب المصالح. كما ينبغي إلزامهما بالدوام الفعلي في مقر البلدية”. ويضيف سليمان: “لا يمكن إجراء هذه التعديلات بمعزل عن مراجعة شاملة لنظام التعويضات، إذ إن الرئيس حالياً يتقاضى فقط بدل تمثيل أو انتقال، وهو مبلغ لا يكفي لضمان تفرّغه الكامل”.

07.05.2025
زمن القراءة: 10 minutes
|
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية